في رَثاءِ وذِكرى عَلِي وَدْ خَمْخَام – فارس الفَضْوَة
بلّة البكري
16 February, 2023
16 February, 2023
16 فبراير 2023م
انتقل علي ود خَمْخام، عليه الرحمة، الى دار الخلود في الخامس من فبراير 2023م، عن عمرٍ قارب المائة عام، ودُفن في مقابر أجداده، "أم-زِين وُحامد"، في البلد في "أم صِمِيمي وُلاد-مَاقا" بمحلية أم دَمْ بولاية شمال كردفان. في الأسطر التالية لمحات من حياة هذا الرجل الريفي البسيط، لا توفيها إلا القليل. وقد منيتُ النفس أن ألتقيه، مرة أخرى، قبل الرحيل الأبدي ولكن لم يكن ذلك ممكناً مع الغُربة والتزاماتها القاسية. وها قد رحل ود خمخام دون أن نُحظى بوداعه. الدوام لله.
على مشارف ثورة 1924م أو نحو ذلك الوقت تهللت البلد بزغرودة الفرح في دار الشيخ ضوالبيت ود مْحُمَّد ود حَمّاد ود عَلي ود رَملي ود مسعود، في بادية الفَضْوة، في شرق كردفان معلنة مقدم أول أحفاده، مولوداً ذكرا لإبنه البكر، مْحُمّد-أحمد (خَمْخام). فرح الشيخ ضوالبيت بمقدم الحفيد الذي سيحمل راية الأسرة واسمها لأجيال ستأتي. ذبحوا ذبائح السِّماية والحُرّارة في اليوم السابع لمقدمه وأولموا للقوم واختاروا له اسم "عَلِي" تيمنا بجده، الفارس، عَلي ود رَمْلي ود مسعود. وفارساً بالفعل قد صار، فيما بعد، في مجمل حياته العامرة تماما كما أرادوا له. أما من جهة والدته، رَخِّية بت عَجبنا ود علي، فهو حفيد الشيخ علي ود أحمد (تِنْدِل) ود خليفة ود رملي ود مسعود؛ والد جده، عجبنا ود علي، والذي له أواصر قربى من جهة والدته زمزم بت مختار في قبيل الحَرّانية في قرى تًنْدار وود الرُفاعي وبِتْبتُو. ولفرع أسرة والدته علاقات مصاهرة بآل العمدة محمد الفكي سليمان في الشقيلة؛ حيث تزوج ابنه عبد الرحمن (َحنَّان) محمد الفكي، شقيق العمدة الخليل، آمنة بت عجبنا ود علي شقيقة والدته؛ وهي والدة ابنته عائشة بت حَنّان والتي لها ذرية وأحفاد في مدينة الرهد أبو دكنة. ولنفس الفرع من أسرة والدته علاقة قربى، من ناحية جدته فاطمة بت أحمد ود خليفة وزوجها أحمد ود سعد ود زايد الملقب ب "وَد النِّية"؛ وقد أنجبا بنتاً وحيدة عرفت في الأسرة ب "بِت ود النِيَّة" وهي والدة أبناء وبنات الشيخ حسن سليمان الأصم في قرية الدُّومة المجاورة وجدة أبناء الشريف عثمان الزاكي، في الدُّومَة، وأبناء العمدة الأمين الخليفة محمد آدم في قرية البَحرية جوار أم بَالجِيْ. كما للأسرة الممتدة ، بفرعيها، أواصر قربى وديار عامرة في الصعيد حيث أقام خاله، عبد الله ود عجبنا ورهطه، طوال حياته، في شمال مدينة الرهد أبو دكنة في قرى كَدْرُوكة وما جاورها من قرى أم سكينة وأم هبيلة وفنقوقة وكعابر وبُولي وأم كَدادة وكِندوة وأم قنّاص. وتمتد فروع الأسرة الممتدة الى غرب بارا في أم أربعة ودار صباح في الحُمَرَة وكوّاية وأم عزيز وفي ديار ولادسخيل في هَجّام وفي غرب كردفان في غبيش.
قالوا إنّ والده، خمخام، قد عُرف عنه إنه كان دوماً حاملاً عصاه على عاتقه متنقلاً من رَبْعٍ الى ربع ينازل الفرسان في البُطان في الصفقة ويطارح شعراء الحَرْدَلّو في البوش حتى لقبوه ب "خَمْخام"؛ لقباً عٌرف به طوال حياته. وهكذا نشأ عليٌّ ود خمخام في كنف جده الشيخ ضوالبيت وتربى في بيته الكبير العامر وعُرف في حياته بلقبه الذي اشتهر به: "ود خَمْخَام". هذه النقلة التي حدثت في حياته الباكرة بإشراف جده الشيخ على تربيته كان لها أثراً بائناً في شخصيته. فقد تشابهت خصاله وخصال الشيخ في الشجاعة والكرم وتحمل المشاق. بل ذهب من عرفوهما إنه يشبه جده الشيخ في التفاني ونكران الذات. ثم إنه وقف على أخبار المهدية على أيدي من عاصروها من كبار السن من أجداده وخاصة أخبار هجمات الجهادية التي كانت تروع الناس، في المهدية، وتستولي على أنعامهم قسراً؛ بل وتقتل كل من تسول له نفسه بالمواجهة. قتلوا الفارس أب سِنْ ود جاموسين وأحمد ود عبد الله ود دفع الله (الإحيمر) ود طَرّوم من أهلنا أولاد أبو سليمان وآخرين في جبل المُقْنَص وساقوا أبقارهم قسراً. طعنوا الشيخ المكي ود جابر بالحربة عندما اعترض على أفعالهم، وأخذوا بعض فرسان القبيلة أسرى أشهرهم مْحُمّد-علي ود سليمان ود حمّاد (ود نِويري). ولولا لطف الله وشجاعة الشيخ وزعيم القوم مْحُمّد ود حمّاد الذي تعقب الجناة وانتصر عليهم في نهاية الأمر لضاع الكثيرون. كل هذه الحكاوي وما بها من مادة تاريخية قيمة، يحكيها ود خمخام بتفاصيل مدهشة وكأنه كان شاهداً عليها.
كانت البلد تعاني من وقت لآخر من هجمات الهمباتة. يأتون خلسةً في الليل من البوادي الشمالية والغربية لكردفان، يسوقون الإبل ليلاً ويتجهون بها جهة الشمال الغربي نواحي جبل المِلِيسة وجِرِيجِخ وبير سَرّار في إتجاه جَبْرة الشيخ. هناك الأرض شبه حجرية يصعب معها قص الدرب وتتبع الأثر. يفزع الناس في أثر إبلهم حتى يصلوا تلك النواحي فيختفي الأثر فجأة وكأن أبلهم قد ابتلعتها الأرض. وهكذا ضاعت مئات الإبل من كرام النعم عبر السنين لأن الهمباتي دوما يتخير الأصهب والأغلى ثمناً. تغير هذا الأمر كثيرا عندما شب ود خمخام عن الطوق وأصبح رجلاً يعرف ألاعيب الهمباتة وحيلهم. كان لا يقتفي أثراً البتة وإنما يتجه مباشرة لخشم الوادي (جهة بير سرّار) وكأنه على موعد مسبق مع الهمباتي. وأحياناً يدخل الهمباتي الوادي مأمِّلاً في النجاة ليجد ود خمخام قد سبقه الى هناك مشرعاً سيفه؛ فيتم التسليم والتسلم على طريقة الفرسان. وعلى الرغم من ذلك نجح الهمباتة في أن يفلتوا بالكثير من خيرة إبل القبيلة أشهرها بعيراً أصهب أبيض اللون اسمه الفُنْجال، عمّ صيته البلد، كان مملوكاً للأسرة وبعض بُكار صهباء من إبل عبد الله ود عَكّام.
في حوالي نهاية الأربعينات من القرن الماضي تزوج من حليمة بت علي ود محُمّد ود محمود من ترب جِدِيِّد ود سعيد والتي أنجبت له عدداً من البنات وثلاثة أولاد سمّى أصغرهم على أبيه. وقد أكرمته الدنيا أن عاش عمراً طويلاً رأى فيه أحفاده، بنيناً وبناتاً، وهم يحملون الدرجات الجامعية وما فوق الجامعية في علوم التربية والطِّب والهندسة والمعمار وغيرها؛ بل ورأي أحفاد أبنائه وبناته أيضا يسيرون في ذات الدرب. سبقته رفيقة دربه، حليمة، عليها الرحمة، الى دار الخلود بزهاء العقدين من الزمان فبقي وحيداً لسنوات تزوج بعدها لكنه لم يكن زواجاً موفقاً هذه المرة، فتم الانفصال وعاد وحيداً ترعاه ابنته، مَكَّة. وفي هذه الفترة تعرض للاعتداء من بعض السفهاء في البلد والذين لم يراعوا تقدم عمره وتضعضع قواه الجسدية فظنوا، مخطئين، إنهم نالوا منه ولم يدروا أنهم أساءوا لأنفسهم..
في حياته العامرة امتدت صداقاته خارج دائرة البلد فقد كان مقرباً من أهلنا النفيعاب وخاصة محمد ود الرضي وأخوه سليمان قادت هذه القربى الى أن صار ابنه محمد-أحمد صهراً للنفيعاب. وكانت له مكانة خاصة عند حاج الخير ود كرار ورهطه الهواوير وعند حمدت الله ود حسين وعلم الهُدى ود حسين وعبد القادر ود دفع الله والدخيري ود الطاهر. مع كل هذا لم ينج الرجل من حسد الحاسدين والذين قال بعضهم إنه ينجح دائماُ في هزيمة الهمباتة لأنه هو نفسه يتعاون معهم ولهذا فهو يعرف أسرارهم. إلا إنها ظلت دوما شبهات لم يثبت منها شيئ بالدليل القاطع، على حد علمي. كان بجانب الزراعة المطرية يعمل جزّاراً في بعض الأحيان وفي بيع وشراء الإبل. وفي إحدى السنوات أدين في قضية ناقة مسروقة اشتراها من أحد أعراب البادية وذبحها في جزارته في سوق البلد. ويبدو أن الإعرابي كان جزءاً من مجموعة استخدمته لتخفي عبره جريمتها وهي التي دلته على ود خمخام ثُمَّ بَلَسَت فيما يبدو لمن أوصل الخبر للسلطات في مركز المديرية. سجنوه في السجن العمومي في أم روابة على زعم إنه شريك في الجريمة بقبوله الشراء من سارق. وقفتُ على تفاصيل القضية وحيثياتها في ذلك الوقت، وبان لي جليّاً إنه برئٌ، تضافرت ضده عدة عوامل منها ممارسات مشبوهة أريد بها أبعاده واجراءات قانونية لا تبدو سليمة. وقد تهلل بعض الهمباتة وزبانيتهم بإبعاده عن مسرح الأحداث حتى يخلو لهم الجو. في مرحلة الاستئناف أو قبلها لا أذكر تبني قضيته صديقٌ محامي وتمت تبرأته قضائياً. وصرنا نتندر بهذه الحكاية كلما زرت البلد والتقينا محذراً إياه من النياق المشبوهة! ونضحك عندما يقول لي: "تاني وِين يا أفنديْ، السِّخِيل أب قرينات دِيْ بقيت ما قَادِر نَسْلَخُه – تَرا أم جُركم ما بتاكل خريفين آ وَدْ أبُوي"..
في سنوات القحط والجفاف التي ضرب المَحَلُ فيها تلك البوادي، في منتصف الثمانينات من القرن الماضي، أصيب بالتهاب رئوي حاد كاد أن يقضي عليه. وقد صادف نزولي البلد في إحدى الإجازات فوجدته في حالة يرثى لها لا يقوى على الحركة. ولا توجد أي وسيلة لنقله للعناية الطبية في المركز. كان يكره المشافي و"هِمِّيز الحكيم الرابط صِلِيبُه كيف الغزال"! كما كان يقول لي؛ ولا يثق في علاجها. حاورته في الأمر وأقنعته بصعوبة، رضخ بعدها للأمر الواقع. وقضينا وقتاً في مستشفى مدينة بَارَا، حيث كان الطبيب المشرف على علاجه انساناً عظيما بحق، أدى واجبه بكفاءة ونكران للذات. ونجا ود خمخام من تلك الكبوة منتصراً كعادته على عاديات الزمان وما أكثرها في ريفنا المُهمَل.
لم يعرف عنه، طوال حياته العامرة، تَبَتُّلاً دينياً أو استغراقاً روحانياً كما يفعل البعض من أقرانه في بيئة البلد المشبعة بالإرث الديني الصوفي العميق. فهناك على مرمى حجر من بلدتنا يوجد مسيد الشيخ عبد الرحيم البُرعي في "الزريبة"، أشهر المتصوفة في السودان والذي يأتيه الزائرون من النواجي والمريحبيبة والمرخة وأم حجر وأم نَالة والهجليج والبِحير وأم بركات بطبولهم زارفاتٍ ووحداناً، مرورا بديارنا. وهناك قبر الشيخ الحريزابي (أبو زهرة التور الشقّ الواطا خُور) في الجوار في الوادي الغربي؛ ومقابر الشيخ أرباب ود علي (من رهط ود جبر الدار وسالم ود سَبَلي) في الوادي الريحي؛ وضريح الشيخ نورالله ود عالِم السلماني في دار النِدِيّانة في الوادي الصباحي؛ وقبة ومسيد الشيخ عبدُ اللهِ ود بِلال "أبو نايب"؛ ومقابر الشيوخ أم-زين وحامد في منتصف البلد. هناك أيضا ضريح وِلاد جابر الأربعة وخامسهم العجمي في الوادي الصَباحي بالقرب من قرية الجابراب بين أم عُشرة والنفيعاب. على الرغم من كلِّ هذا كانت علاقته مع الفكي ومسيدُه تبدأ وتنتهي يوم العيد. كان ينصرف الى داره مسرعاً تاركاً القوم يتمايلون مع دقات النوبة. يقابل هذا العزوف عن الملتحين ونهجهم الذي كرهه ود خمخام شغفٌ بالحكاية الشعبية وما فيها من حكمة. فكنت لا أمل الجلوس عنده في البلد وهو يحكي عن طُرفٍ شتى، أبطالها في الغالب أحد أجدادنا أو جداتنا أو أناس نعرفهم في البلد. وكم ضحكتُ حتى دمعت عيناي على بعض هذه الحكاوي. اسمع حكاية الفكي الذي جاءوا به أجواد في خلاف عائلي بين زوجٍ وزوجةٍ طَمَحَته: قال الفكي للمرأة بنهرة ونبرة استحقار: "يا ولية الراجل دي مأكلك سَمِحْ ومشربك سَمِحْ وملبسك سَمِحْ وحالب ليك لبن الطير ذاتُه، يشهدوا عليك ناس الحِلِّي دي كُووولهم، عِيبُه شُنُو؟ سكتت برهة ثم قالت: "يا مولانا بالحيل لبستَ وأكلت وشربت لكن الرابطاه بحزامتي دي بتأكِّلوا لي إتَّ ولا كِكِّيف الرأي"! انفجر المجلس بالضحك، حوقل مولانا وتمتم مردداً قوله تعالى : “------إنَّ كيدكُنَّ عظيم" وتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وانتهت الجلسة بالضربة القاضية. أو أسمعه يحكي سجع أحد أجدادنا الذي أجبره العُرف والواجب أن "يغطي قَدَحُه" ويتزوج "أم أحمد". وهو تعبير يقال لمن يجبره العرف على زواج قريبته التي لا رغبة له فيها – فتزوجها مكرهاً فيما يبدو. فقال يصف رحلته الى ديارها:
نَوِيت السفر ما قلت باسم الله
عَانِي "أم أحمد" أم مَقُوتاً شَايْ
ما بْتَملى الكَرِش دَفِيس ودَوِاهي
مجبور جَبُر، مَعَنوف عَنَف والله..
كما كان يحلو له أن يحكي عن أحدهم "حسين" والذي سألوه في الضرا بعد أن هبّ نسامٌ رُشاشي لطيف من الهمبريب: "الهبوب دي بتستاهل شنو دَحين يا حسين". فقال لهم: تستاهل راكوبة حاحايي كبيري برا هنااااك ويومك داك تكون مِطَلِّق المرا النوم يجيك كنايت كنايت". ويضحك الجميع نساءا ورجال دون حرج.
في حياة هذا الرجل البسيط حكمة ليتنا نقف على سرها. فهو قد عاش في الريف السوداني المهمَل طوال حياته في انعدام تام لأبسط وسائل الرعاية الطبية. في خلال سنوات حياته التي قاربت المائة لم يزر الطبيب الا في مرات قليلة محسوبة. كان مخمص البطن على الدوام نحيفاً يبدو عليه الهزال؛ يمشي كثيراً في دروب الفضوة ودواديبها يعرف حدود البلدات فيها ويلجأ إليه المتخاصمون ليدلهم على الحَدْ الفاصل بين المزارع الذي سفته الرياح منذ عشرات السنين. يفعل ذلك وكأنه مسّاحٌ خبير بقراءة إحداثيات دقيقة لا يراها إلا هو. وقد تم الاعتماد على مقدراته في هذا المجال حين استعان به القضاء أو المتقاضون، لا أذكر، في السبعينات من القرن الماضي في إحدى القضايا التي قتل فيها شخص وجرح فيها آخرون في نزاع على حدود أرضٍ في وادي الفضوة. فهو “شاهد خبير" مكتمل المؤهل والخبرات في مجال الأرض وحدودها في الريف وملكيتها. ومثله كثيرون لا زالوا على قيد الحياة ويمكن الاستفادة من خبراتهم النادرة في هذا المضمار قبل فوات الأمام.
لقد اعتاد المثقفون أن لا يكتبوا عن مَن هم مِن غِمار الناس إلا ما ندر. فهذا قصور شنيع فيما أرى. فهؤلاء هم مِلح الأرض وعَمدها وفرسان ربوعها. بل هم مكتباتٌ حيّة ذاخرة بالأصيل من المعلومة التراثية والتاريخية والثقافية الهامة، التي ستندثر للأبد عند رحيلهم. فالثقافة المَحكيّة لا تقل عن المكتوبة في أهميتها إن لم تفقها أهمية في مثل مجتمعاتنا الريفية. بل لا يكتمل تاريخ المجتمعات، ريفية كانت أم حضرية، وغير قليل من دقائق الشأن الأنثروبولوجي فيها – من الناحية الأكاديمية البحثية البحتة - دون التواصل الحي مع من هم مثل ود خمخام. ولعل في النهج الذي اتبعه الأستاذ الطيب محمد الطيب، عليه الرحمة، من خلال أبحاثه الميدانية في التراث الشعبي وبرنامجه التلفزيوني الشهير بعنوان "صور شعبية" عبرة للمشتغلين بأمر التراث الشعبي – فهلّا نهجوا نهجه. ولو عاش أمثال ود خمخام في بلادٍ تمجد تاريخ المجتمعات فربما نصبت لبعضهم التماثيل وسميت بأسماء البعض الساحات العامة لما قدموه لمجتمعاتهم الصغيرة من خدمات جليلة على مدىً زمني طويل. ولو كان الرأي عندي لأطلقت اسمه على أحد الأودية في البلد لعل أنسبها هو وادي الفَضْوة الذي خبر دروبه وعرفها معرفته كظاهر يده بل أضحى خبيراً مؤهلاً في شأنه لأمدٍ طويل. وقد يقول قائل، مِن الذين عرفوه عن قرب، كيف نفرد لهذا الرجل حيزاً خاصاً ونحتفي به هكذا وهناك مثله الكثيرون في الريف في مستوى عطائه؛ وهذا صحيح، فليكن ذكره - تخصيصاً - ذكرى مستحقة لكل هؤلاء. رحمه الله.
b.b.dawelbait@gmail.com
انتقل علي ود خَمْخام، عليه الرحمة، الى دار الخلود في الخامس من فبراير 2023م، عن عمرٍ قارب المائة عام، ودُفن في مقابر أجداده، "أم-زِين وُحامد"، في البلد في "أم صِمِيمي وُلاد-مَاقا" بمحلية أم دَمْ بولاية شمال كردفان. في الأسطر التالية لمحات من حياة هذا الرجل الريفي البسيط، لا توفيها إلا القليل. وقد منيتُ النفس أن ألتقيه، مرة أخرى، قبل الرحيل الأبدي ولكن لم يكن ذلك ممكناً مع الغُربة والتزاماتها القاسية. وها قد رحل ود خمخام دون أن نُحظى بوداعه. الدوام لله.
على مشارف ثورة 1924م أو نحو ذلك الوقت تهللت البلد بزغرودة الفرح في دار الشيخ ضوالبيت ود مْحُمَّد ود حَمّاد ود عَلي ود رَملي ود مسعود، في بادية الفَضْوة، في شرق كردفان معلنة مقدم أول أحفاده، مولوداً ذكرا لإبنه البكر، مْحُمّد-أحمد (خَمْخام). فرح الشيخ ضوالبيت بمقدم الحفيد الذي سيحمل راية الأسرة واسمها لأجيال ستأتي. ذبحوا ذبائح السِّماية والحُرّارة في اليوم السابع لمقدمه وأولموا للقوم واختاروا له اسم "عَلِي" تيمنا بجده، الفارس، عَلي ود رَمْلي ود مسعود. وفارساً بالفعل قد صار، فيما بعد، في مجمل حياته العامرة تماما كما أرادوا له. أما من جهة والدته، رَخِّية بت عَجبنا ود علي، فهو حفيد الشيخ علي ود أحمد (تِنْدِل) ود خليفة ود رملي ود مسعود؛ والد جده، عجبنا ود علي، والذي له أواصر قربى من جهة والدته زمزم بت مختار في قبيل الحَرّانية في قرى تًنْدار وود الرُفاعي وبِتْبتُو. ولفرع أسرة والدته علاقات مصاهرة بآل العمدة محمد الفكي سليمان في الشقيلة؛ حيث تزوج ابنه عبد الرحمن (َحنَّان) محمد الفكي، شقيق العمدة الخليل، آمنة بت عجبنا ود علي شقيقة والدته؛ وهي والدة ابنته عائشة بت حَنّان والتي لها ذرية وأحفاد في مدينة الرهد أبو دكنة. ولنفس الفرع من أسرة والدته علاقة قربى، من ناحية جدته فاطمة بت أحمد ود خليفة وزوجها أحمد ود سعد ود زايد الملقب ب "وَد النِّية"؛ وقد أنجبا بنتاً وحيدة عرفت في الأسرة ب "بِت ود النِيَّة" وهي والدة أبناء وبنات الشيخ حسن سليمان الأصم في قرية الدُّومة المجاورة وجدة أبناء الشريف عثمان الزاكي، في الدُّومَة، وأبناء العمدة الأمين الخليفة محمد آدم في قرية البَحرية جوار أم بَالجِيْ. كما للأسرة الممتدة ، بفرعيها، أواصر قربى وديار عامرة في الصعيد حيث أقام خاله، عبد الله ود عجبنا ورهطه، طوال حياته، في شمال مدينة الرهد أبو دكنة في قرى كَدْرُوكة وما جاورها من قرى أم سكينة وأم هبيلة وفنقوقة وكعابر وبُولي وأم كَدادة وكِندوة وأم قنّاص. وتمتد فروع الأسرة الممتدة الى غرب بارا في أم أربعة ودار صباح في الحُمَرَة وكوّاية وأم عزيز وفي ديار ولادسخيل في هَجّام وفي غرب كردفان في غبيش.
قالوا إنّ والده، خمخام، قد عُرف عنه إنه كان دوماً حاملاً عصاه على عاتقه متنقلاً من رَبْعٍ الى ربع ينازل الفرسان في البُطان في الصفقة ويطارح شعراء الحَرْدَلّو في البوش حتى لقبوه ب "خَمْخام"؛ لقباً عٌرف به طوال حياته. وهكذا نشأ عليٌّ ود خمخام في كنف جده الشيخ ضوالبيت وتربى في بيته الكبير العامر وعُرف في حياته بلقبه الذي اشتهر به: "ود خَمْخَام". هذه النقلة التي حدثت في حياته الباكرة بإشراف جده الشيخ على تربيته كان لها أثراً بائناً في شخصيته. فقد تشابهت خصاله وخصال الشيخ في الشجاعة والكرم وتحمل المشاق. بل ذهب من عرفوهما إنه يشبه جده الشيخ في التفاني ونكران الذات. ثم إنه وقف على أخبار المهدية على أيدي من عاصروها من كبار السن من أجداده وخاصة أخبار هجمات الجهادية التي كانت تروع الناس، في المهدية، وتستولي على أنعامهم قسراً؛ بل وتقتل كل من تسول له نفسه بالمواجهة. قتلوا الفارس أب سِنْ ود جاموسين وأحمد ود عبد الله ود دفع الله (الإحيمر) ود طَرّوم من أهلنا أولاد أبو سليمان وآخرين في جبل المُقْنَص وساقوا أبقارهم قسراً. طعنوا الشيخ المكي ود جابر بالحربة عندما اعترض على أفعالهم، وأخذوا بعض فرسان القبيلة أسرى أشهرهم مْحُمّد-علي ود سليمان ود حمّاد (ود نِويري). ولولا لطف الله وشجاعة الشيخ وزعيم القوم مْحُمّد ود حمّاد الذي تعقب الجناة وانتصر عليهم في نهاية الأمر لضاع الكثيرون. كل هذه الحكاوي وما بها من مادة تاريخية قيمة، يحكيها ود خمخام بتفاصيل مدهشة وكأنه كان شاهداً عليها.
كانت البلد تعاني من وقت لآخر من هجمات الهمباتة. يأتون خلسةً في الليل من البوادي الشمالية والغربية لكردفان، يسوقون الإبل ليلاً ويتجهون بها جهة الشمال الغربي نواحي جبل المِلِيسة وجِرِيجِخ وبير سَرّار في إتجاه جَبْرة الشيخ. هناك الأرض شبه حجرية يصعب معها قص الدرب وتتبع الأثر. يفزع الناس في أثر إبلهم حتى يصلوا تلك النواحي فيختفي الأثر فجأة وكأن أبلهم قد ابتلعتها الأرض. وهكذا ضاعت مئات الإبل من كرام النعم عبر السنين لأن الهمباتي دوما يتخير الأصهب والأغلى ثمناً. تغير هذا الأمر كثيرا عندما شب ود خمخام عن الطوق وأصبح رجلاً يعرف ألاعيب الهمباتة وحيلهم. كان لا يقتفي أثراً البتة وإنما يتجه مباشرة لخشم الوادي (جهة بير سرّار) وكأنه على موعد مسبق مع الهمباتي. وأحياناً يدخل الهمباتي الوادي مأمِّلاً في النجاة ليجد ود خمخام قد سبقه الى هناك مشرعاً سيفه؛ فيتم التسليم والتسلم على طريقة الفرسان. وعلى الرغم من ذلك نجح الهمباتة في أن يفلتوا بالكثير من خيرة إبل القبيلة أشهرها بعيراً أصهب أبيض اللون اسمه الفُنْجال، عمّ صيته البلد، كان مملوكاً للأسرة وبعض بُكار صهباء من إبل عبد الله ود عَكّام.
في حوالي نهاية الأربعينات من القرن الماضي تزوج من حليمة بت علي ود محُمّد ود محمود من ترب جِدِيِّد ود سعيد والتي أنجبت له عدداً من البنات وثلاثة أولاد سمّى أصغرهم على أبيه. وقد أكرمته الدنيا أن عاش عمراً طويلاً رأى فيه أحفاده، بنيناً وبناتاً، وهم يحملون الدرجات الجامعية وما فوق الجامعية في علوم التربية والطِّب والهندسة والمعمار وغيرها؛ بل ورأي أحفاد أبنائه وبناته أيضا يسيرون في ذات الدرب. سبقته رفيقة دربه، حليمة، عليها الرحمة، الى دار الخلود بزهاء العقدين من الزمان فبقي وحيداً لسنوات تزوج بعدها لكنه لم يكن زواجاً موفقاً هذه المرة، فتم الانفصال وعاد وحيداً ترعاه ابنته، مَكَّة. وفي هذه الفترة تعرض للاعتداء من بعض السفهاء في البلد والذين لم يراعوا تقدم عمره وتضعضع قواه الجسدية فظنوا، مخطئين، إنهم نالوا منه ولم يدروا أنهم أساءوا لأنفسهم..
في حياته العامرة امتدت صداقاته خارج دائرة البلد فقد كان مقرباً من أهلنا النفيعاب وخاصة محمد ود الرضي وأخوه سليمان قادت هذه القربى الى أن صار ابنه محمد-أحمد صهراً للنفيعاب. وكانت له مكانة خاصة عند حاج الخير ود كرار ورهطه الهواوير وعند حمدت الله ود حسين وعلم الهُدى ود حسين وعبد القادر ود دفع الله والدخيري ود الطاهر. مع كل هذا لم ينج الرجل من حسد الحاسدين والذين قال بعضهم إنه ينجح دائماُ في هزيمة الهمباتة لأنه هو نفسه يتعاون معهم ولهذا فهو يعرف أسرارهم. إلا إنها ظلت دوما شبهات لم يثبت منها شيئ بالدليل القاطع، على حد علمي. كان بجانب الزراعة المطرية يعمل جزّاراً في بعض الأحيان وفي بيع وشراء الإبل. وفي إحدى السنوات أدين في قضية ناقة مسروقة اشتراها من أحد أعراب البادية وذبحها في جزارته في سوق البلد. ويبدو أن الإعرابي كان جزءاً من مجموعة استخدمته لتخفي عبره جريمتها وهي التي دلته على ود خمخام ثُمَّ بَلَسَت فيما يبدو لمن أوصل الخبر للسلطات في مركز المديرية. سجنوه في السجن العمومي في أم روابة على زعم إنه شريك في الجريمة بقبوله الشراء من سارق. وقفتُ على تفاصيل القضية وحيثياتها في ذلك الوقت، وبان لي جليّاً إنه برئٌ، تضافرت ضده عدة عوامل منها ممارسات مشبوهة أريد بها أبعاده واجراءات قانونية لا تبدو سليمة. وقد تهلل بعض الهمباتة وزبانيتهم بإبعاده عن مسرح الأحداث حتى يخلو لهم الجو. في مرحلة الاستئناف أو قبلها لا أذكر تبني قضيته صديقٌ محامي وتمت تبرأته قضائياً. وصرنا نتندر بهذه الحكاية كلما زرت البلد والتقينا محذراً إياه من النياق المشبوهة! ونضحك عندما يقول لي: "تاني وِين يا أفنديْ، السِّخِيل أب قرينات دِيْ بقيت ما قَادِر نَسْلَخُه – تَرا أم جُركم ما بتاكل خريفين آ وَدْ أبُوي"..
في سنوات القحط والجفاف التي ضرب المَحَلُ فيها تلك البوادي، في منتصف الثمانينات من القرن الماضي، أصيب بالتهاب رئوي حاد كاد أن يقضي عليه. وقد صادف نزولي البلد في إحدى الإجازات فوجدته في حالة يرثى لها لا يقوى على الحركة. ولا توجد أي وسيلة لنقله للعناية الطبية في المركز. كان يكره المشافي و"هِمِّيز الحكيم الرابط صِلِيبُه كيف الغزال"! كما كان يقول لي؛ ولا يثق في علاجها. حاورته في الأمر وأقنعته بصعوبة، رضخ بعدها للأمر الواقع. وقضينا وقتاً في مستشفى مدينة بَارَا، حيث كان الطبيب المشرف على علاجه انساناً عظيما بحق، أدى واجبه بكفاءة ونكران للذات. ونجا ود خمخام من تلك الكبوة منتصراً كعادته على عاديات الزمان وما أكثرها في ريفنا المُهمَل.
لم يعرف عنه، طوال حياته العامرة، تَبَتُّلاً دينياً أو استغراقاً روحانياً كما يفعل البعض من أقرانه في بيئة البلد المشبعة بالإرث الديني الصوفي العميق. فهناك على مرمى حجر من بلدتنا يوجد مسيد الشيخ عبد الرحيم البُرعي في "الزريبة"، أشهر المتصوفة في السودان والذي يأتيه الزائرون من النواجي والمريحبيبة والمرخة وأم حجر وأم نَالة والهجليج والبِحير وأم بركات بطبولهم زارفاتٍ ووحداناً، مرورا بديارنا. وهناك قبر الشيخ الحريزابي (أبو زهرة التور الشقّ الواطا خُور) في الجوار في الوادي الغربي؛ ومقابر الشيخ أرباب ود علي (من رهط ود جبر الدار وسالم ود سَبَلي) في الوادي الريحي؛ وضريح الشيخ نورالله ود عالِم السلماني في دار النِدِيّانة في الوادي الصباحي؛ وقبة ومسيد الشيخ عبدُ اللهِ ود بِلال "أبو نايب"؛ ومقابر الشيوخ أم-زين وحامد في منتصف البلد. هناك أيضا ضريح وِلاد جابر الأربعة وخامسهم العجمي في الوادي الصَباحي بالقرب من قرية الجابراب بين أم عُشرة والنفيعاب. على الرغم من كلِّ هذا كانت علاقته مع الفكي ومسيدُه تبدأ وتنتهي يوم العيد. كان ينصرف الى داره مسرعاً تاركاً القوم يتمايلون مع دقات النوبة. يقابل هذا العزوف عن الملتحين ونهجهم الذي كرهه ود خمخام شغفٌ بالحكاية الشعبية وما فيها من حكمة. فكنت لا أمل الجلوس عنده في البلد وهو يحكي عن طُرفٍ شتى، أبطالها في الغالب أحد أجدادنا أو جداتنا أو أناس نعرفهم في البلد. وكم ضحكتُ حتى دمعت عيناي على بعض هذه الحكاوي. اسمع حكاية الفكي الذي جاءوا به أجواد في خلاف عائلي بين زوجٍ وزوجةٍ طَمَحَته: قال الفكي للمرأة بنهرة ونبرة استحقار: "يا ولية الراجل دي مأكلك سَمِحْ ومشربك سَمِحْ وملبسك سَمِحْ وحالب ليك لبن الطير ذاتُه، يشهدوا عليك ناس الحِلِّي دي كُووولهم، عِيبُه شُنُو؟ سكتت برهة ثم قالت: "يا مولانا بالحيل لبستَ وأكلت وشربت لكن الرابطاه بحزامتي دي بتأكِّلوا لي إتَّ ولا كِكِّيف الرأي"! انفجر المجلس بالضحك، حوقل مولانا وتمتم مردداً قوله تعالى : “------إنَّ كيدكُنَّ عظيم" وتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وانتهت الجلسة بالضربة القاضية. أو أسمعه يحكي سجع أحد أجدادنا الذي أجبره العُرف والواجب أن "يغطي قَدَحُه" ويتزوج "أم أحمد". وهو تعبير يقال لمن يجبره العرف على زواج قريبته التي لا رغبة له فيها – فتزوجها مكرهاً فيما يبدو. فقال يصف رحلته الى ديارها:
نَوِيت السفر ما قلت باسم الله
عَانِي "أم أحمد" أم مَقُوتاً شَايْ
ما بْتَملى الكَرِش دَفِيس ودَوِاهي
مجبور جَبُر، مَعَنوف عَنَف والله..
كما كان يحلو له أن يحكي عن أحدهم "حسين" والذي سألوه في الضرا بعد أن هبّ نسامٌ رُشاشي لطيف من الهمبريب: "الهبوب دي بتستاهل شنو دَحين يا حسين". فقال لهم: تستاهل راكوبة حاحايي كبيري برا هنااااك ويومك داك تكون مِطَلِّق المرا النوم يجيك كنايت كنايت". ويضحك الجميع نساءا ورجال دون حرج.
في حياة هذا الرجل البسيط حكمة ليتنا نقف على سرها. فهو قد عاش في الريف السوداني المهمَل طوال حياته في انعدام تام لأبسط وسائل الرعاية الطبية. في خلال سنوات حياته التي قاربت المائة لم يزر الطبيب الا في مرات قليلة محسوبة. كان مخمص البطن على الدوام نحيفاً يبدو عليه الهزال؛ يمشي كثيراً في دروب الفضوة ودواديبها يعرف حدود البلدات فيها ويلجأ إليه المتخاصمون ليدلهم على الحَدْ الفاصل بين المزارع الذي سفته الرياح منذ عشرات السنين. يفعل ذلك وكأنه مسّاحٌ خبير بقراءة إحداثيات دقيقة لا يراها إلا هو. وقد تم الاعتماد على مقدراته في هذا المجال حين استعان به القضاء أو المتقاضون، لا أذكر، في السبعينات من القرن الماضي في إحدى القضايا التي قتل فيها شخص وجرح فيها آخرون في نزاع على حدود أرضٍ في وادي الفضوة. فهو “شاهد خبير" مكتمل المؤهل والخبرات في مجال الأرض وحدودها في الريف وملكيتها. ومثله كثيرون لا زالوا على قيد الحياة ويمكن الاستفادة من خبراتهم النادرة في هذا المضمار قبل فوات الأمام.
لقد اعتاد المثقفون أن لا يكتبوا عن مَن هم مِن غِمار الناس إلا ما ندر. فهذا قصور شنيع فيما أرى. فهؤلاء هم مِلح الأرض وعَمدها وفرسان ربوعها. بل هم مكتباتٌ حيّة ذاخرة بالأصيل من المعلومة التراثية والتاريخية والثقافية الهامة، التي ستندثر للأبد عند رحيلهم. فالثقافة المَحكيّة لا تقل عن المكتوبة في أهميتها إن لم تفقها أهمية في مثل مجتمعاتنا الريفية. بل لا يكتمل تاريخ المجتمعات، ريفية كانت أم حضرية، وغير قليل من دقائق الشأن الأنثروبولوجي فيها – من الناحية الأكاديمية البحثية البحتة - دون التواصل الحي مع من هم مثل ود خمخام. ولعل في النهج الذي اتبعه الأستاذ الطيب محمد الطيب، عليه الرحمة، من خلال أبحاثه الميدانية في التراث الشعبي وبرنامجه التلفزيوني الشهير بعنوان "صور شعبية" عبرة للمشتغلين بأمر التراث الشعبي – فهلّا نهجوا نهجه. ولو عاش أمثال ود خمخام في بلادٍ تمجد تاريخ المجتمعات فربما نصبت لبعضهم التماثيل وسميت بأسماء البعض الساحات العامة لما قدموه لمجتمعاتهم الصغيرة من خدمات جليلة على مدىً زمني طويل. ولو كان الرأي عندي لأطلقت اسمه على أحد الأودية في البلد لعل أنسبها هو وادي الفَضْوة الذي خبر دروبه وعرفها معرفته كظاهر يده بل أضحى خبيراً مؤهلاً في شأنه لأمدٍ طويل. وقد يقول قائل، مِن الذين عرفوه عن قرب، كيف نفرد لهذا الرجل حيزاً خاصاً ونحتفي به هكذا وهناك مثله الكثيرون في الريف في مستوى عطائه؛ وهذا صحيح، فليكن ذكره - تخصيصاً - ذكرى مستحقة لكل هؤلاء. رحمه الله.
b.b.dawelbait@gmail.com