في نقد خطاب الهامش (نموذج اردول)!!

 


 

 

abdullahaliabdullah1424@gmail.com

بسم الله الرحمن الرحيم
الدولة كأحد منجزات الحداثة ما زالت تعاني في مجتمعات غير حديثة. وما جعل الامر اكثر تعقيد، ان نقص وعي الدولة في تلك المجتمعات، يفاقم من حالة قصور الوعي العام، لتصبح وكأن اشكالات المجتمعات ذات طبيعة دائرية او حلقات يصعب كسرها. بل حتي عندما تحدث الثورات كرهان علي كسر هذه الحلقات المستحكمة، نجدها وبسرعة شديدة تنتج حلقتها الشريرة التي تعيد الوضع اسوأ مما كان عليه. وهو ما يفرض بدوره اسئلة ذات طبيعة دائرية من شاكلة، ايهما يسبق الآخر نشر الوعي ام الاصلاح؟ والمفارقة ان ذات الاسئلة تطرح في ظروف طاردة للوعي وممانعة للاصلاح بسبب تجذر بيئة الاستبداد.
واحتمال الاستعمار رغم كونه بذر بذور الحداثة، وبما فيها الدولة كجهاز اداري وخدمي وإطار سيادي، إلا انه لعب دورا معاكسا، عندما ساهم في افراز نخب واحزاب وحياة سياسية كرست جهدها للتخلص من الاستعمار، اي حاصل وعيها هو التحرير، وهو بطبعه وعي اختزالي عماده الحماس والعاطفة ورد الاعتبار للكرامة الوطنية. ووعي التحرير كوعي تكتيكي قد يكون مفيد علي المدي القصير، ولكنه كارثي علي المدي الطويل، عندما يعيق نمو، بل يحل محل، الوعي الاستراتيجي، ذو الافق المفتوح علي المستقبل والمستصحب لكافة تحديات الحاضر. وهذا الوعي التكتيكي الذي وسم حياتنا السياسية مبكرا، هو ما افرز ابتلاء السلطة كهاجس سياسي، عوض الوعي الاستراتيجي الذي يستهدف بناء الدولة وتنمية المجتمع، وهو ما يستلزم نوع من التسويات تستند علي قراءة موضوعية للواقع.
المهم، وبما ان السياسة استحالت لصراع علي السلطة، فكان لابد للحسم ان يكون بواسطة المؤسسة العسكرية، الاكثر جاهزية للردع وفرض الامر الواقع. وبوصول هذه المؤسسة غير العقلانية (رافضة للتسويات كنهج سياسي) الي سدة السلطة عبر قادتها، تم التكريس لنموذج سلطوي يشابه قادة الانقلابات. ومن اهم سمات هذه السلطوية الاعتسافية، ونسبة لافتقادها الشرعية، اللجؤ لتوظيف جهاز الدولة من اجل الاستقرار، وارهاب الشعب كنوع من الوقاية وضمان البقاء. وكذلك تعمل علي بناء منظومة شمولية، تتشكل من اردأ شرائح المجتمع، لتجتهد بدورها في نسج شبكات من المصالح المتبادلة، علي حساب بقية مكونات الشعب ووظيفة الدولة. وبمصادرة المنظومة العسكرية سواء كانت مؤدلجة او غير مؤدلجة للدولة والحجر علي المجتمع، يتم افراغ الدولة كمفهوم ووظيفة من محتواها والمجتمع من طاقاته الحيوية، لتتحول الي دولة افتراضية ومجتمع غريب الوجه واليد واللسان في وطنه.
واهم اثر لغياب الدولة في المجتمع، هو ضعف ان لم يكن غياب الانتماء للدولة، والافتقار ليس للاجماع حول كيان جامع، ولكن ايضا لمشروع او رابطة تلم شعث مكونات وتوجهات تعدد وتباين الاجتماع السوداني، ولو في حده الادني. ولذلك ليس مصادفة ان غياب المشروع الوطني ملازم لغياب مفهوم ووظيفة الدولة. خصوصا وكما سلف، بعد ان احتكرت السلطة العسكرية تمثيل الدولة، بل احالت الدولة الي حدود طموحات ونزوات ومخاوف قادتها العسكريين.
وعليه، تصبح العلة في غياب ورسوخ مؤسسات الدولة، وما يستتبعها من مشروع وطني، بسبب صراع السلطة، الذي افرز اقليات تحكم من اجل الحكم! وتاليا توظف كل الفرص والتناقضات من اجل استدامة سلطتها. وهذا التوظيف استفاد من كل الفراغات التي احدثها غياب الدولة، وبما فيها رابطة الانتماء القومي. وكما الدائرة المفرغة المذكورة بعاليه، ساهم نقص وعي الدولة في تكوين دولة منقوصة، كذلك الدولة الملتبسة انتجت وعي ملتبس، ساهم بدوره في عدم ترسيخ الدولة في البيئة السودانية المحتشدة بالقبائل والجهات والتباينات.
والحال ان هذا الوعي المأزوم (وعي التحرر) او الكفاح ضد المستعمر، اصبح يعيد انتاج نفسه، ضد السلطات المحلية التي لعبت دور المستعمر. وذلك بالاستفادة ايضا من التناقضات المجتمعية وغياب اللحمة الوطنية، القادرة علي احتواء فسيفساء دولة تحاكي القارة في ترامي اطرافها وتعقيد نسيجها الاجتماعي. وهذا الوعي بالتحديد هو ما انتج خطاب التهميش، ولكن للاسف كحالة متأخرة حتي علي مستوي الوعي التحريري، الذي استطاع انجاز الاستقلال، عبر تبني الوسائل السلمية الاقرب لطبيعة الدولة المدنية. اما خطاب التهميش، المحمل بالغبائن علي حساب الموضوعية، فقد دفعه ذلك لامتشاق السلاح كرد علي عنف الدولة، دون وضع اعتبار لخطورة ذلك علي انتظام المجتمع وانعكاساته السلبية علي العلة المحورية (بناء الدولة والمشروع الوطني). علما بان اقصي ما يقدمه السلاح لاي قضية، هو الحلول محل العدو. اي استبدال استعمار بآخر اكثر ضراوة.
وعليه، يصح ان خطاب التهميش هو في اصله خطاب مأزوم، ينحو نحو التحشيد، عبر الاستثمار في المشاعر السلبية، والاستفادة من اخطاء النخبة التي تسيطر علي جهاز الدولة وتستخدمه لصالحها. والحال كذلك، خطاب التهميش لا يشكل اضافة نوعية (لا علي مستوي التحليل او المعالجة) قادرة علي الاستفادة من اخطاء الماضي، من خلال استملاك وعي استراتيجي سالف ذكره، وهو وعي عاني من الضمور بل والغياب سواء علي مستوي النخبة المسيطرة علي جهاز الدولة او المعارضة لها. بل الاسوأ انه يشكل تراجع حتي علي مستوي مكتسبات احرزتها ما يسمي الاحزاب التقدمية، اقلاه هي توظف الايديولوجيا للتواصل مع المجتمع و للوصول الي السلطة، اي هنالك افكار او تصورات تخاطب الجميع، تُركب عليها الطموحات. عكس خطاب التهميش الذي تحركه دوافع جهوية او قبلية، يُبحث لها عن مسوغات، تبررها امام كافة مكونات المجتمع. اي مركز الثقل في خطاب الهامش هو الجهة او المنطقة مع كم هائل من المرارات التاريخية، مهما حاولت الالتفاف عليها بمانيفستوات منمقة ووجوه مركزية تشغل وظيفة هامشية او قناعية لزوم الطلاء واخفاء النوايا الجهوية! والدليل علي ذلك وجود هذه الحركات نفسها اولا، وحملها السلاح ثانيا، ومصادرة خيارات اهل تلك المناطق ثالثا! عوض الانخراط في احزاب قومية بفاعلية، او تبني الانشطة المدنية، التي تستصحب مشاكل جهاتها ضمن حزمة مشاكل البلاد، ومع شركاء من كافة ارجاء الوطن. اما كيف يتم ذلك، فهنا تتاح الفرصة لبروز الكفاءات السياسية والقيادية الحقيقية، القادرة علي اقناع وقيادة المجتمعات المحلية والعامة، والتي بالطبع لا تحتاج للمساعدة سواء من السلاح او من غيره؟
وبمعني آخر، قادة خطاب الهامش ردت علي اخطاء النخب الحاكمة بنفس طريقتها، وهو ما يدل علي انها تفتقر لطريقة مغايرة، قادرة علي تخصيب الافكار واستحداث وسائل مبتكرة، تستقطب الجماهير، وتكسبها ثقة في قدرتها علي تحديد مصيرها وتشكيل مستقبلها كما يروق لها. وهذا الفشل في استقطاب الجماهير الكارهة للنخب الحاكمة، في دعم خطاب التهميش، يجد دلالته في الحاجز السميك (فقدان الثقة) بين الثورات الجماهيرية والحركات المسلحة، وهو ما يتمظهر في طريقة استجابة الحركات لهذه الثورات، التي تتسم بالضعف والتشكيك والدعم اللفظي كمحاولة للاستغلال في احسن الفروض! وهو ما يضيف عبء جديد علي الثورات الوليدة، وغالبا يكون من اسباب التعجيل باجهاضها. والسبب في ذلك يعود ربما لنوع من الغيرة تجاه هذه الثورات، لنجاحها فيما فشلت فيه الحركات المسلحة من ناحية، ومن ناحية اخري لسحبها البساط من قادة تلك الحركات بابطال حججهم، اي تخليصهم من العدو (الانظمة الانقلابية) الذي يملكهم قضية تبيح رفع السلاح، وتاليا تحولهم الي جزء من كل، وليس الكل في الكل كما يرغبون، للحلول محل العدو! وهذا ان دل علي شئ فهو يدل، علي ان الاصل في الصراع، هو صراع نخب حول السلطة، وليس حول بناء الدولة او خدمة المجتمع، بغض النظر عن طبيعة القضايا المطروحة او الايديولوجية المرفوعة، سواء صراع هامش ضد مركز ، او يسار ضد يمين، او عسكر ضد مدنيين، او حداثيين ضد تقليديين.
والحال هذه، خطاب التهميش يضيف للازمة عبء جديد، بدل الاضافة التي تمكن من ايجاد مخارج للازمة، خصوصا بعد ان وضح انه جزء من صراع النخبة للسيطرة علي جهاز الدولة، ومن ثمَّ اعادة توظيفه للبقاء علي سدة السلطة. وعليه، بما انه مشروع اقرب لتصفية الحساب ضد الآخر المتهم، فهو حتما غير معني لا باعادة بناء الدولة علي اسس حديثة ولا تبني مشروع وطني يسع الجميع، بل هو علي الارجح يشكل خصم علي المنجزات الشحيحة، الممثلة في ملامح الدولة المكتسبة عبر الزمن، والتماسك الهش للمجتمع. وذلك برد الدولة الي حالة ما قبل الدولة، والدفع نحو تفكك المجتمع، عبر استعار اوار الغبائن القبلية، والردة الي سنة الانتماء للعشيرة قبل الوطن. وكل ذلك مع التذكير ان التهميش، بل والمذلة ومصادرة كافة الحقوق، فرضت علي الجميع من قبل اقلية حاكمة، لا تُعني بشئ، غير المحافظة علي سلطتها وامتيازاتها، ولو ادي ذلك لتوظيف التفاوتات الموروثة بين المناطق، ليس بسبب العنصرية او الجهوية (ولو انه لا يوجد مجتمع يخلو من هذه الترسبات الجاهلية) لانه ليس هنالك سوء نية مقصود ولا مؤامرة شيطانية، من جهات او قبائل ضد اخري، كما تتصور الافكار والمشاعر المريضة، او المسكونة بسوء الظن بالآخر. بل حتي التفاوت رغم ان جذوره استعمارية إلا ان له ما يبرره، خصوصا من ناحية كلفة التنمية، فهي اسهل في مناطق ضيقة كالشريط النيلي حيث تتركز الكثافة السكانة، عكس مناطق دارفور مثلا، التي تتعدد مكوناتها وانماط معيشتها وتشتتها علي نطاقات واسعة، والاهم الاكتفاء الذاتي بمواردها المهولة، مقارنة ببقية جهات الوطن، واكبر دليل علي ذلك ان المناطق الوعرة علي الشريط النيلي لم تصلها حظوظها من التنمية حتي اليوم، بل هي مقارنة بما تشهده دارفور من تنمية حتي علي عهد الانقاذ، فهي كاليتيم علي مائدة لئام الانقاذ. ولذلك الاتكاء علي حجة فطيرة (تمييز ضدهم) وبناء مشروع كامل حولها، يمكن ان يخدم قادة الحركات المسلحة، وكل من يرغب في تصفية حسابه مع النخبة المسيطرة في المركز او اهل المركز، ولكنه غير قادر بحال من الاحوال، علي الاستفادة من اخطاء الماضي، لصالح بناء دولة حديثة، تليق بكرامة وسلامة وترقية حياة الاجيال القادمة، التي ليس لها يد في كل هذه الكوارث، التي خلفتها وما زالت تداوم علي صناعتها، طبقة عسكرية وسياسية ومسلحة رزئنا بها منذ الاستقلال.
ومن جانب آخر، هنالك مزيد الملاحظات تشير لتفكك خطاب التهميش وضعف تماسكه، مثل ارتباط هذا الخطاب بكارزمة القائد اكثر من مرجعية الخطاب، وهذا ناهيك عن جمع القائد بين حقول يصعب ضبطها علي ايقاع واحد، مهما امتلك صاحبها من مهارات، كالجمع بين الروح العسكرية والمرونة السياسية والنزعة القبلية في جوف قائد فرد. وهذا لابد ان يؤدي لحالة انفصامية بسبب التداخل بين هذه الميول، وعلي راسها عدم الاعتراف بموازين القوي، ولا تقدير كلفة القرارات، مع الاستهانة بكل العواقب والاثمان في سبيل تحقيق الطموحات. اما الحديث عن التناقض بين الادبيات المتداولة في خطاب الحركات المسلحة، والحقيقة علي ارض الواقع، فهذا ما لا يمكن جسره ولو جئنا بالبحر مدادا! وذلك من بقاء القائد قائد حتي موته، الي اصطفاف شلة من المؤيدين حول القائد تسبح بحمده، شأن اي مستبد، الي تقاسم المناصب الهامة والاسرار الحساسة، بناء علي مرجعية عشائرية او علاقات صداقة! والمحصلة، كل ذلك لا يعد باي بارقة امل، لا في دولة مؤسسات ولا حياة ديمقراطية، اذا ما سمحت الظروف بوصول اي من هذه الحركات الي السلطة عبر بندقيتها، والسبب ببساطة لان فاقد الشئ لا يعطيه. وعموما، لم يضُر بخطاب الهامش والحركات المسلحة شئ، بقدر التحسس من نقدها، مخافة الاتهام بالتواطؤ مع النخبة الانقلابية المسيطرة علي السلطة! وصدق دكتور عبدالله علي ابراهيم في تبصيرها باخطاءها وتناقضاتها، ولولا غرور وهواجس مسبقة تجاه النقد، لاستفادة من تنبيهات الدكتور عبدالله الموضوعية، اكثر من المدح المجاني الذي يكيلها لها المطبلون (ولا نعفي انفسنا من كيل المدح لها والتعاطف المجاني معها علي عهد الانقاذ المشؤوم).
وكذلك من اشكالات خطاب الهامش انه يلعب دور الضحية، ويعمل علي اعادة انتاج سردية المظلومية، بطريقة تحجب الرؤية الموضوعية لطبيعة المشاكل، واصل الصراع في الدولة. وهذا غير انه يبرر اي تجاوزات تقوم بها الحركات المسلحة المتاجرة بهذا الدور، وبما فيها تجاوزات تتخطي شعارات واطروحات الحركات نفسها! لنجد بعض الحركات بطريقة او اخري، تحل محل النخب المسيطرة عندما تجد الفرصة، سواء بتمكين كوادرها او الولوغ في الفساد او الكنكشة في الكرسي او الانحياز لمناطقها علي حساب المناطق الاخري، ضاربة عرض الحائط بمعايير الاستحقاق والجدارة والمؤسسية! والاسوأ من ذلك انها تواجه كل نقد موضوعي برفع كرت المظلومية والتهميش. وهنا تحديدا يمكن تفسير كيفية وصول اردول لهذا المنصب، ومرجعية تصرفاته؟ فقد نجحت استراتيجية خطاب التهميش الابتزازية، في ايصال اردول لهذا الموقع، رغم انف انعدام خبرته في هكذا مجال ذي طابع فني واجرائي مؤسسي، يخلو طرفه منهما! بل وهنالك سابقة خلافه مع مديره الاكثر تاهيل، في امور تثبت قلة خبرته! ليقوم حمدوك وكعادته في اسلوب الترضيات والتعتيم علي المخططات، بعزل الاثنين، ومن ثمَّ ارجاع اردول بحركة اكروباتية، ليسيطر علي شركة الموارد المعدنية كملك يد، له كامل حق التصرف، بما في ذلك الجوانب المالية الاكثر حساسية، وبعيدا عن رقابة وزارة المالية (فكيف والحالة هذه يمكن لوم المكون العسكري علي تهميشه وزارة المالية، وهي لا تقوي والاصح لا ترغب في فرض سلطتها علي بعض المؤسسات المدنية كشركة الموارد المعدنية؟!). وحتي يحافظ اردول علي هذا الموقع الذي لا يستحقه، حتي قبل ان يرتكب تجاوزاته، التي لا تستقيم وحس الطهارة، الذي لطالما ادعاه علي ايام النضال المزعوم، كان لابد له من ارضاء الجهات التي اسهمت في وصوله لهذا المنصب او اقلاها توسم فيها تلك القدرة! وللاسف فقد كان محقا في زمن المهازل التي تردت اليها الثورة المختطفة. وعموما، كان يمكن ان يستقيم الحال لو تولي اردول منصب سياسي، ولكن يبدو ان شهوة السيطرة/السطو علي المال العام بذريعة اقتسام الثروة (الاصح احتكارها لقادة الهامش) غلابة.
ولذلك امر ذو دلالة ان معظم قادة الكفاح المسلح ومروجي خطاب الهامش، يفضلون البقاء في العاصمة والاستمتاع بمباهج السلطة، اكثر من تواجدهم بمناطق الهامش او اكتراثهم لمشاكله، إلا لتبرير هذه المكاسب. وهو ما يؤكد ان المسألة لا تتعدي فعل الازاحة للنخبة الحاكمة والحلول محلها كغاية اساسية، والبقية تفاصيل هامشية، وبما في ذلك معاناة اهل الهامش. بل الثورة نفسها بكل اكلافها وامكانات فرصها، آلت بكل بساطة لقنطرة لتقاسم الامتيازات، وكانت الحركات المسلحة طرف اصيل في هذه المعادلة المعطوبة.
وحقيقة من الظلم بمكان وضع كل الحركات المسلحة في سلة واحدة، فالحركة الشعبية لها باع طويل في العمل المسلح، قبل انقسامها كما هو متوقع برحيل قائدها جون قرنق! والقائد عبد الواحد تميز بالتمسك بطرحه الواحد غض النظر عن تبدل الظروف! اما الجبهة الثورية فهي نموذج للمتاجرة بقضايا الهامش والاساءة لكافة الحركات المسلحة، خاصة وهي تهرول نحو الهبوط الناعم علي عهد الساقط البشير، وترتهن للمحور الاقليمي، وتتواطأ مع المكون العسكري، لاجهاض الثورة، نظير مكافآت بخسة، مقارنة مع ما اقترفوه في حق مناطقهم التي لم تنعم بالسلام، وحق الوطن باهدار اكبر فرصة للخروج لبر الامان. وكل هذا ما يبرر القول، ان هكذا مسلكيات نفعية، لا يمكن ان تصدر إلا عن كيانات وكائنات بلغت احط درجات الانتهازية.
والحال كذلك، ليس مصادفة منذ الاعلان عن تنصيب مناوي كحاكم لاقليم دارفور، في مسار مختلف عن مسار الدولة ككل، مما يشتم منه رائحة المجاملة لمناوي، الذي لم يبرع في شئ قدر براعته في ممارسة الابتزاز السياسي باسلوب اكثر طفولة وفجاجة! ان برز للسطح ذات خطاب التهميش، ولكن هذه المرة من مكونات دارفورية ضد قبيلة الزغاوة ببطونها المختلفة، التي اُتهمت بنيل حصة الاسد من توزيع غنائم الهبوط الناعم! اي اصبح سلاح التهميش الذي تم رفعه بمناسبة ومن دون مناسبة، ضد المركز كوسيلة ابتزاز، سلاح ذو حدين. بل الاسوأ من ذلك ان يصبح سيناريو مفتوح علي كل الاحتمالات. وكل ذلك يؤكد حقيقة بسيطة، ان الغبن لا يمكن ان ينتج سياسة، ولكن السياسة الرشيدة قادرة علي نيل الحقوق بصورة حضارية، وتاليا معالجة الغبن وكل امراض المجتمع.
والخلاصة
عجز وقلة كفاءة نخب الاستقلال، افرز سلطة العسكر، وهذه بجهلها وعنترياتها الفارغة، استنفدت طاقة القوي السياسية في مواجهتها، وكذلك اهدرت موارد البلد من اجل الحفاظ علي سلطتها! ولذلك عندما تحدث ثورة باعجوبة، تُواجه بتحديات جسيمة (احزاب مهلهلة ودولة منهارة) اكبر من طاقتها علي الاحتمال. والنتيجة محلك سر عندما لا يحدث تراجع مطرد، علي مستوي تطور الدولة واحوال المجتمع. وكل من حاول الخروج من قبضة هذه الرمال السياسية المتحركة، سواء كانت حركات مسلحة غاضبة او قوي شبابية طموحة وحالمة، غاصت ارجلها في هذه الرمال اللعينة. ودمتم في رعاية الله.

 

آراء