في رثاء سقراط اللاعب البرازيلي الفيلسوف
بدر الدين حامد الهاشمي
17 December, 2011
17 December, 2011
رثت مجلة الإيكنومست البريطانية في عددها الصادر في 10-16 ديسمبر 2011م في صفحتها الأخيرة لاعب البرازيل الشهير سقراط (واسمه بالكامل سوكارتس (سقراط) برلزيليرو سامبيو دي سوزا فيريا دي اوليفيرا) والدي مات عن عمر لم يتجاوز السابعة والخمسين. وليس من المعتاد أن ترثي مجلة بريطانية رصينة تعنى بالاقتصاد والتجارة والسياسية العالمية لاعبا لكرة القدم بالغا ما بلغ من الشهرة، إلا إذا كان صاحب اهتمامات أخرى تضاف إلى اهتماماته الرياضية. وفي حالة سقراط فقد عرف عنه أنه - خلافا لمعظم لاعبي كرة القدم، والتي يبدو أن معظم محترفيها تتركز قدراتهم قي أقدامهم- كان ناشطا سياسيا، وطبيبا مثقفا، ونقابيا جريئا في الدفاع عن زملائه اللاعبين، وفي الهجوم على مؤسسات كرة القدم، وغيرها من مؤسسات الدولة والحكم.
قارنت المجلة في رثائها للفقيد (دون ذكر اسم من كتب الرثاء) بين سقراط الفيلسوف الإغريقي الكلاسيكي (سيد الاسم) والذي عاش بين عامي 469 – 399 قبل الميلاد، وبين سقراط لاعب كرة القدم البرازيلي، والذي عاش بين عامي 1954 – 2011م. كان الأول رجلا قصيرا سمينا قبيح الشكل، بينما كان سميه البرازيلي – على العكس تماما- رجلا طويلا نحيلا بهي الطلعة بشعره الطويل المتدلي فوق كتفيه. كان سقراط الفيلسوف الإغريقي يطوف على الأسواق ينثر على الناس درر الحكمة ومسائل عويصة في الفلسفة والمنطق منتعلا صندله اليتيم وروبه المتهدل، بينما كان سقراط اللاعب البرازيلي يصول ويجول في الملاعب الخضراء مرتديا زي الفريق البرازيلي المميز بالسروال الأزرق القصير والقميص الفاقع الصفار. رغم ذلك التباين فإن هنالك ما يجمع بين الرجلين – على تباعدهما الزماني والمكاني وما قدماه للبشرية- غير مجرد الاشتراك في الاسم. كان سقراط اللاعب رجلا مثقفا يجيد الحديث عن فان جوخ وتاريخ كوبا والطب والديمقراطية. لعب الرجل أكثر من ثلاثمائة مباراة لفريقه الرئيس كورنيثينس ساو باولو، وستين مباراة لفريقه القومي. كان يجيد اللعب بقدمه وعقله وخياله أيضا، وصاحب لمسات عبقرية لا تنسى. ربما كان قد ورث بعض مورثات (جينات) والده، والذي كان رجلا عصاميا ثقف نفسه بنفسه، وأسمى ولدين من أولاده سوفوكليس ( تيمنا باسم الكاتب المسرحي التراجيدي الإغريقي، والذي عاش بين 497 – 407 قبل الميلاد) وسوستنيس (ربما تيمنا بالقائد العسكري والسياسي المكسيكي، والذي عاش بين 1831 – 1897م).
شملت قائمة أبطال طفولة سقراط شي جيفارا وفيديل كاسترو وجون لينون. ألف اللاعب بعد اعتزاله كتابا اسماه "فلسفة كرة القدم"، ختمه بحكمة كانت ستعجب سميه الفيلسوف الإغريقي إن قدر له أن يراها: "الجمال يأتي في المرتبة الأولى، يليه في المرتبة الثانية النصر، ولكن المهم في كل الأحوال هو حصول المتعة". كان يعني ما قاله تماما. فهو لم يكن من المحظوظين من لاعبي البرازيل الذين فازوا بكأس العالم (رغم أن البرازيل فازت به خمس مرات)، ولم يكن الفوز بذلك الكأس (أو غيره) غاية مطلبه، فلقد كان الجمال – كما عند سميه الفيلسوف- هو مطلبه الأول. كان ذلك هو ما يجده مشاهدوه عندما يلعب في كل مباراة. كان يجري مندفعا كالغزال، ويجيد القفز وضربات الرأس والكعب، و"باصاته" الطويلة المتقنة من منتصف الملعب. ما أن يذكر جمال كرة القدم التي لعبها سقراط إلا وتذكر مباراة البرازيل ضد إيطاليا في كأس العالم عام 1982م، والتي قاد فريقه فيها، ولعب أفضل مبارياته على الإطلاق، وأحرز فيها هدفا بديعا.
رغم مهارته وشهرته في كرة القدم، لم يكن دكتور سقراط (كما يطلق عليه معجبوه الكثر) يضع كرة القدم في مقدمة اهتماماته. كان يغيب كثيرا عن تمارين فريقه إن تعارض وقتها مع محاضراته في كلية الطب. رغم أن كرة القدم هي المحرك الرئيس للأشياء في البرازيل ( حيث تؤجل حتى مواعيد الانتخابات من أجلها)، إلا أنه كان يرى أن أهم ما ينبغي عمله في البرازيل هو القضاء على الفقر، وتشييد المدارس، وشق الطرق، وفوق ذلك بناء "سلوك متحضر". كان سميه الفيلسوف الإغريقي سيسمي هذا المسعى "الحياة الفاضلة"، بينما كان يسميها اللاعب البرازيلي "ترتيب أولويات البشر". كان أفضل شيء فعلته كرة القدم له (وبه) هو أنها جمعته بالناس العاديين، وضرب لذلك مثلا بجماهير نادي جارفورث (قرب ليدز بإنجلترا) حيث عمل لشهر واحد مدربا لفريقها المغمور في شتاء 2004م.
كان – مثل سميه سقراط الفيلسوف- يدافع عن الإنسان العادي (سمه "رجل الشارع" إن شئت)، وكان معاديا شرسا لكل أشكال التسلط والهيمنة، وللكسل، وللإعجاب بالنفس. كان يعارض الطريقة (الديكتاتورية) التي يدير بها مالك وإداريو ناديه كورنيثينس ساو باولو الفريق، والطريقة التي يعامل بها الإداريون اللاعبين كالأطفال. ساهم في إدخال الديمقراطية بالنادي حيث أصبح متاحاً للكل (من أصغر "فراش" بالنادي، إلى رئيسه) فرصة التصويت على تحديد مواعيد وطول التمرين، ومواعيد الغداء وهكذا. كان – بلا شك- مساندا لتخفيف القيود الصارمة على اللاعبين (مثل السماح بالتدخين وشرب البيرة)، إذ كانت تلك هي طريقته (الخاصة) في الحياة المنطلقة بلا حدود. كان يردد دوما بأنه "نقيض للرياضي المثالي"، وعلى الجميع أن يقبلوه (أو يرفضوه) كما هو!
كان معارضا لترك إدارة حكم البرازيل في يد طغمة من جنرالات الجيش سطت على الحكم في 1964م، وقام بطباعة كلمة "ديمقراطية" على قمصان فريقه كورنيثينس ساو باولو. قاد كذلك احتجاجات؛ وتوقف عن اللعب بين عامي 1984 – 1985م عندما فشل مجلس النواب البرازيلي في إصدار القوانين المنظمة لهجرته لإيطاليا للعب في فريق فيورنتينا. أعطى في تقديره 7 من 10 لرئيس بلاده الإصلاحي لولا دا سيلفا (الذي حكم بين عامي 2003 -2010م)، إذ لم يكن ليعطي الدرجة الكاملة لغير "ثوري حقيقي" مثل فيديل كاسترو.
بعد اعتزاله لعب كرة القدم، ظل يحارب – وبلا هوادة- الفساد في الأوساط الرياضية، وبح صوته وهو يطالب بإشاعة الديمقراطية في كل مناشط الأندية وانتخاباتها، وتحالف مع زميله القديم "زيكو" ضد الفساد في الأندية. بدأ في تأليف رواية خيالية تدور أحداثها في البرازيل في عام 2014م إبان مباريات كأس العالم، حيث تختفي الملايين الكثيرة من مال الشعب في جيوب قلة من الفاسدين، وحيث ستضيع بلايين الدولارات في تشييد "الأفيال البيضاء" من مباني واستادات رياضية لا فائدة فيها. كان- وإلى حين ساعات قبل وفاته- يفضل أن يرى فريقه القديم يؤدي مباراة جميلة ولعب ماهر نظيف، أكثر من أن يراه يفوز في مباراة يعوزها الخلق الرياضي القويم.
مات سقراط وهو صغير السن بعد عشاء دسم مع أصحابه، لم تستطع كبده المقروحة أن تحتمله. سيذكره الناس دوما وهو بين جلسائه في إحدى طاولات المقاهي التي كان يرتادها، وهو يبشر بأفكاره الإصلاحية وسط الدخان والمشروبات الكحولية والأصوات العالية. كان عليه – وهو لاعب وسط محترف وطبيب- أن لا يقرب الخمر ولا الدخان. بيد أنه كان فيلسوفا أيضا، ختم حياته بطريقته المعتادة التي تمتاز بالصفاء وخفة الدم.
نقلا عن "الأحداث"
badreldin ali [alibadreldin@hotmail.com]