في قصيدته الجديدة: (حيث) .. محمد المكي إبراهيم يرثي الوطن!
لعلّ من غرائب الحياة، أن ليس بالضرورة أن يخضع المنتج الإبداعي لقانون زمن التعاسة وانحطاط الذوق العام وفساد القيم ضربة لازب. ففي أكثر فتراات التاريخ إنحطاطاً خرجت من عقول أحرار المواطنين ألوان الفكر الرصين جنباً إلى جنب مع روائع الإبداع الإنساني. وفي تاريخنا المعاصر فإن أعذب الأناشيد الوطنية وأغنيات الغزل السياسي خرجت من حناجر عرفت ظلمات الزنازين واستجواب عسس أنظمة القهر والإستبداد. هل كنّا سنحظى مثلاً بمارسليز الشعب السوداني "عزة في هواك" لخليل فرح ، أو"لن أحيد" لحسن خليفة العطبراوي لو لا حظر المستعمر للكلمة المتمردة؟ وهل كنا سننعم بأرقى قصائد الغزل السياسي لمحجوب شريف وعمر الطيب الدوش والتجاني سعيد وآخرين حيث صدحت بها حنجرة فنان أفريقيا الأول محمد وردي لو لا مضايقات وعسف الأنظمة القمعية؟
العمل الإبداعي الراقي إذن لا يخضع لقوانين الحظر التي تحاصر القلم والحنجرة في أي مكان وزمان. فقد استطاعت لوحة "مذبحة غرونيكا" لبابلو بيكاسو أن تتحدى فاشية دكتاتور إسبانيا وتبقى شاهداً على المذبحة التي قامت بها طائرات هتلر وموسوليني معاضدة لفرانكو بقصد إطفاء ثورة وتمرد شعب الباسك. ومن هناك جاءت للعالم تلك اللوحة التاريخية. ومن هناك جاءتنا قصائد شاعر الغجر فيديريكو غارسيا لوركا مخترقة كل الموانع والزنازين، حيث يقول:
مائَة فارِسٍ حَزين،
إلى أَيْنَ يَتَوَجّھون، عَبْرَ ھَذه السّماءِ النّازِفَة؟
لِحُقولِ البُرْتُقال؟
لَنْ يَصِلوا لِقُرْطُبَة، لا لَنْ يَصِلوھا!
و لا لإشْبیلِیّة، و لا لِغَرْناطَة المُتَأَوّھَة بَعْدَ البَحْر.
سَتَحْمِلُھُم، ھذه الجِیادُ الغَافِیَة، إلى مَتاھَةِ المِحَن!!
ليس باعتقادي من ليل اكثر حلكة وسواداً في تاريخ بلادنا الحديث من الزمن التعيس الذي عاشته وتعيشه أمتنا منذ قرابة الثلاثة عقود. ونكاد نقول دون مغالاة أن هذه الفترة شديدة القتامة صارت بمثابة ليل حزن مرير وطويل. ولعل قبيل الإبداع هم أكثر من ابتلوا بمضايقات نظام الإبادة الحالي خلال هذه الفترة. لكن ظلت جماهير شعبنا تردد أحلى أغنيات وردي ومصطفى سيد احمد ومحمود عبد العزيز وتكتب في رسائلها المتبادلة أشعار محجوب شريف والدوش وحميد وآخرين. الكلمة إذن لم تفقد صداها ونفثها الثوري رغم كل أصناف الضيق والتنكيل والحرب التي لا تنتهي ضد الإبداع بكل أشكاله. ولأن الكلمة - وهي تقاوم - تعرف كيف تعطي نفسها أكثر من معنى وأكثر من لون ، فقد صار الشعر - كما هي طبيعته في مثل هذه الظروف - لغزاً عصياً على ماكينة الإذلال وأدوات التعذيب.
ولأن أمتنا كما أسلفت ، تعيش ليل محنتها الدامس برحيل النوارس واحدا إثر الآخر، فإنّ قصيدة الرثاء خلعت ثوبها النمطي الكلاسيكي وارتدت عند كبار مبدعينا ثوباً يشبه غموض وشراسة المرحلة. ودون الإنخراط في شرح ما نحن بصدد الحديث عنه أود أن أعطي أنموذجاً لما قلت أعلاه قصيدة حملتها لنا الأسافير، لشاعر ترك بصمته واضحة في دفتر الشعر السوداني. القصيدة إسمها (حيث) ، للشاعر محمد المكي ابراهيم.
أعجبتني القصيدة كمنحى جمالي وكعطاء فني شديد الجودة من حيث القاموس الشعري واستخدام الرمز بتقنية وحرفية عالية. فالقصيدة - وهي مرثية لناشط حقوق الإنسان والقضايا المدنية الدكتور أمين مكي مدني الذي رحل بنهاية الأسبوع المنصرم إلى الدار التي لا ترقى إليها الأباطيل - تكاد تكون مرثية
لوطن ولحقبة كانت. ولعل أختيار كلمة "حيث" كعنوان للقصيدة تفترض غموضاً يبدأ بتساؤلات عند المتلقي من أول القصيدة ولا تتضح الصورة إلا في الختام. فكلمة "حيث" في معجم المعاني العربية هي : (.. ظرف للمكان يُبنى على الضمّ ويضاف للجُمل، وهو مبهم يوضِّحه ما بعده ، وقد يدلّ على الزمان )!
باعتقادي أن الشاعر قد اختار هذا الظرف المبهم خصيصاً ليسكب على جسد قصيدته معنىً ينسجم مع طقس الرثاء ضمن الغضب العام والحزن واليأس الذي قد يودي بوطن وشعب إلى الكارثة:
حيثُ لا ينبتُ العشبُ
لا يصهلُ النهرُ
لا تتصابَى الصبايا
ولا يستبين الكلامْ !
وتتكرر المفردة الظرف "حيث" من بداية القصيدة حتى قرب نهايتها، لنقف على ما تفصح عنه القصيدة في حالتين : (حيث لا ينبت العشب) و(حيث لا يصهل النهر) فذاك يعني الخواء والعدمية والموت. وهو يعني وقوع الحاضر أسيراً للفوضى المدمرة وحصار إنسانية الفرد وإهانتها:
حيث يمنع ماء الوضوء عن الروح
والروح تخرج من يأسها كالقذيفة
هاربة من نخاع العظام!
لا تتصابَى الصبايا
ولا يستبين الكلامْ !
لكن في المقابل فإنّ "حيث الظرفية" ترثي زمناً كان غير هذا الزمان القحط. ترثي زمناً كان أنضر وأجمل. ولإيضاح هذه المقابلة فإن الشاعر يستخدم للمعنى المبهم الفعل الماضي "كان". فبدلا من جفاف الأرض حيث لا يجري النهر ويعربد فلا ينبت العشب في الحاضر فتكون النتيجة موت الحب (لا تتصابى الصبايا) وموت الحكمة ومعاني الجمال (ولا يستيبين الكلام)- بدلاً من هذه العدمية والموت في الحاضر حيث يستخدم المضارع في (لا تتصابى...) و (لا يستبين....) نجده في المعنى المقابل لمغزى القصيدة يشير إلى جمال الدنيا والحياة حين كان كل شيء له طعم الحياة:
حيث لا ينبت العشب
كانت تفوح الخزامى
ويسعى القطا والحمام
بل كان المغنّي يملأ الأرجاء طرباً والشاعر يصوغ الكلام الحلو. هذه إذن حالة هي العكس تماماً لحالة الصمت في الحاضر- الصمت دليل غياب الحنجرة وموت الحكمة: (لا تتصابَى الصبايا ولا يستبين الكلامْ !)
ويكتمل المعنى ، وتتضح الصورة في نهاية القصيدة:
حيث خيّم عصر الظلام
كان لي وطنٌ لم يعُدْ وطناً
وزمانٌ أليفٌ
فضيّعتُه في الزّحامْ !
يفصح الشاعر عن غموضه الجميل والحزين حيث المقابلة بين أمس برزانته وعذب الغناء وبين حاضر يطبق على الحنجرة ويسحق الجمال ويزهق الروح (حيث يمنع ماء الوضوء عن الروح)!
ليقول لنا فيما يشبه رثاء وطن بكل تاريخه إذ خيم كابوس الظلام : (كان لي وطن ، لم يعد وطناً)!!!!
هذه محاولة لقراءة عمل شعري توسمنا فيه جمال الصورة وحداثة استخدام الرمز وجزالة المفردة. ولعل شاعر (أمتي) و(بعض الرحيق أنا والبرتقالة أنت) قد خرج بهذه القصيدة من حالة صمت وركون طالت. ويسعدني أن أقول أن في قصيدته هذه قفزة لا تخطئها عين القارئ للشعر الجيد في زمن الركاكة والإنحطاط.
فضيلي جمّاع
لندن- الإثنين 3 سبتمبر 2018
fjamma16@yahoo.com
////////////////