في ذكرى الأستاذ محمود: ربعُ قرنٍ منذ القتل بسبب الفكر! (1) … بقلم: د. النور حمد

 


 

د. النور حمد
12 January, 2010

 

elnourh@gmail.com

        كل صورةٍ، أو مشهدٍ، أو قضيةٍ ما، يمكن أن تتم رؤيتها من أكثر من زاوية! ورغم أن تقرير مثل هذه الحقيقية قد يبدو ضرباً من تقرير ما يدخل في باب البداهة، إلا أن شواهد التجربة الإنسانية تقول بخلاف ذلك! فالإنسان، من حيث هو، كثيراً ما ينحبس في قمقم رؤية الأمور من زاويةٍ واحدة. فاللحظات التي تتسع فيها رؤيتنا، وتنجاب فيها عن ناظرينا غشاوات الرؤية من زاوية واحدة، أو ما يسمى بالرؤية داخل النفق، ليست كثيرة! مبعث هذه الخاطرة هو التساؤل الذي لم يفارقني، منذ حادثة إعدام الأستاذ محمود محمد طه، في العام 1985. إذ ظللت أسائل نفسي، وباستمرار، كيف حدث هذا الأمر الذي خرج على كل مألوفٍ، وكل معقولية؟! ولماذا حدث ذلك الأمرُ البالغ الشذوذ في السودان، دون غيره من سائر أقطار الأرض؟! فلا شيء ينتج من لا شيء! لابد أن في بنية وعينا وفي إرث ماضينا، شيءٌ ما، قاد إلى هذه الحادثة البالغة الغرابة!

 

        عبَّر عن شذوذ حادثة إعدام الأستاذ محمود محمد طه، وغرابتها مقارنةً بالزمن الذي تمت فيه، عدد من الكتاب. وبالفعل، فقد كانت تلك الحادثةُ حادثةً بالغة الغرابة! فهي قد بدت لي، ولكثيرين غيري، وكأنها فصلٌ من فصول ماضي البشرية السحيق، اندفع فجأة من موقعه ذاك البعيد، في شعاب وغياهب التاريخ، ليبرز، فجأةً، وبلا مقدماتٍ، ليحتل حيزاً في الحاضر. ففي ما يشبه الكابوس، جاء ذلك الشيء من الماضي،  وخلق لنفسه في الحاضر مسرحاً ماضوياً، ومزاجاً ماضوياً، وغيهباً ماضوياً مؤقتاً، تم فيه إعدام مفكرٍ أعزلٍ شنقاً، على رؤوس الأشهاد! ثم أُُسدل الستار، وتراجعت تلك الحالة، بسرعةٍ مذهلةٍ، إلى مقعدها الذي جاءت منه في شعاب التاريخ، وعادت الأمور إلى ما كانت عليه، أو إلى ما بدا لنا شبيهاً بما كانت عليه. وهكذا اختلط، ما هو من طبيعة كوابيس الرؤى المنامية، بما هو من طبيعة الواقع، والعكس بالعكس. وكما يقول الفيتوري: ((والجاهل من ظن الأشياءَ هي الأشياء))!

        سمعت الأستاذ محمود، في واحدة من تلك الجلسات التي كانت تتم إتفاقاً، ساعة الضحى، في غرفته الصومعة، المُعْتِمَة، العَبِقَة بعَرْفِ اللُّبان، وعَرْفِ الروح، وهو يقول، بلا مقدمات: ((الحياة دي حلمة طوووويلة))!! وإنها لكذلك لدى المبصرين، وما أقلهم!! هي ليست في حقيقتها سوى حالةٍ عارضةٍ، كالحلم القصير، الذي سرعان ما يصحو منه صاحبه، عائدا إلى السباحة في مجرى ذلك السديمٍ السرمدي القديم! كنا كثيراً ما نكون جالسين في غرفته ونحن صامتين. وكان يحثنا على ممارسة الصمت، ويحضنا على استجماع النفس، وسحبها من جلبة الخارج، ويدعونا إلى محاولة الانحصار، وإكثار النظر إلى الداخل. في مثل تلك الجلسات يتكثف الصمت أحياناً، حتى أن المرء ليحس وكأنه يسمع دقات قلب الكون.

        لم أر في حياتي إنساناً، يقظاً، منتبهاً كالأستاذ محمود. كان حاضراً في لحظته القائمة بين يديه، حضوراً محيِّراً. فالذي كتبه في كتبه الرئيسة عن عيش اللحظة الحاضرة، ودعوته إلى عدم التشتت بين قوى الماضي والمستقبل التي توزع الذهن، لم يكن وعظاً يهرف به اللسان، وإنما كان أمراً متحققاً مُعاشاً لديه، لحظةً، بلحظة. إلتقيت ذات مرة، بشخصٍ اسمه عبد العزيز، عرفت منه أنه من أبناء قرية الطالباب، بالجزيرة وللأسف، فإننني نسيت اسمه الكامل. تم لقائي به عن طريق بعض الأصدقاء في مدينة الرياض، في المملكة العربية السعودية، في العام 2003م. حدثنا عبد العزيز عن تجربةٍ اتفقت له مع الأستاذ محمود، ذاكراً أنه كان من ضمن من حضروا محكمة المهلاوي، التي أصدرت الحكم بإعدامه، بمجمع المحاكم الواقع بجوار بلدية أمدرمان. ذكر عبد العزيز أنه خرج من المحكمة مذهولاً، ومستاءً، وغاضباًً، وكان بعض الخارجين من قاعة المحكمة من الجمهور الذي حضر فَرِحون بما تم، وبعضهم الآخر مذهولون، غاضبون، مثله. قال عبد العزيز إنه وجد نفسه، حين خرج إلى الساحة الخارجية، وبمحض الصدفة، إلى جوار سيارة الشرطة التي كانت تقل الأستاذ محمود من المحكمة، إلى سجن كوبر، لتضعه هناك مع منتظري التنفيذ. قال إن الأستاذ محمود كان يجلس في مقعد السيارة الخلفي، مما يلي نافذتها المفتوحة. ونسبة للزحام الشديد في ساحة المحكمة، فقد تعذر على السيارة المرور وبقيت متوقفةً، في انتظار أن يخف الزحام لتمر. في تلك اللحظة وجد عبد العزيز نفسه، وجهاً لوجه أمام الأستاذ محمود، فمد يده إليه، وهو حزينٌ، كسير الخاطر، كما أخبر عن نفسه. قال عبد العزيز: لم أعرف حين وقفت أمامه بجانب السيارة، ماذا أقول له، أو كيف أعزيه، فالموقف يتطلب عبارات للمواساة من نوع ما، لم تتيسر لي صياغتها، لحظتها. المهم، مددت يدي إليه، وأنا أهمهم بحديث غير مفهوم، ورأسي تمور بالهواجس، وبالغضب، وبالإحباط. غير أن الأستاذ محمود شدَّ علي يدي الممدودة، وكان مبتسماً، هاشاً، وسألني بعد إكمال عبارات التحية قائلاً: ((عبد العزيز إن شاء الله آلام بطنك راحت؟))!! قال عبد العزيز: وقع سؤاله ذاك عليَّ وقع الصاعقة! وأدهشني، إلى أبعد حدود الدهشة، هدوءه، وسكينته، وطريقته في استقبالي. فأنا لم أكن أتصور قط أنه يتذكرني، بل ويتذكر إسمي،  وأنا الذي زرته في بيته قبل سنوات، مجرد زيارة عابرة، شأني شأن غيري من الشباب الذين يزورونه في بيته المفتوح على الدوام لسؤاله عن فكرته، أو يجيئونه بسبب الفضول. وهالني أكثرً، أنه سألني عن آلام بطني! فأنا حين زرته، وكان ذلك قبل وقت طويلٍ، أعتذرت عن تناول زادٍ قدَّمه لي أهل بيته، وقلت له أنني أشكو آلاماً مزمنةً في بطني، تمنعني من تناول ذلك النوع من الزاد. قال عبد العزيز: تساءلت في نفسي: أي نوع من البشر هذا الذي يخرج لتوه من محكمة حكمت بإعدامه، ثم يظل هادئاُ، وبمثل هذا القدر من الحضور، والسكينة! بل، ولا يفوته أن يسأل شخصاً مثلي، زاره في بيته مرة واحدة، وبشكل عابر، وقبل زمن طويل، عن آلام بطنه المزمنة؟ واستطرد عبد العزيز قائلاً: جئت وأنا مشغولٌ بما هو فيه، فوجدته حين رآني، مشغولاً بما أنا فيه!! قال عبد العزيز: تحركت السيارة، وابتعدت، وبقيت متسمراً في مكاني للحظات، وأنا غيرُ مصدِّقٍ ما جرى بيني وبينه!!

        كان الأستاذ محمود يقظاً، أما نحن تلاميذه فكنا نياماً، أو شبه نيام! ولقد كان يعرف أننا نيام. ظل يحاول، بين كل سانحةٍ وأخرى، أن يوقظنا، لننتبه. ولكننا لم نكن لنستيقظ، أو لننتبه، إلا قليلاً، وأنَّى لنا بيقظةٍ مثل يقظته، وهو الذي وُهب الحضورَ واليقظةَ وهباً، ثم لم تبطره نعمة الوهب، فأخذ نفسه بمجاهدات أؤلي العزم، ليرسَّخ ما وُهبه بالكسب! فهو قد أدام الصيام، وأطال القيام، وأدام الذكر، وزهد في الأعراض الزائلة، وأدمن الفكر.! كان يوصينا على الدوام بإلحرص على قيام الثلث الأخير من الليل، وكان لا يمل من التذكير في هذه الوجهة. وما أكثر ما قال لنا: ((أنتو مطلوبين من خصومكم، والمطلوب ما بنوم))! وكان يقول: ((معركتكم مع خصومكم معركة روحية، يتم حسمها في سجادة الثلث الأخير من الليل)). ولقد كنا نعرف، هوناً ما، أننا مطلوبين، ولكننا لم نكن نظن أننا مطلوبين إلى حدٍ نبلغ معه الوقوف على حافة الموت! كان هو الوحيد الذي يعرف مبلغ الطلب، ومبلغ الثمن المتوجب دفعه، وقد احتفظ بذلك لنفسه، ولم يبح به لأحد. كان هو الوحيد الذي أعد نفسه، إعداداً تاماً لذلك الطلب، وحين جاء وقت الدفع، كان على أتم استعدادٍ لكي يدفع.

        تم إعتقال الأستاذ محمود محمد طه، وعشرات الجمهوريين في يونيو من العام 1983، أي قبل ثلاثة أشهر من صدور قوانين سبتمبر 1983. وكان سبب الإعتقال كتاب أصدره الإخوان الجمهوريين انتقدوا فيه النائب الأول لرئيس الجمهورية آنذاك، اللواء عمر محمد الطيب، لكونه قد استجلب إلى مسجده المسمى "مسجد التقوى" في ضاحية كوبر بالخرطوم بحري، واعظاً مصرياً اسمه محمد نجيب المطيعي، كان يعمل في جامعة أمدرمان الإسلامية. وقد شرع ذلك الواعظ  في تأليب وتحريض جمهور المصلين ضد الجمهوريين، من على منبر ذلك المسجد. أكثر من ذلك، فُتحت لذلك الواعظ المحرِّض أبواب التلفزيون القومي، ليؤلب الناس ضد الجمهوريين والمسيحيين معاً! وبما أن الذي بنى ذلك المسجد ويشرف عليه هو نائب رئيس الجمهورية، وهو المسؤول الأول عن الأمن في البلاد، فإن ترك المجال لذلك الواعظٍ الأجنبي ليثير فتنة دينية في البلاد مثَّل تفريطاً كبيراً في المسؤولية، من مسؤولٍ عام. ولذلك فقد طالب الجمهوريون بإقالته من منصبه كنائب رئيس الجمهورية، وكمسؤول أول عن الأمن في البلاد. ولقد أشار الأستاذ محمود في مذكرة بعث بها الأستاذ محمود من معتقله إلى الجمهوريين المعتقلين بسجن كوبر، أنه يرى أن اللواء عمر محمد الطيب ضالع في مؤامرة ضد الجمهوريين فيها أيد أجنبية، يدل عليها استخدامه لذلك الواعظ الذي أخذ في بث الفتنة الدينية من "مسجد التقوى" التابع له، ومن التلفزيون القومي، ثم باعتقاله للجمهوريين. عموماً، أخذت حلقات المخطط المبيتٍ ضد الجمهوريين، تتجلى على أرض الواقع، منذ منتصف العام 1983م، أي قبل ثلاثة أشهر من صدور قوانين سبتمبر 1983م، واستمرت تلك الحلقات في الظهور المتتابع، حتى محاكمة الأستاذ محمود وإعدامه في يناير 1985م.

        بسبب نشر الكتيب الذي ينتقد اللواء عمر محمد الطيب، تم اعتقال الأستاذ محمود وأودع بيتاً في منطقة الخرطوم شرق يتبع للأمن. وكان يسمى "بيت بونا"، نسبةً لأن الوزير، آنذاك، بونا ملوال، قد سكن فيه لفترة من الزمن. وقد صحب الأستاذ محمود في ذلك المنزل أو "المعتقل"، معتقلٌ آخر، هو الدكتور خليل عثمان. أما الجمهوريون فقد أُودع عشرات منهم في سجن كوبر العمومي، الذي كان يعج بعشرات من المعتقلين من القوى السياسية الأخرى، كحزب الأمة، والحزب الشيوعي السوداني، وحزب البعث، وغير هولاء من الناشطين في معارضة نظام مايو. أما الأخوات الجمهوريات، فقد كن أربعاً، وقد أودعن قسم النساء، بسجن أمدرمان العمومي. في فترة اعتقال الأستاذ محمود، والجمهوريين، والجمهوريات هذه، صدرت قوانين سبتمبر، وبدأ تلطيخ سمعة الناس في أجهزة الإعلام، والتشهير بهم، وشرعت ما سميت وقتها بـ "محاكم الطوارئ" في جلد الناس على رؤوس الأشهاد، ثم ما لبث أن بدأ مسلسل قطع أيدي وأرجل البسطاء والمساكين، بل وصلبهم.

        حاولت السلطات إطلاق سراح الأستاذ محمود وحده، بعد شهور من الإعتقال، ولكنه رفض الخروج ما لم يتم إخراج أبنائه كلهم. فصرف النظام النظر عن إطلاق سراحه هو، وأطلق سراح الأخوات الجمهوريات. فإطلاق سراح الإخوان الجمهوريين لم يكن ضمن العرض أصلاً. استمر إعتقال الأستاذ محمود والجمهوريين حتى 19 ديسمبر 1985، حيث تم الإفراج عنهم دون قيد أوشرط. كان واضحاً للأستاذ محمود، أن الإفراج لم يكن سوى مقدمة لمؤامرة مبيتة، ولقد أشار هو إلى تلك المؤامرة في المذكرة التي أشرت إليها أعلاه. كان أهل السلطة يعرفون أن تاريخ الأستاذ محمود السياسي لم يعرف المساومة قط، ولم يعرف الانحناء للسلطات، إبتداءً بالحكم البريطاني، ومروراً بكل عهود الحكم الوطني. ولذلك فهو لن يصمت على قوانين سبتمبر، ولسوف يكتب، وينشر، ضدها، حال أن  يخرج من المعتقل. كانوا يريدون منه مستنداً مكتوباً يثبت معارضته لتلك القوانين، ليقدموه بموجبه إلى محكمة تحكم بتصفيته. وبالفعل ما أن خرج الأستاذ محمود، حتى شرع في الإعداد لمنشوره الشهير، "هذا أو الطوفان"، الذي صدر في الخامس والعشرين من ديسمبر 1985م. 

 

        بدأ توزيع المنشور، وتم اعتقال الجمهوريين الأربعة، الذين تمت محاكمتهم مع الأستاذ محمود. وصل المنشور إلى القصر، فكتب القاضي النيل أبو قرون إلى الرئيس نميري هذه المذكرة: ((الأخ الرئيس القائد .. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .. المنشور المرفق وزعه الجمهوريون، وقد قُبض على ستة منهم، وتم التحقيق معهم وسوف يقدمون للمحاكم. وبهذا، فقد أتاحوا لنا فرصة تاريخية لمحاكمتهم. وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. ولا شك أنها بداية لمسيرةٍ ظافرةٍ بإذن الله يتساقط دونها كل مندس باسم الدين، وكل خوان كفور، ولله الأمر من قبل ومن بعد .. وفقكم الله لقيادة المسيرة الظافرة، وإتمام نهج الله على آثار المصطفى صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ومن سار بسيرهم ونهجهم إنه سميع مجيب .. النيّل عبد القادر أبو قرون ـ 6  ربيع الثاني 1405 هـ ـ يوم السبت الموافق 29/12/1984م)). وردَّ الرئيس نميري على مذكرة القاضي النيل أبو قرون، بمذكرةٍ جاء فيها: ((الأخ عوض، النيَّل، والأخت بدرية.. سلام الله عليكم .. آخر هوس الأخوان الجمهوريين هذا المكتوب الذي أرى بين سطورة "الردة بعينها"، أرجو الإطلاع ومعكم الأخ بابكر. سأجتمع بكم للتشاور في الأمر إن شاء الله  بعد أن تكونوا على استعداد.. أخوكم في الله، جعفر محمد نميري ـ8  جمادى الأولى سنة 1304)). (تم نشر صور هاتين المذكرتين في صحيفة الأيام، يوم 7 رمضان الموافق 26 مايو 1985م، وقد أخرجهما فيما بعد الإخوان الجمهوريون في كتيبهم "الوثائق تكشف التآمر الجنائي"، الذي صدر في يونيو 1985).

       

        حين خرج الأستاذ محمود من معتقله الأخير، في 19 ديسمبر، خرج كمن نُصب له عَلَمٌ فشمَّر يطلبه. كانت عيناه تومضان ببريقٍ عجيب، وقد بدا الحزم والجد يغلبان على سمته، أكثر من أي وقت مضى. لقد أيقن حينها أن وقته قد أزف! في نهاية الستينات، وفي واحدة من طوافاته السنوية التي كان يجوب فيها مدن السودان المختلفة، داعياً إلى فكرته للبعث الإسلامي، اعتدى عليه رجل حين كان يتحدث في محاضرة عامةٍ، في واحدٍ من أندية مدينة الأبيض. تقدم الرجل نحو المنصة، دون أن يتنبه له الحضور، وفجأة هوى على رأس الأستاذ محمود بعكاز كان يخفيه إلى جانبه، فسقط أرضاً من قوة الضربة، ونزف من رأسه دمٌ كثير. حاول بعض جمهور المحاضرة الإعتداء على ذلك الرجل المعتدي، فوقف الأستاذ محمود بينه وبينهم، وسلم الرجل من أيدي الجمهور. سمع بعض قدامى الإخوان الجمهوريين، ممن شهدوا تلك الحادثة، الأستاذ محمود، وهو يقول بعدها بأيام: ((الزول ده استعجل ساكت، وقت الضربة ما جا!!)). ولم يعر أي واحدٍ من الجمهوريين تلك القولة كبير انتباه، حتى أذاع الرئيس نميري تأييده لحكم الإعدام الصادر ضده، قرابة العشرين عاماً، في ظهر يوم الخميس 17 يناير، من العام 1985م!!

 

        لم يكن الأستاذ محمود، طيلة نشاطه الفكري، والسياسي، منذ منتصف الأربعينات، يطلب سلطةً، أو جاهاً، أو عرضاً أياً كان. كان زاهداً في السلطة الفوقية، زهداً مطلقاً، فهو قد كان يريد تغييراً جذرياً، ينطلق من حيث يقف عامة الناس، لا من حيث تقف الصفوة! وكان يعرف أن ذلك يقتضي زمناً، ولذلك، فقد كان يسابق الزمن ليضع البذرة في الحقل البور، تلك البذرة التي كان ينتظر لها أن تثمر التغيير الجذري، في نهاية المطاف. فهو قد ألقى البذرة، وكان فقط، يود أن يتأكد أن جذوراً من تلك البذرة قد بدأت تمتد إلى داخل الأرض. لم يكن مشغولا متى ستشق تلك البذرة التربة، وتظهر على سطح الأرض، لتخضل وتثمر!!  كان حامل مشعلٍ، ولم يكن طالب سلطة، وشتان بين الإثنين!       (يتواصل)

 

آراء