في رثاء بروفيسور احمد محمد الحسن (2)

 


 

د. زهير السراج
16 November, 2022

 

manazzeer@yahoo.com

* ولد الراحل العظيم بمدينة (بربر) إحدى أهم حواضر السودان في القرن الثامن والتاسع عشر. توفت والدته وهو في سنوات الطفولة وانحفر ذلك عميقاً في ذاكرته، وربما كان أحد الاسباب التي قادته لدراسة الطب، وقد عرف بالنبوغ منذ سنوات دراسته الباكرة، لكن المفارقة أن دخوله للمدرسة كان عن طريق القرعة حيث كانت المدارس قليلة آنذاك ومنها مدرسة (بربر) الآبتدائية وكان من عوامل الحظ الحسن أن النظام التعليمي في السودان كان آنذاك في أفضل حالاته تحت ظل الحكم الانجليزي – المصري، حيث قاد معهد بخت الرضا الذي قام عليه رجال أمثال عبد الرحمن علي طه تجربة رائدة ومتفردة في مجال التعليم جمعت بين الاصالة والمعاصرة والمناهج التجريبية الجديدة والتراث وكان نتاجها علماء أمثال (أحمد محمد الحسن ساكتابي) وغيره.

* السيرة المهنية لأحمد محمد الحسن حلقات من العطاء المتصل، فعقب حصوله على درجة الدكتوارة في بحث متميز عن الطوحال كجزء من الجهاز المناعى عاد إلى السودان مباشرة وأنغمس في التدريس والبحوث وقام بنشر العديد من الأبحاث في مجال الأورام والأمراض المتوطنة أهلته لنيل درجة الاستاذية في سن مبكرة، وصار عميداً لكلية الطب جامعة الخرطوم في أزهى فتراتها (1970) ثم وزيراً للتعليم العالي لفترة قصيرة لكنها كانت حافلة بالانجازات، ليعود مرة اخرى إلى مقعده خلف المجهر الذي لم يتركه لحظة واحدة في حياته، ويحكى أنه كان يحتفظ بمجهر في مكتبه بالوزارة، واستطاع وهو الطبيب المتميز والنطاس البارع ان ينظر إلى مهنة الطب نظرة شاملة ومتقدّمة في زمنها سواء عندما كان عميداً لكلية الطب أو عندما أُنشئ المجلس القومي للبحوث الذي كان أول رئيس لمجلس أبحاثه الطبية. كما قام أيضاً بتأسيس معهد المختبرات الطبية - كلية المختبرات الطبيه جامعة الخرطوم حاليا.

* تميزت أبحاثه دائماً بالجمع ما بين العلوم الأساسية والتطبيقية السريرية والتي ألهمت أجيالاً من الباحثين. والمتأمل في سيرته الذاتية يجد اتصالاً في النشر العلمي طوال سني حياته لم تقطعها سنوات الهجرة أو المصاعب الخاصة أو العامة حتى ناهزت الاربعمئة ورقة علمية مُحكَّمة وأكثر من 4 كتب .

* هاجر في أواخر السبعينات إلى المملكة العربية السعودية حيث قام بتأسيس كلية الطب بجامعة الملك فيصل وقام بمواصلة بحوثه العلمية في مرض اللشمانيا المنتشر هناك، وعندما عاد الى السودان في عام 1984 صادفت عودته انتشار الوباء الشهير بمرض الكلازار (الليشمانيا الحشوية) بجنوب السودان الذي فتك بعشرات الآلاف في أعالي النيل ودفع الآلاف للهجرة شمالاً، ومن حسن حظ المرضى أنه كان موجوداً بذخيرته العلمية الواسعة حيث قام بإنشاء مستشفى بالتعاون مع منظمة أطباء بلا حدود، كان بداية لتعاون مع المنظمة أمتد لسنوات أثمر عن تدريب أجيال من الباحثين السودانيين والأوربيين صار معظمهم ممن يشار اليهم بالبنان .

* في عام 1989 قام بجولة ساقته إلى مناطق نائية في جنوب السودان ومنطقة النيل الأزرق للتعرف على الطبيعة الوبائية للمرض على الواقع، حيث عثر على قرية في نهر الرهد بها نسبة إصابة عالية من المرض، وكان ذلك احد الاسباب التي قادته الى تأسيس احد اهم المراكز للبحوث والتدريب في طب المناطق الحارة الذي تحول لاحقا الى معهد الامراض المتوطنة التابع لجامعة الخرطوم، وبسبب جهوده وبحوثه تمت محاصرة الوباء وفتحت المدارس التي أغلقت وعادت الحياة إلى المنطقة.

* لم تقتصر بحوثه وجهوده على الليشمانيا فقط، بل كل امراض المناطق الحارة مثل البلهارسيا والمايستوما وغيرهما، ويحكى أنه سافر لمدة ستين يوما على ظهر ناقة في غرب السودان لتتبع الاصابات بفطر المايستوما الذي يتسبب في بتر الاقدام ، وكان له الفضل في إنقاذ الالاف وتوفير قاعدة معلوماتية ضخمة عن المرض وعشرات البحوث التي ساعدت في التعرف عليه والتعامل معه، فضلا عن بحوثه وجهوده في مجال والاورام وعلم الامراض وغيرهما، وخرَّج الالاف من الطلاب وطلاب الدرجات العليا.

* لقد فقد السودان والعالم بموته أحد اعظم العلماء والاطباء الذين انجبتهم البشرية على الاطلاق. وكما يقول الكاتب الفلسطيني (مؤمن بسسيسو): "عندما يرحل العلماء تنطفئ منارة كبرى كانت ترسل إشعاعات نورها وخيرها في ربوع العالمين".
خالد رحمة

////////////////////////

 

آراء