هكذا وفي إغفاءة وسن من نسيان وفي غربة بالخليج طالت وطوت من اعمارنا باغتني خبره كالصاعقة ,هز كياني ورجرج وجداني رحيل الشقيق والصديق ورجل الأعمال والإحسان والخير المهندس صلاح الدين حسن مطر , نعته اخبار السودان في يوم نحس شخصت فيه الخطوب وانشقت الجيوب وإنبهمت في حلكته الدروب , رحل صلاح وطوي معه عصرا بأكمله , عصرا كان هو من بناته ومانحي صفاته وقائدي حداته ,أيه يا صلاح من الم ممض قّتال وحزن تنوء من حمله الجبال, ترحل بغتة تاركا الغم ينتشاشنا والضياع يلفنا والهموم تئزنا كأنما الموت قد بدأ بك انت وحدك دون غيرك ,وكأنما ذهبت انت اليه في مكمنه تواجهه رابط الجأش لا خائف ولا هياب . لموت صلاح رواية طويلة مستطيلة من صراع مع الحياة المرير, ولد صلاح اربعينات القرن الماضي كثالث اربعة ذكور هم احمد عن والده ,وهاشم وشريف وبابكر واناث هن حاجة ونفيسة وامونة, عن امه ووالده ,رحم الله من مات واطال الله في عمر شريف ومن بقي من ذريته. تفتحت عيوننا صبيانا جمعيا في مدينة ودمدني, كان ذلك في خمسينات وستينات القرن الماضي, عمل صلاح اول ما عمل كرسيم هندسي في وزارة الري يوم كان للوظيفة قدرومكانة, وكان للحياة ايقاع متمهل, وللصبر علي شدة ألأيام جسارة دأب صلاح في نضال لاينقطع في تربية اخوته واخواته في حضن امرأة عظيمة هي الحاجة ستنا يرحمها الله ويحسن اليها , شببنا عن الطوق واطلينا علي عالم ذلك الزمان ,كان صلاح كما عهده كل من عرفه شديد الإعتداد بنفسه به نهم عظيم للمعرفة ,وتوق قوي للعمل وإصرار لاينيء علي الصعود دائما الي الأعلي , فأجاد علم الهندسة عملا قبل ان يكون نظرية فلم يدخل جامعة ولكنه بشهادة من دخلوها كان بارعا متفوقا في طرائق وفنون العمارة والعمران حتي بني صروحا من المشاريع المميزة وكذا صروحا من المجد والنجاح. • في ستينات القن المنصرم كان صلاح من اوائل المهاجرين الي المملكة السعودية ذهب الي هناك وعمل في مجال البناء سنينا فزاد خبرة جمة ونضوجا بائنا فالنضوج سمةٌ تعيدُ ترتيب الأشياء والأشخاص ,فقفل صلاح عائدا الي السودان مزودا بالطموح فدخل معترك البناء والعقارات فأحرز نجاحا منقطع النظيرفوسع من مشاريعة وصار رجل اعمال يشار اليه البنان , هذا عن صلاح المهندس ورجل العمال , فماذا عن صلاح الإنسان القاريء والمثقف والمتبحر في التاريخ وسير الرجال والابطال , عرف صلاح راصدا دقيقا لتاريخ السودان ملما بتفاصيليه من العصور القديمة حتي قيام الثورة المهدية, وفي المهدي والمهدية يمتلك صلاح قدرة عجيبة علي تحليل احداثها والتوقف عند محطاتها ورموزها ,وصلاح هذا جانب منه يعني بالتاريخ ومسيرته ,ولكن له جانب اخر هو الكتابة التي اجادها وكان له بعد الإنتفاضة عمود يومي رصين في صحيفة السياسة يحلل فيه الأحداث من منظورالكاتب الماهرالساخر, ولاتتوقف ماثر صلاح عند حد الهندسة والتاريخ والكتابة والتجارة فهي تتتعداها الي الإنسانية باوسع وانبل معانيها ,والي الكرم بإتساع مواعينه واريحيته ,فقد كانت له جمعة جامعة في منزله المقابل "للكرين" في الخرطوم البحرية , هذه الجمعة بذبحيتها التي لم تتوقف حتي رحيله , بابه مفتوح فيها تجد في صالونه فسيفساء من الناس ,سياسيون من كل مشرب, وفنانون ونجوم كرة كانوا مشهورون فجار عليهم الزمان فسقطوا من ذاكرة المجتمع إلا ذاكرة صلاح التي كانت تحفظ لهم مكانا خبيئا فيها, يحلحل مشاكلهم , ويقدم لهم في صمت الزاهدين يد المساعدة ما استطاع الي ذلك سبيلا ,ومن انسانيات صلاح انه رعي االشاعر المبدع الراحل ابو منه حامد , رعاه معافيا ومريضا حتي لبى نداء ربه , ومن ماثر صلاح وهي لاتحصي ولا تعد انه كان يرعي اسرا باكملها يدفع عنها ايجارات منازلها , ويعالج مرضاها ,ويعلم ابنائها وبناتها ,وتمتد سيرة صلاح لتقترن بسيرة عائلة مطر سيرة مدهشة وباهرة ,كان رائدها اول سندباد سوداني هو احمد حسن مطر اول سوداني هاجرالي اميركا اللاتينية جنبا الي جنب مشاهير مثل ميخائيل نعيمه وجبران خليل جبران وغيرهم من المهاجرين العرب الأوائل , طاف انحاء الكرة الارضية بكل إتجاهاتها, شارك في الثورة العربية الكبري في الجزيرة العربية واتهم بمقتل السير ستاك حاكم عام السودان عام 1924, وشارك في ثورة عبد الكريم الخطابي ضد الإستعمار الفرنسي "والتحق بجيش الشريف حسين بن علي شريف الحجاز كضابط ومحارب محترف، وما لبث أن أُبعد عن الحجاز لاشتراكه مع آخرين من الضباط فيمحاولة إنقلاب عسكري فأعيد للسودان. صار رئيسا لجمهورية الدومنكان لشهر كامل عندما اختلف ثوارذلك البلدعلي من يحكم بعد اطاحة النظام هناك, وعندما تفجرت أحدث ثورة 24 بالسودان، كان هذا دافعاً له ليساهم في مسألة الدفع بالمناداة باستقلال السودان، فانضم لوفد سعد زغلول إلى لندن بخصوص مفاوضاته الشهييرة مع ماكدونالد، وبعث بالفعل بأول برقية احتجاج على استعمار بريطانيا للسودان ومصر، إلى رئيس الوزراء البريطاني رامزي ماكدونالد مندداً فيها بسياسات الاستعمار ضد مصر والسودانة "، وشبيه للرحالة مطرالكبيرسارالمخرج والسينمائي الراحل بكري مطر علي خطي السندباد فجرب الفنون علي مختلف الوانها وخاض الأسفارفي الأمصار بحثا عن المدهش والجديد وتواصل سيرة ال مطر حتي الراحل صلاح الذي اختاره الله الي جواره بعد حياة زاخرة بصالح الاعمال وطيب الخصال, الا رحم الله صلاحا ومن سبقوه في الرحيل من اسرته رحمة واسعة وجعلهم مع الصديقين والشهداء .