في ذكرى المجزرة.. أمشاج الثورة بين ” الدم والطين”

 


 

 

الجريدة: عبد الناصر الحاج
قبل العام 2013 تحديداً، كان نظام المخلوع البشير ، نظاماً عاتياً جباراً ، وكان السودانيون يرون أنه من الاستحالة سقوطه عبر ثورة شعبية، وعلى الرغم من أن النظام الذي تمخض من انقلاب الحركة الإسلامية الذي قاده البشير في 1989، واجه مقاومة من قطاعات شعبية كثيرة منذ أيامه الأولى، إلا أن الانقلاب هذا ، جاء متوحشاً وعنيفاً منذ البداية، فأغرق كل صنوف المقاومة الجماهيرية في شبح الموت والبطش والقمع اللا محدود، وللدرجة التي جعلت المعارضة السياسية تلجأ لكل صنوف المقاومة دون جدوى، إلا أن حركة الأجيال التي تجري في مضمار التاريخ ، كانت تكتسب في كل مرحلة مزيداً من خبرات المقاومة ، وكانت في كل محطة تاريخية تتزود من معين الانتفاضة التراكمية ، وفي سبتمبر 2013 م استيقظت المقاومة الجماهيرية على نحو أقوى وأكثر عزيمة لإسقاط نظام الحركة الإسلامية، بيد أن النظام واجهها بعنف كبير لم تشهد له البلاد من مثيل خلال ربع قرن من الزمان، فسقط عشرات الشهداء برصاص القوات الأمنية خلال تظاهرات سبتمبر الشهيرة وقتها، ومن هنا بدأت تتفتق الهوة والخصومة السياسية بين نظام البشير والجماهير، وبعد خمسة أعوام من انتفاضة سبتمبر 2013م، دخلت الأجيال الجديدة خط الفعل السياسي المُقاوم للنظام، وكانت أجيال أكثر قوة وأكثر تنظيماً ، فأدخلت البلاد كلها في حالة اشتعال ثوري مناهض للنظام لم تُجدي معه كل أنواع القمع والسحل والبطش التي جربها النظام، إلا أن ترنح وسقط البشير فعلياً في أبريل 2019 م بقوة إرادة هذه الأجيال الجديدة.

(1) شهداء الحراك الثوري
في ديسمبر من العام 2018 ، تبرجت شرارة الثورة في الدمازين، ثم سرعان ما اشتعلت هناك في عطبرة – منجم الثورات – مثلما يُسميها الثوار، وفي عطبرة هذه كانت المُفارقة المدهشة هي عندما قام الثوار بإحراق دور حزب البشير – المؤتمر الوطني- وهي العلامة الفارقة في تاريخ الثورة السودانية، لأنها مثلما وصفها ناشطون من قبل، كانت بمثابة تجسيد حقيقي لحجم الرفض والخصومة السياسية التي بدأت تكتنف الجماهير تجاه حزب البشير ومناصيره. وقتها كانت البلاد تعيش في حالة انسداد للأفق بفعل الأخطاء الجسيمة التي انتهجها نظام البشير وأدخلت البلاد في عزلة دولية وعقوبات اقتصادية شديدة الوطأة، فضلاً عن استشراء رائحة الفساد في كل مفاصل الدولة التي كان يُسيطر عليها منسوبو الحزب الحاكم آنذاك. تمددت الرغبة في الثورة إلى كل المدن الكبيرة في السودان، وحينها كان تجمع المهنيين السودانيين قد بدأ نشاطه الأول في مقاومات سياسات النظام، إلا أنه دخل فعلياً في حيز الفعل الثوري الذي بدأ في التخلق، وعلى الفور أصبح تجمع المهنيين هو القائد ورأس الرمح للمواكب الثورية في البلاد. وفي 25 ديسمبر تحديداً من العام 2018، خرج موكب الخرطوم من صينية القندول مطالباً برحيل النظام تحت قيادة تجمع المهنيين وبتأييد من أحزاب المعارضة السياسية، ومن هنا بدأت الثورة تتخذ شكلها التنظيمي والقائد للجماهير، إلى حين تم التوقيع على إعلان الحرية والتغيير من كل قوى المعارضة السودانية عدا الذين كانوا يرغبون في محاورة النظام بدلاً عن نهج الإسقاط بالثورة الشعبية. سارت المواكب الثورية عبر جدول مرسوم من قبل تجمع المهنيين، وواجها النظام بكل أشكال العنف المفرط ، وتساقط الشهداء، شهيد تلو الشهيد، دون أن تتوقف حركة المواكب الثورية وجداولها. وسطر الجيل الجديد ملاحم بطولية نادرة في الاستجابة للمواكب الثورية ومقاومة القمع والبطش، وتحول شهداء الحراك الثوري وقتها، إلى أيقونات ثورية تدفع هذا الجيل إلى مزيد من التضحيات وتمنعه من التراجع عن سكة بلوغ الثورة لأهدافها. وقد شكلت حوادث استشهاد الأستاذ أحمد الخير، وعبد العظيم، ومحجوب التاج، والفاتح النمير، ودكتور بابكر، وسمل، ومعاوية بشير، وغيرهم من شهداء الحراك الثوري الأول، دوافع استثنائية لهذا الجيل والذي تمت تسميته اصطلاحا بـ(الجيل الراكب راس)، في إشارة لعزيمتهم التي لا تلين ولا تعرف الاستسلام.

(2) حصار القيادة العامة
وفي ذروة تفشى ظاهرة الثورة ضد نظام البشير في كل مدن السودان، والتي كانت تستظل تحت ظل هاشتاق واحد على منصات التواصل الاجتماعي ( #مدن_السودان_تنتفض) ، جاءت الدعوة من قبل تجمع المهنيين الذي يقود الحراك الثوري من داخل لجان ميدان الحرية والتغيير، للتحضير لفعل ثوري كبير بأن تتجه المواكب في ذكرى انتفاضة السادس من أبريل إلى مقر القيادة العامة للجيش السوداني لتسليم مذكرة تطالب برحيل النظام، وبالفعل شهد السادس من أبريل حشداً غير مسبوق من الثوار وانضمت قطاعات واسعة من جماهير الشعب السوداني لهذه التظاهرات، ورغم الحشود الأمنية والعسكرية، إلا أن أعداد المتظاهرين كانت تفوق خيال السلطات، ونجحت الحشود في بلوغ محيط القيادة العامة وحاصرته من كل الاتجاهات، ولم يتبقى أمام جنود القوات المسلحة إلا الانصياع لرغبات الجماهير وحمايتهم من كتائب ظل النظام وقوات الأمن ، ولكن هذه المرة، قررت الأجيال الثورية الجديدة، الاعتصام في محيط القيادة إلا حين تغيير النظام مُطالبة الشرفاء من القوات المسلحة الانحياز لرغباتهم، ومكث الثوار خمسة أيام شهدت محاولات عنيفة من قبل كتائب ظل النظام لفض الاعتصام، إلا أن ثبات الثوار وانحياز عدد من صغار الضباط للثوار، عجل برحيل النظام في يوم 11 أبريل، حينما أعلنت قيادة الجيش اقتلاع نظام البشير وإجباره – عبر الاعتقال- لمغادرة السلطة. لم يكن هذا الحل مُرضياً للثوار المعتصمين رغم النجاح في اقتلاع البشير، خصوصاً وأن بيان المؤسسة العسكرية كان بقيادة الفريق أول ابن عوف وهو وزير دفاع البشير وعضو فاعل في اللجنة الأمنية للمخلوع، ومما دفع الثوار لمواصلة الاعتصام لحين تسليم السلطة للشعب ومغادرة ابن عوف، وفي 13 أبريل تنحى ابن عوف وقام بتسليم رئاسة المجلس العسكري للفريق عبد الفتاح البرهان ونائبه الفريق محمد حمدان حميدتي قائد قوات الدعم السريع. وعلى الرغم من المواقف الايجابية الأولى لقائد قوات الدعم السريع الذي رفض الانضمام لمجلس ابن عوف، إلا الثوار المعتصمين قرروا أيضاً الاستمرار في الاعتصام لحين تسليم المجلس العسكري الانتقالي السلطة كاملة للمدنيين بقيادة تحالف الحرية والتغيير. ومن هنا تخلق خصومة سياسية جديدة، حيث بدأ واضحاً بأن المجلس العسكري الانتقالي لا يرغب في تسليم السلطة لتحالف الحرية والتغيير ولا يرضى بشروط التفاوض التي في يد الحرية والتغيير. وقتها كان الاعتصام نفسه هو ورقة الضغط الجماهيري التي في يد الحرية والتغيير، ولكن في 3 يونيو في أواخر شهر رمضان استيقظ السودانيون على فاجعة كارثية، عندما قامت قوات مشتركة من الجيش والدعم السريع والشرطة وجهاز الأمن وكتائب أخرى مسلحة بفض اعتصام الثوار بوحشية كانت هي قاصمة الظهر بالنسبة للثورة السودانية.

(3) شهداء ومفقودين
خيم الحزن والإحساس بالفاجعة في كل بيت سوداني، نهار الثالث من يونيو، حيث كانت عملية الفض في قمة الوحشية ولم تراعي ديناً ولا عُرفاً ولا أخلاقاً مثلما يصفها السودانيين حتى الآن. واستقبل السودانيون العيد في ذلك التوقيت المُعبأ برائحة الدم في كل مكان، وبدأت إحصاءات الشهداء تتدفق من قبل الجان الطبية ، إلى أن بلغت المئات، وفقد كثير من السودانيون أبنائهم دون معرفة مصيرهم، غير أن الأخبار كانت تشير إلى أن نهر المدينة استقبل عشرات الجثث الملقية في متنه بعد إثقالها بالحجارة، وارتفعت أيقونات ثورية جديدة لأبطال جدد يضافون إلى سجل الشهداء الخالد، حيث ولجت وجوه الشهداء، عبد السلام كشة، وعباس فرح، ومطر، والبرعي، قصي حمدتو، وغيرهم كثيرون، وبين ليلةٍ وضحاها أصبحت قيادات المجلس العسكري الانتقالي تجد في مجالس السودانيين كل أنواع الاستهجان والرفض والعزوف عن أية تأييد محتمل، ومن هنا قررت الأجيال الجديدة مواصلة الثورة لأجل دماء رفقائهم الشهداء، وفي 30 يونيو خرجت جميع مدن السودان في انتفاضة شعبية كانت هي الأكبر في تاريخ السودان الحديث، وتزامن اليوم الـ30 من يونيو مع ذكرى انقلاب الحركة الإسلامية في 1989م، وبهذا كتبت الأجيال الثورية تاريخاً جديداً للشعب السوداني، ظل حتى الآن محل احتفاء وتقدير مسح عن ذاكراتهم رمزية الارتباط بانقلاب البشير. وقد شكلت انتفاضة 30 يونيو منعطفاً جديداً في مسيرة الثورة، حيث نجحت الوساطة الأفريقية في إنهاء الأزمة عبر قيام شراكة سياسية لقيادة الفترة الانتقالية بين المكون العسكري وقوى إعلان الحرية والتغيير وضبطت هذه الشراكة بقيام لجنة وطنية مستقلة للتحقيق في مجزرة فض الاعتصام. وعلى الرغم من دعم الثوار الذين باتت تمثلهم لجان المقاومة بعد أن تحول تجمع المهنيين لشريك في الحكم، إلا أن لجان المقاومة ظلت تُراهن على أن هذه الشراكة مع المكون العسكري الحالي لن تقود إلى العدالة الانتقالية ولن تنصف شهداء الثورة، وهكذا سارت حالة الشد والجذب التي انتهت على صدقية توقعات لجان المقاومة، حينما انقلب المكون العسكري على الشريك المدني عبر انقلاب الـ25 من أكتوبر، ومن حينها دخلت لجان المقاومة في حالة ثورية جديدة تُطالب بإسقاط قيادات المكون العسكري وتحمله مسؤولية دماء كل الشهداء، الأوائل، واللاحقون الذين بلغوا 98 شهيدا بعد الـ25 من أكتوبر وحتى الآن.
الجريدة
//////////////////////

 

آراء