في تغييب الإسلام والشريعة من بيان حزب الأمة
ushari@outlook.com
ربما كان بيان حزب الأمة القومي الذي صدر أمس أقوى وثيقة تصدر من الحزب في تاريخه، ليس فقط بسبب قوة الموقف المعبر عنه وملائمته للمرحلة الراهنة والوضوح في العبارات، وإنما بسبب تغييب موضوع الإسلام والشريعة من البيان. وهنالك الحديث الأكثر معقولية من الصادق المهدي عن "دور الإسلام في الحياة العامة في الحياة المعاصرة" بديلا للحديث عن الدين في الدولة وعن الشريعة.
فهذا ما أراه:
أولا،
الأغلبية الساحقة من السودانيين مسلمون، وللإسلام دور محوري في هويتهم وفي الطريقة التي يعيشون بها حياتهم، لكن علاقة السودانيين المسلمين بالإسلام كدين تتباين من شخص إلى آخر، من حيث العقيدة فيما يتعلق بتفسير القرآن وتأويله، ومن حيث أداء الشعائر، ودرجة الالتزام أو التدين، ومن حيث الموقف السياسي إزاء علاقة الإسلام بالدولة، وأيضا من حيث الموقف الفكري من صدقية النبوة ذاتها دون أن يكون لهذا الموقف الفكري أثر ذو أهمية في تكييف هذا المسلم علاقته بمواطني بلده المسلمين. ولا وصاية لأحد على آخر بشأن الدين.
ثانيا،
من الخطل اعتماد الإسلام إطارا للدولة، أو جعل الإسلام دين الدولة، أو فرض دستور ديني يخدعنا بفصل السلطات وبمحكمة دستورية تجلس فيها مثل بدرية سليمان قطَّاعة الأطراف معذِّبة النساء بالجلد لا يتجاوز فقهها الدستوري المغالطة حول تكييف "الشروع في الزنا" كيف يكون، وكذا الخدع بقضاة إسلاميين فاسدين سيفسرون الدستور بالغش، ومن ثم يدخل السودان في دوامة خمسين عاما إضافية يسيطر فيها الجدل والدجل حول دور الدين في الدولة: كيف تكون القوانين متسقة مع الشريعة، الشريعة مصدر التشريع، المصدر الأساس للتشريع، لزوم عدم سن قانون إلا إذا كان متسقا مع الشريعة، تنقية القوانين، وهكذا.
كلام فارغ، استبان خواؤه من أي معنى أو قيمة، وهو كلام في فراغه مُدمِّر، فأوصلنا إلى ما نحن عليه اليوم.
لكن هذا الكلام الفارغ هو ما يعده لنا مجددا الإسلاميون بعباراتهم المدسوسة في الأوراق مثل وثيقة أمبيكي بالرشوة، مخرجات الحوار ستكون الأساس للدستور، الدستور يسمونه الآن احتيالا "الدستور القومي"، وهو ذاته الدستور الإسلامي المقترح في الستينات قبل أن يجهضه النميري بانقلاب عسكري، يعده في غرفة مظلمة إسلاميون حذقوا الغش، سيأتون به مغلفا بالدسترة الكاذبة، وبلغة الاستهبال عن حقوق الإنسان، وعن المراجعة القضائية، وبقية الأكاذيب المعروفة. فلا تسمعن الإسلاميين يتحدثون لك عن الدستور إلا وتعيَّن عليك أن تستعين عليهم بفطاحلة الفقه الدستوري ليبينوا لك مظان الخدع الإسلامية التي أزلقوها في لغة مسودة الدستور.
يدرك الإسلاميون أنه بعد الزوال الحتمي لسلطة جهاز الأمن وحرمانه من التخويل لاستخدام التعذيب ولكتم الحريات، سيتم الفصل في النزاعات المستقبلية حول السياسات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في ساحة القضاء، وفي المحكمة الدستورية، ولذا فهم اجتمعوا في السر وأعدوا خططهم، سيزلقون في نص مسودة الدستور اللغة التي ستتيح للقضاة الفاسدين تفسير المواد لصالح الإسلاميين، وسيستخدمون الرشوة والخداع والبلطجة لفرض الدستور الجديد. أكثر من خمسين عاما في خدعهم السودانيين كافية لنعرف طريقة الإسلاميين.
ثالثا،
ظل الإسلام في السودان مصدر شقاء وتعاسة لملايين السودانيين المسلمين وغير المسلمين، وبسببه اعتمد أهل الجنوب وضعيتهم على أنها استعمار إسلامي فوق كونه عربي، فصوتوا جميعهم دون استثناء للاستقلال. مصدر تعاسة، ليس بالضرورة لسبب في الإسلام كدين يفاوضه المسلم بطريقته دون معقب عليه من أحد، وإنما بالدرجة الأولى بسبب إسلاميين جاءوا بانقلاب عسكري، واحتالوا بهذا الدين الإسلام لتحقيق مصالحهم كطبقة دينية سياسية على حساب بقية المواطنين، فاستعمروا الفضاء الاجتماعي العام بخطاب الإقصاء والعنصرية والدستور الإسلامي وشرع الله، وفرضوا بالخداع وبالفساد والجريمة هيمنتهم الإسلامية.
رابعا،
تتمثل القضايا المطروحة في بيان حزب الأمة مشكلات السودان الجوهرية، جميعها مشكلات حياتية تتعلق بمقتضيات البقاء ذاته، بالمعيشة، وبمطلب الخلاص من عذاب الإسلاميين، وبمطلب السعادة في الحريات، وهي مشكلات عملية بالدرجة الأولى. كلها خلقها الإسلاميون الطغاة الذين أفسدوا الحياة ذاتها وأثبتوا لأهل السودان أن الشطن حقيقة مادية تسري تمشي على رجلين كلما طالعت إسلاميا من أهل الإنقاذ.
خامسا،
يأتي أهل السودان إلى حل المشكلات المثارة في البيان وهم يحملون في دواخلهم إسلامهم، أيا كانت طبيعته أو حقيقته، وهم يأتون باللغة العربية بتعبيراتها أحيانا من النص القرآني، ويأتون بأدائيات الدين الإسلام، وأحيانا تكون أطر التفكير ذاتها متأثرة بالإسلام كدين، وهنالك سودانيون على أقليتهم يأتون يحملون في دواخلهم دياناتهم يريدون الخير للمسلمين.
لكن، لا يوجد في الإسلام أي حل لأية واحدة من المشكلات التي ورد ذكرها في البيان. قد يكون الدين الإسلام بعدا اجتماعيا لبعض منها، وقد يكون مكوِّنا صغيرا غير ذي بال في حل بعضها، لكنه لا يحكم أيا من هذه المشكلات ولا يعرِّفُها، ولا يحدد كيفية مقاربتها، ولا يقدم علما ولا معرفة ولا أخلاقيات حصرية عنده لحلها.
فأنت لا تحتاج لفتح كتب حسن الترابي عن التفسير التوحيدي، ولا تحتاج للتفكير في تفسير القرآن بأية طريقة، لكي تجد حلا لأية واحدة من مشكلات السودان الراهنة المذكورة في البيان، أو حتى مددا وجدانيا ذا علاقة يعينك على مقاربة حلول لهذه المشكلات.
باختصار، أنت لا تحتاج لشخص يأتيك وقد عطل تفكيره وقمع دواعي الرحمة في دماغه، همه المحافظة على الأرصدة التي نهبها أو الوظيفة التي تحصل عليها بالتمكين الإسلامي، عيناه زائغتان باله مشغول باحتمالية قطع رأس أمير المؤمنين يوما في لاهاي، كل ما عنده هذا الإسلامي لحل المشكلة لا يتجاوز إسلاميته، وقد ثبت للسودانيين على مدى ربع قرن ويزيد من التجاريب أن الإسلامية التي يعتمدها الإسلاميون في الإنقاذ أيديولوجية شريرة تؤطر لممارسات فاسدة تعتمد بالضرورة على العنف والقهر وإرهاب الدولة لحمايتها. دارفور.
سادسا،
فما فائدة التفسير التوحيدي على طريقة حسن الترابي لحل المشكلة المحورية التي وردت في البيان، "إعادة توطين النازحين واللاجئين"، على سبيل المثال؟
فقد قضى الترابي آخر سني حياته يخدع شباب الإسلاميين أن بإمكانهم الاجتهاد بقراءة تجديدية لسورة البقرة بحثا عن حلول للمشكلات المعاصرة، ولا يوجد كلام أفرغ من مثل هذا الكلام، وأنت لن تسمع مجددا عن التفسير التوحيدي وقد مات الشيخ. سينفض السمار من الليالي القمرية، ولن يجد الشباب حافزا لمواصلة مشروع لابد اكتشفوا عدم جدواه إلا في تحسين اللغة العربية.
استغل الترابي قلة معرفة الشباب الإسلاميين بعد أن أعملت فيهم الجامعات تجهيلا، وزرع في أدمغتهم أن أكثر المعرفة العالمية موجودة في سورة البقرة، فقضى الشباب عامين كاملين يعيدون قراءة هذه السورة في مدارسات لاعقلانية بحثا عن معانيها قالوا، علهم يجدون حلولا للمشكلات المعاصرة في السودان وفي العالم!
لاعقلانية، لأن الترابي حصر الشباب في دائرة تفكير ضيق، حتى لا يطلقوا العنان للعقل ليذهب خارج أطر عقدية حددها لهم، بينما يميل كل اجتهاد بالعقل لإخضاع النبوة ذاتها للتسآل، وربما وجد الشباب في ذلك التسآل مظان أعمق للإيمان. لكن الشيخ لم يثق في الشباب، فقيد الاجتهاد بخطوط حمراء رسمها لعقولهم ليبدأوا بالمسلمات الضرورية عنده، نبوة محمد التي بدونها لا مشروعية لدولة إسلامية.
سابعا،
فلكي تحل مشكلة إعادة توطين النازحين واللاجئين، ربما أكبر مشروع في السودان بعد نهاية الحرب، أنت لا تحتاج عقيدة الإسلامية، ولا عقيدة الإسلام ذاته. لأن الحل مشدود إلى تكنولوجيا متكاملة وكافية ذات أطر أخلاقية في الإنسانوية، طورها ملحدون في الأمم المتحدة والمنظمات الطوعية من الدول الأوربية، معهم كفار من كل بقاع الأرض، ومعهم مسلمون ومسيحيون ويهود وهندوسيون وغيرهم.
وهي تكنولوجيا ذات نماذج وخطط خلاقة لحل المشكلات العملية في المجال الإنساني، لا ترد فيها كلمة الإسلام أو الدين، بل فلسفتها قائمة على الحياد إزاء الدين وعلى استبعاد الدين من تصميم التدخل الإنساني، وعلى المستوى الأخلاقي نجد أن أساس هذه التكنولوجيا يتمثل في الرحمة والمناصرة ولزوم تقديم الحماية للمستضعفين ليقفوا على أرجلهم وليعيدوا تركيب حياتهم، فلا يمكن للإسلامي أو المسلم أن يدعي أن هذه الأخلاق حكر له هو، فقط لأنه مسلم، أو أن يدعي أنها أخلاقيات لا تأتي إلا بالإسلام.
ثامنا،
قالت لي البرلمانية السويدية الشابة، وهي ملحدة، بعد محاضرة قدمتها في جامعة واشنطون، إن همهم الأساس في البرلمان السويدي اليوم بشأن اللاجئين من الشرق الأوسط ومن شمال أفريقيا هو ضمان بناء سبعمائة ألف شقة لهؤلاء اللاجئين خلال عامين أو ثلاثة أعواما، "هذه هي المشكلة الوحيدة التي نفكر في حلها الآن".
فالثابت هم أن الإسلاميين عاجزون عن مثل هذا التفكير الأخلاقي عند السويديين الملحدين بصورة عامة، وسيظل الإسلاميون في حالة إنكار أن ملايين المسلمين في دار فور الذين تم استهدافهم من قبل الإسلاميين بالإبادة الجماعية لابد فكروا في سرهم أو أفصحوا في جهرهم والله لو كان الدين الإسلام، كممارسة حياتية، هو ما فعله هؤلاء الإسلاميون بنا في دارفور، دا طرفنا منو!
فما الإسلام من منظور المستهدفين بالابتلاء، عبارة الترابي المفضلة، إلا ما تم استهدافهم به من سياسات إسلامية جاء بها إسلاميون، سيان أكان هؤلاء الإسلاميون من الطالبان أم بوكو حرام أم أهل الإنقاذ أم داعش.
أما الذين لم يسبب لهم "الإسلام دين ودولة" إلا التمكين والرخص التجارية وفرص النهب والسماح والملاطفات وتعالوا سوا إلى المنظومة الخالفة، أو هم يريدون دورهم في استغلال الإسلام، فبمقدورهم بالطبع التنظير لإسلام آخر، موديل جديد، غير إسلام الإنقاذ، واحد يدَّعون له شريعة إنسانية رحيمة وحقوق إنسان وبقية الكلامات.
...
هكذا قرأت غياب الحديث عن الإسلام والشريعة من بيان حزب الأمة، آمل في أن يصب في مقاربة الحزب لحيادية الدولة السودانية إزاء الدين، دائما مع احترام كل دين يختاره شخص، واحترام عقيدة من لا يعتقد في الدين.
وأرى الخير لحزب الأمة أن يسير في هذا الاتجاه لفصل الدين عن الدولة، حتى ونحن ندرك أن الفصل بينهما لا يكون قطعيا، بعلة حتمية التداخل بين الدين والحياة المجتمعية وانسراب ذلك التداخل ليدق أبواب السياسة.
عشاري أحمد محمود خليل
ushari@outlook.com
30 مارس 2016