قادة الانقلاب .. صراع على حافة الهاوية

 


 

 

تقرير- القسم السياسي

نقلا عن الديمقراطي
ما حدث خلال الأيام الماضية لم يكن مجرد تضارب في مواعيد إفطارات قيادات المجلس الانقلابي، وعدم مشاركتهم لبعضهم، بل بمثابة تفاصيل صغيرة في معركة السيطرة والإخضاع الكبيرة، في محاولة التحكم الكامل في مسار الانتقال بين قادة الانقلاب الثلاثة: (برهان، حميدتي، كرتي)، تحركهم في ذلك طموحات كبيرة ومخاوف أكبر دون وازع أخلاقي.

انقلاب غير تقليدي
النقطة الأهم التي يجب أن نتذكرها جميعاً أن انقلاب 25 أكتوبر 2020 ليس انقلاباً تقليدياً وإنما تغول جذري ونهائي على الصيغة المدنية القائمة، عبر تغيير ديناميكيات عملية الانتقال والتحكم في مساره عبر أطرافه الثلاثة: قائد الجيش عبدالفتاح البرهان، وقائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو، وأمير الحركة الإسلامية علي كرتي. الانقلابيون يسعون للسيطرة الكاملة بحسابات متباينة وهو أمر لم يتحقق في ظل تعقيدات موازين القوة العسكرية والسياسية من جهة، المقاومة الشعبية الكبيرة التي جابهت الانقلاب والعقوبات الدولية التي تسببت في حرمانه من الدعم السياسي والاقتصادي من جهة أخرى، فظل الانقلاب وقادته بتحالفهم التكتيكي عالقين متخبطين.

يبدو كرتي كأنه يسعى لاستدراج الإسلاميين في السودان لمصير إخوانهم في مصر
قادة الانقلاب في تخبطهم هذا لا يمتلكون القدرة على العمل المشترك لاعتبارات ذاتية وموضوعية، فالذاتي يتعلق برغبة كل طرف في الانفراد بالسلطة بشكل مطلق، والموضوعي يرتبط باشتراط الدعم الإقليمي للانقلاب باتخاذ موقف حاد ضد الإسلاميين، وهذا أمر لا يجد اعتراضاً من البرهان وحميدتي، لكنهما يختلفان في التوقيت، فالأول يسعى لاستغلالهم لإخضاع الثاني وإرهاب الرأي العام.
وبين هذا وذاك تتصاعد فرص تصدع التحالف الانقلابي مع تدهور الأوضاع الاقتصادية وتباطؤ الدعم الإقليمي، مما يقرب ساعة الصفر بالنسبة لعملية (السكاكين الطويلة).

مناورات البرهان
يعتمد قائد الجيش تكتيكات مختلفة ومناورات معقدة ومتناقضة في بعض الأحيان للانفراد بالسلطة، ويتضمن ذلك محاولة تشتيت تفكير خصومه عما يفكر فيه عبر خلق ما يكفي من الخوف لردعهم عن هدفهم النهائي المتمثل في إزاحته عن السلطة.
يسعى البرهان من التحالف مع فلول المؤتمر الوطني لممارسة ضغوط عالية على حميدتي للقضاء عليه أو إخضاعه على أقل تقدير إخضاعاً نهائياً، ومن ثم ينقض على فلول المؤتمر الوطني ليستفرد بالسلطة.
عملية إخضاع حميدتي تقوم على جملة من الترتيبات تهدف لاستدراجه وتوريطه في جملة من الفخاخ أسوة بمقتل بهاء حنفي في معتقلات الدعم أو عبر تصعيد الخطابات الجهوية والسياسية ضده من الحركة الإسلامية والقيادات الأهلية والجهوية التي تمثل أداة طيعة بيد قادة الجيش، يحركونها في الاتجاه الذي يرغبون أن تسير عليه الأمور السياسية.
إلا أن هذه المناورة تنطوي على قدر عال من الخطورة يستلزم اتخاذ خطوات محسوبة بدقة وإلا سترتد العملية وستكون كارثية أسوة بما حدث للإسلاميين في العام 1999 إبان المفاصلة، وفي عام 2018 مما قاد لانهيار دولتهم.

الانقلابيون يسعون للسيطرة الكاملة بحسابات متباينة وهو أمر لم يتحقق في ظل تعقيدات موازين القوة العسكرية والسياسية من جهة، و المقاومة الشعبية والعقوبات الدولية

هنا ستكون خسارة البرهان كبيرة، فالجنرال الذي يستند في بقائه في المنصب الأول على ضباط مستقلين لا تجمعهم رابطة تنظيمية ولا فكرية سوى الروح الانقلابية، إضافة إلى استناده على السمسرة بين الجيش والدعم السريع، باعتباره -أي البرهان- رمانة الميزان التي تحول بين مواجهة الطرفين، فإذا تواجه الطرفان ووجد البرهان نفسه في خلاء موحش بلا رفقة منظمة سوى رفقة الفلول، فلن يفقد التاج وحده وإنما معه كذلك الرأس.
يتطلع البرهان بعد إخضاعه لحميدتي بأقل تكلفة، لمصالحة الشعب والتوصل مع الجبهة المدنية لتسوية أقل حدة، وليتحقق ذلك لا بد أن يحول الغضب الشعبي نحو الفلول هدفه الثاني، كما يتطلب تحقيق اختراق سياسي جوهري في إقليم دارفور.

حسابات حميدتي

البشير اتزنق
بدا واضحاً أن قائد الدعم السريع نفض يديه عن فلول المؤتمر الوطني بالرغم من اتفاقه مع كرتي بعد أيام من سقوط البشير، وتحقيق مصالح متبادلة، إلا أنه بات يدرك أن الفلول تجمعهم مصالح تكتيكية أكبر مع البرهان، لذلك ستكون أولويته مواجهة البرهان والتحسب لمكائده.
قائد قوات الدعم السريع تحدث صراحة عن أن “العسكريين لن يذهبوا إلى الثكنات في ظل وجود آخرين يسنون سكاكينهم”، للوهلة الأولى يشي المقطع باستعداد حميدتي لتقديم تنازلات والخروج عن السلطة في حال توافر ضمانات كافية تحميه من المحاسبة وتؤمن مصالحه الاقتصادية.
إلا أن واقع الحال يشير لعكس ذلك. فحميدتي يتشبث بالسلطة أكثر من غريمه البرهان، ويسعى لاستخدام حجة (السكاكين) للتشبث أكثر بموقعه وامتيازاته وتعزيزهما عبر السيطرة المطلقة على السلطة.
هناك سيناريوهان لتعزيز سيطرة حميدتي على السلطة واستدامتها، الأول يقوم على انقلاب عسكري حتى لو أدى ذلك لمواجهة مسلحة مع بقية المجموعات. أما السيناريو الثاني فيقوم على الانقلاب الناعم عبر ترتيب حاضنة سياسية جديدة تتكون من (جماعة الميثاق) والإدارات الأهلية ومجموعات شبابية تم استقطابها بغرض تقديم مبادرة التوافق الوطني تطرح تكوين حكومة ‘مدنية’ بدعم من دول إقليمية ومساندة روسيا وإسرائيل، تقود البلاد لانتخابات يفوز بها حميدتي.
يفضل حميدتي السيناريو الثاني، فهو يدرك أن أي مواجهة عسكرية تهدد بخسارته امتيازاته في الثروة والسلطة، إلا أن ذلك يجعله في خانة الدفاع ضد خصومه لفترة ليست قصيرة.

تتصاعد فرص تصدع التحالف مع تدهور الأوضاع الاقتصادية وتباطؤ الدعم الإقليمي
خاصة بعد أن توالت الصدمات سواء من خلال الصراع على التعامل مع إسرائيل، أو مفوضية الأراضي التي تأسست حديثاً بالدعم السريع، أو الصراع حول تعيين نائب محافظ البنك المركزي، أو حتى فيما يلي كشف ملابسات لقاء البرهان بالسفيرة الفرنسية والتي جعلت قائد الجيش يلتفت لحجم الاختراق وسط ضباط الجيش الذي وصل للدوائر القريبة منه، والذي يهدف لإجهاض أي دور خارجي للبرهان حتى يضطر الفرنسيون وغيرهم إلى التواصل مع النائب الأول الذي يظهر جاهزيته واستعداده لتقديم خدماته.
التحدي الرئيس بالنسبة لحميدتي هو خلق قاعدة اجتماعية في وسط البلاد، وهو أمر تشير الحسابات إلى أنه لا يمكن أن يتحقق على المدى الطويل بالحشود القبلية والرشى، مما يجعله أمام خيار العنف والوقوع في انتهاكات إنسانية فظيعة تجر عليه عقوبات اقتصادية لا قبل له بها.
حسابات الفلول

ابراهيم غندور
بعد سقوط عمر البشير في أبريل 2019 تفرق حزبه المؤتمر الوطني بين تيارين: مجموعة يسيطر عليها القيادي علي كرتي، الذي وطد علاقته مع العسكريين بموجب اتفاق 17 أبريل 2019 (الاستكانة مقابل ألا يلاحقوا بالشبهات)، فخدموا العسكريين وقدموا لهم الدعم والمساندة إبان التفاوض، وبعد مجزرة القيادة العامة من خلال عمليات الحشد والتعبئة الجماهيرية للقيادات الأهلية والفئوية في محاولة للحصول على قاعدة تأييد لاستلام السلطة بشكل منفرد، مقابل ضمانات بتوفير الحماية لقياداتهم والسماح لهم بأن يكونوا قاعدة سياسية للقادمين الجدد للسلطة، سعت هذه المجموعة بشكل أساسي لاستهداف المدنيين في السلطة الانتقالية ومحاولة تحييد العسكريين، على أمل مشاركة العسكريين السلطة بدلاً عن المدنيين وقوى الحرية والتغيير.
حسابات الفلول تقوم على أن تداعيات فشل الانقلاب أو هزيمته ستكون نتيجته كارثية جداً على المؤتمر الوطني لذلك يخوضون هذه المواجهة كمعركة بقاء.
عمل التنظيم بقيادة كرتي على عرقلة الانتقال بدءاً من تعطيل إنتاج النفط في كردفان وصولاً لمسح قاعدة بيانات محطة الجيلي ومحاولة التلاعب في عناوين نشرة الأخبار الرئيسية بالتلفزيون القومي، فيما سعوا للتصالح بين قواعدهم الناقمة على العسكريين برسائل (تحييدية).
اعتقال غندور في 30 يونيو 2020 أحدث انقلاباً سمح لكرتي بالاستيلاء على الأجهزة التنظيمية والعسكرية والأمنية والمؤسسات التمويلية، والتنسيق مع العسكريين في السلطة بهدف إيجاد موطئ قدم، إلا أنهم في المقابل خسروا الإدارات الأهلية التي تحول ولاؤها لحميدتي، مما أفقدهم في معظم أنحاء السودان السند الشعبي.

حميدتي يتشبث بالسلطة أكثر من غريمه البرهان
ليس هذا فحسب، بعض الإسلاميين اتهموا كرتي بأنه تسبب في اعتقال غندور وغيره من القيادات التي تولت قيادة الحزب بعد سقوط البشير، محذرين من أن كرتي ومجموعته قطعوا الطريق أمام تيار يتحدث عن مراجعات وتقييم لتجربة الإنقاذ وإدارة حوار مع القوى المدنية.
خرج غندور مؤخراً خاضعاً لكرتي وحلفائه العسكريين بل ومدافعاً عن انقلاب 25 أكتوبر دون أي مبرر.
يسعى فلول المؤتمر الوطني الآن لدفع البرهان لمواجهة عسكرية كاملة مع الدعم السريع، وبعد التخلص من حميدتي، وبالاستناد على نفوذهم المنظم في الجيش والأمن والشرطة، يتخلصون من البرهان.
رهان الفلول على التحالف مع العسكريين يبدو غير واقعي لعدة اعتبارات أولها تجربة الإنقاذ نفسها بالتحالف مع العسكريين على رأسهم البشير والتي جعلتهم في نهاية الأمر مجرد تابع رهن المخلوع وتصوراته بينما يجنون هم لعنات الشعب وليس لهم من الأمر شيء، وآخر الشواهد كانت رغبة البشير في تعديل الدستور والترشح لولاية جديدة في انتخابات 2020م.
النقطة الثانية التي لا تغيب على الفلول تتعلق بحالة الرفض الشعبي والإقليمي، صحيح أنهم يراهنون على أن الحملة الدعائية خلال الفترة الماضية والتي سعت لوصم المدنيين بالفساد وانتهاكات حقوق الإنسان ليبدوا مثلهم إن لم يكونوا أسوأ منهم، بعد إفشال عملية الانتقال وعرقلة توفير الحكومة للاحتياجات الأساسية للمواطنين، أما فيما يلي مسألة الرفض الإقليمي خاصة من جانب الإمارات -أحد الحلفاء الرئيسيين للعسكر- فلا تتوفر إجابات أو ضمانات واضحة سوى ما يقدمه حلفاؤهم لهم، متناسين أن الشرط الأساسي لتأمين أي عملية انقلاب على القيادة المدنية للانتقال تستلزم البطش بالإسلاميين من عناصر النظام السابق كخطوة أولى لإيجاد سند شعبي وإقليمي قبل المساس ببقية التيارات والمجموعات السياسية. مما يجعل كرتي يبدو وكأنه يسعى لاستدراج الإسلاميين في السودان لمصير إخوانهم في مصر، لاستئصال شأفتهم للأبد.

يعتمد البرهات تكتيكات مختلفة ومناورات معقدة ومتناقضة في بعض الأحيان للانفراد بالسلطة
تجربة الإسلاميين في السلطة خلال العقود الثلاثة الماضية أورثت البلاد الأزمات الحالية لاعتبارين أولهما سلوكهم الداخلي من خلال محاولة صياغة السلطة والأفراد وفقاً لتصوراتهم الفكرية، وثانيهما عبر سلوكهم الخارجي (فكرياً وعملياً) عبر أوهامهم التوسعية بشكل استعدى المحيط الإقليمي والعالمي، وهو ما يستدعي التأكيد على نقد التجربة من قبل الإصلاحيين الإسلاميين لكسب التأييد والتعاطف داخلياً وخارجياً.
إذا سلمنا جدلاً بنجاح الفلول في التخلص من البرهان وحميدتي، فإن أفضل وضع يمكن أن يحصلوا عليه سيكون مشابه لوضع المخلوع البشير في العام 2019 (حصار اقتصادي يؤدي لتآكل القاعدة الاجتماعية وغياب الأمل في حدوث تغيير جوهري مما يؤدي لانفجار الأوضاع بشكل أعنف هذه المرة).
في كل الأحوال يمكن القول إن سياسة حافة الهاوية أو التصعيد المتبادل بين قادة الانقلاب، مهدد بالخروج عن السيطرة، وهو ما حذر منه رئيس البعثة الأممية فولكر بيرتس في إحاطته الأخيرة أمام مجلس الأمن -احتمال حدوث صدام مسلح بين العسكريين- مما يتطلب التفكير في طرق لتغيير ديناميكية القوة في السودان دون إشعال حرب أهلية جديدة، وهنا يبدو السيناريو الأنسب قبول الجيش للانتقال الديمقراطي والإصلاح الأمني العسكري، وبالتالي اصطفاف الشعب والجيش والمجتمع الدولي في اتجاه واحد للضغط على حميدتي لقبول الجيش الواحد الذي تم إصلاحه بوصفه من مطلوبات الانتقال، وليس باعتباره مطلباً جهوياً أو مناطقياً. هذا الترتيب ووضع الأجندة في إطارها الصحيح يضمن الانتصار. أما سيناريو البرهان المدعوم من مصر فسيجعل الاصطفاف جهوياً، وبالتالي يزيد من أمد الصراع وربما يفكك السلطة المركزية، خصوصاً أن قوى إقليمية مثل الإمارات إسرائيل لن تقبل تفكيك أو هزيمة الدعم السريع لصالح جيش يهيمن عليه فلول المؤتمر الوطني.

نقلا عن الديمقراطي
//////////////////////////

 

آراء