( إذا استثنيت طبيعة الإنسان الروحية ، فلست تعرف الإنسان على الإطلاق )
ألفريد راسل والاس .
(1)
1982 م
خرجت إلى الصالة الرئيسة في الطابق الأول وأنا في الشهر الأول من بعد التعافي في مبني قسم عمليات القلب في مستشفى " إشبانداو " بأطراف برلين " الغربية " .عندها كانت هناك دولتان ، وبرلين غربية وأخرى وشرقية ، قبل أن يلتقيا في ألمانيا واحدة بعد هدم حائط برلين عام 1989 م والذي شيد عام 1961 م.
تخيرتُ مكاناً في صالة الجلوس العام. المجالس وثيرة . تكاد تغطس أنتَ في مقاعدها .حولها تتباعد الحوائط حتى تخال نفسك في فندقٍ مُترفٍ. لوحات تشكيلّية على الجُدر من القيشان الملون ، كأن جناحاً للعمليات بالمستشفى هو حلمٌ أو مسمى ،غير ما هو في الواقع !.
(2)
لم أعرف كيف بدأ التواصل بيننا ، ولكنها امرأة تكبرني بحوالي العشر سنوات ، أي في حوالي الأربعينات . لم أعرف كل ذلك إلا حين أخبرتني أن لديها ابن في التاسعة من عمره من زوج ألماني ، انفصلت عنه . وتعيش مع ابنها وتعمل وتزور أسرتها في تونس العاصمة كل عطلة ممكنة. وحسب ذهني فإن الكتلة الأنثوية الماثلة أمامي بحكايات سيرتها وهي تحكي بلا تحفظ ، خلخلت فراستي في تقدير العمر أكثر من الحقيقي بضع سنوات ، إنها في الثلاثينات . حسب ما كنتُ أراها قمحية اللون ، على بياض منطفئ .متوسطة القِوام ، جميلة دون شك بمقاييسي وبمقاييس من يرونها ، حين تُحدّق العيون عليها حيثما حلّت ، وهو امتحان لكيف يراها منْ هم حولها. قليلاً تغادر غرفتها الاستشفائية في جناح الطابق الأول . لم تكن ألمانيا الغربية تستهجن الغرباء في ذلك الزمان . ربما خفي المسلك عن ملاحظتنا ،و لن يكن بأية حال عنصري كما هو حادث في وقتنا الحاضر .
(3)
خاطبتني:
- أأنت عربي ؟
قلت :
- أنا من السودان .
تبسمتْ وقالت :
افتقدتُ من أحادثه بالعربية .
وسألتها عن أصل موطنها ، فقالت :
- تونس .
تطلعتْ لُغتيّنا العامية السودانية وأختها التونسية ، لتصعدا أقرب إلى الفُصحى وثباً ، ليكن الوصال بلا غموض ، واضح النبرات وجلي المعاني .
المكان كان شبه خالٍ من الحضور، فالغرف تكاد تئن من المُوجَعين عندما يفيقون من أثر البنج ،أو بالصامتين بالمُخدر المُباح بقوانين التطبيب وتخفيف المعاناة . كان لا أحد يتجوّل غيرنا وأطقُم التطبيب والتمريض ، هنا وهناك.
قالت :
أتحب القراءة ، فلديّ ثلاثة كتب متنوعة للكاتبة "غادة السمّان " ، أسلِّفكَ كتاباً ، تقرأه ثم الآخر ... وكذا ، فللكاتبة لغةٌ ممتعة ، وقصٌ وجاذبية ، تفرِّج عليك سأم البقاء في المستشفى .
ثمّنتُ كرمها ، وصَدقَ منْ قال : خير جليس في الزمان كتابُ.
نعم نعلم أن سوريا مولد المميَّزين ، فغادة ابنة سوريا وتقرب للشاعر نِزار قباني . دمشقية المولد ، من عائلة فوق متوسطة الدخل ، واصطدمت كتاباتها بالمجتمع المحافظ . قرأت ربما كتاباً لها قبل تاريخ ، تسلفته ، وقبل أن أكمله فقدته ، وكنت أسير الحسرات كلما أبصرت صاحب الكتاب .
قالت :
لن يمنعك ماضيك الرمادي أن أُسلفكْ .
تصفحت من يدها كتاب " لا بحر في بيروت " ، كان تاريخ تحرير الكتاب عند ذاك الزمان قبل حرب 1975 في لبنان ،وما تلاها من تدمير وموت طائفي مجانٍ ، وانتهى بدخول شارون بيروت ، لأول مرة يدخل الجيش الإسرائيلي عاصمة عربية ، وخروج منظمة التحرير و" ياسر عرفات " بسفينة إلى " قبرص " .وهي قضية تآلفت عليها دولٌ متنفذة ، وأنجزت صفقة ، معروف أصلها وتفاصيلها الدامية .
(4)
تصفحت الكتاب الآخر" السباحة في بحيرة الشيطان " من بعد ثلاثة أيام من إرجاع الكتاب الأول للسيدة ، وأنا مشوق لغزو الكتاب الجديد مع اللهفة للقراءة :
كتبت فيه " غادة السمّان " :
( كنتُ قد ذهبتُ إليه لأن عوالم ما وراء الطبيعة تسحرني . لديّ إيمان غامضٌ بأن الإنسان الذي ارتاد الفضاء ما يزال يجهل أشياء كثيرة في أفي أعماقه هو نفسه، وعن طاقاته وعن حواسّه ، غير الحواس الخمس ، عن عالمٍ ما وراء الحاسة السادسة والسابعة واللانهائية ، وعن أسرار الروح والكون ... ولكنني ظللت صامتة.)
(5)
يا له من سفرٍ رائع وغامض !، يمتلئ بالألغاز وحكايات تتبّعتها الكاتبة ، وسجّلت بيناتها اليومية بزيارات ومغامرات متنوعة . صورٌ واقعية أقرب للخيال . تحكي أغرب التجارب والحكايات اللصيقة بالكاتبة وشخوص وأبطال القصص الذين تعرفت عليهم عن قرب في مناطق متفرقة .وأغرب تلك القصص كانت عن " تناسخ الأرواح " وهي صورة أخرى من انتقال الذواكر من عقل مكتمل إلى عقل طفل أو وليد آخر . ويكون الموت فُجائياً وقاسياً للطرف الواهب من المعادلة ، كحادث مفاجئ أو غرق قاسي ، يُعاني فيه المتوفى أو القتيل، جرعات من الرُعب اللحظي قبل وفاته، فتنتقل الذاكرة من ذهنه إلى ذهن آخر . وغير معروف طبيعة تلك الأحاسيس التي يعاني فيها المُرسل قبل رحيله. وأوضحت الكاتبة " غادة السمان " أن الظاهرة أوضح لدى" الدروز" في جبل لبنان وبعض مناطق الهند . فيتذكر الطفل الذي انتقلت إليه المعرفة أن له حياة أخرى، وأم وأخوات وإخوة آخرين ، ويتقن مهارات المتوفى . وعندما يكبر يتخفف من الذاكرة المنقولة بمكتسبات الحياة الجديدة ، فتضمحلّ الذاكرة المهاجرة رويدا ، وتسود الحياة الجديدة آخر المطاف .
وتناسخ الأرواح جزء من فلكلور الشعوب ، وظهرت روايات تتحدث عنه وأساطير.
(6)
للذهن شبكة خلايا عصبية يبلغ عددها نحو 100 مليار خلية متصلة ببعضها البعض عن طريق نحو 100,000مليار تشابك عصبي وتكمن طاقة كهربائية مغناطيسية في بطن تلافيف هذا الجسم الرائع. بينه وبين القطب الشمالي والجنوبي المغناطيسي كبير علاقة ، كما هي جاذبية الأرض والقمر ، وبينه وبين الأذهان ذات العلاقة ، تجعل مدى هذا الانجذاب بين العقول كبيراً ، وتناقل المعارف أكثر إمكانية ووضوحاً وفي أديان وعقائد شتى .وقد تحدثت عن تلك التجارب ثقافة المتصوفة منذ تاريخهم القديم ، وطقوس جلاء الأذهان ومِرانها عند الانقطاع عن الناس بغرض الصفاء الذهني ، وتجويد تقنية جلاء النفس من الشواغل ، وتمهيد الذهن للقدرة الباهرة على التلقي وقدرتها على استقبال المعارف ، بدون وسائط القراءة أو المحادثة ، بالعمل فحسب . وهي تجارب تحدّث عنها كثير من المتصوفة وأسموها " العلم اللّـدُني " ويقولون إن العلم ييسره المولى للعابد . وهو عالم قلّ الحديث عن مجاهله ومحتوياتها . ورجالات التصوف الحقيقي ، لا يتحدثون عنه سوى أنه " فتح من المولى " ولا يعرفون سوى طريق العبادة وتجويدها بالأوراد ليصبح الذهن منفتحاً للاستقبال .
(7)
تحدث عن بصيص من تلك القدرات الذهنية عالم التحليل النفسي " سيغموند فرويد " في كتابه " مقالات في السيكولوجي " قبل رحيله في نهاية ثلاثينات القرن الماضي، وأسماها " التليباثي " وهي القدرة على التخاطر ، واستقبال الرسائل الذهنية مهما بعُد المكان . وكلنا يلحظ تلك الظاهرة التي تمُر علينا كثيراً دون أن نُعيرها الاهتمام الذي تستحق. حين نشعر بحُزنٍ بلا مبرر ، وبعد قليل يصلنا نبأ فقدان أم أو أب أو قريب أو صديق . وقوة الرسالة وطرق استقبالها تعتمد على العلاقة بين الأطراف التي تتبادل رسائل الذهن الغامضة ، إرسالاً وتلقٍ ، وتدريباً وتمارين.
(8)
كتب " أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي "( 1058 – 1085 م) في سِفره السابع ( مجموعة رسائل الإمام الغزالي) وكان يتحدث عن الصوفية : { ثم أني لما فرغت من هذه العلوم أقبلت بهمّتي على طريق الصوفيّة ، وعلمت أن طريقتهم إنما تتم بعلمٍ وعمل ، وكان حاصل عملهم قطع عقبات النفسِ والتنزه عن أخلاقها المذمومة وصفاتها الخبيثة ، حتى يتوصل إلى تخلية القلب عن غير الله وتحليته بذكر الله } . واطلع الغزالي على كتب المتصوفة مثل "قوت القلوب" لأبي طالب المكي ، وكتُب الحارث المحاسبي ، والمتفرقات المأثورة عن الجنيد والشبلي وأبي يزيد البسطامي وغيره .واطلع على مقاصدهم وتحصل من طريقها كما كتب في رسائله : { بالتعلم والسماع فظهر لي أن أخصّ خواصهم ما لا يمكن الوصول إليه بالتعلُّم ، بل بالذوق - ويعرف "الجرجاني " في كتاب التعريفات : الذوق في معرفة الله بأنه عبارة عن نور عرفاني يقذفه الحق بتجليه في قلوب أوليائه ، يفرقون به بين الحق والباطل من غير أن ينقلوا ذلك من كتاب أو غيره - .وذكر الغزالي : { فدمتُ على ذلك مقدار عشر سنين ، وانكشف لي في أثناء هذه الخلوات أمور لا يمكن إحصاؤها واستقصاؤها . والقدر الذي أذكره لينتفَع به : أني علمت أن سيرتهم - أي المتصوفة - أحسن السّير ، وطريقهم أصوب الطّرق ، وأخلاقهم أزكى الأخلاق } - ويذكر في مكان آخر – { فإن جميع حركاتهم وسكناتهم ، في ظاهرها وباطنها ، مقتبسة من نور مشكاة النبوة ، وليس وراء النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به }.
(9)
من كتابه " كيف تصلون " - الصلاة وسيلة - تناول المفكر " محمود محمد طه " ذات الموضوع و نقتطف منه ما يلي :
{قال تعالى عن الخَضِر ، في قصة ما جرى بينه وبين موسى : (فوجدا عبداً من عبادنا ، آتيناه رحمةً من عندنا ، وعلمناه من لدُّنا علما).. هذا العلم اللّدني (هوالعلم).. وهو لا يؤخذ إلا عن الله بلا واسطة).. الأنبياء ، والرسل ، لا يعلِّمونه.. وإنما هم يعلِّمون الوسيلة إليه..) ولقد جاء في هذا المعنى حديثان ، عن النبي ، مأخوذان عن آية : ( واتقوا الله ، ويعلمكم الله) (أولهما ):من عمِل بما عَلم أورثه الله علم ما لمْ يعلم).. وثانيهما ) :إنما أنا قاسم ، والله يعطي.. ومن يرد به الله خيراً يفقهه في الدين.. ولا تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله ، لا يضرّهم من خالفهم ، حتى يجيء أمر الله).. قوله ، في الحديث الأول : (من عمِل بما عَلم) يعني من عمل بالشريعة ، في العبادة ، والمعاملة.. (أورثه الله علم ما لم يعلم) عنى بها علمه الله العلم اللّدُني ، وهو علم (أسرار الألوهية.) وحين يوجب العلم بالشريعة) تجويد (العبادة) يوجب العلم (بأسرار الألوهية) تجويد العبودية) ، وهي الأدب الواجب على العبد ، نحو الرب.. والحديث الثاني أوضح في الدلالة على أن النبي ، إنما يعلِّمنا الوسيلة ، التي بها نتوسل إلى منازل العلم (اللّدُني) .}
وفي شق آخر من القضية الفكرية ذاتها ، أورد المفكر " محمود محمد طه " في سفره الرسالة الثانية من الإسلام – باب : من المأذون؟ :
{وقد ظل هذا الأمر يتنزل على أقساط ، بحسب حكم الوقت ، من لدنّ آدم وإلى محمد .. ذلك الأمر هو القرآن .. واستقراره في الأرض هو السبب في ختم النبوة .. وأما الحكمة في ختم النبوة فهي أن يتلقى الناس من الله من غير واسطة المَلَك ، جبريل - أن يتلقوا عن الله كفاحا - ذلك أمر يبدو غريبا ، للوهلة الأولى ، ولكنه الحق الذي تعطيه بدائه العقول ، ذلك بأن القرآن هو كلام الله ، ونحن كلما نقرأه إنما يكلمنا الله كفاحا ، ولكنا لا نعقل عنه .. السبب : أننا عنـه مشغـولون .. قال تعالى في ذلك: (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ (15) }
(10)
بقيت هناك قضيتان يتعين ملاحظتهما ، وهو أن التلقي والإرسال بين الأذهان البشرية ، وهو الذي سبق الإشارة إليه فيما أسلفنا ، أما ما قرأنا عن المتصوفة ، فهو أنهم لا يتحدثون إلا عن التلقي عنه جلّ جلاله ، وليس تنقل المعارف بين الأذهان البشرية . والقضيتان تختلفان كماً ونوعاً . وهو مجال خصب للتناول ،أكبر من مقال عجول أو شذرات عن إمكانات الصندوق الذي نحمله فوق أكتافنا .
عبد الله الشقليني
29 ديسمبر 2015
abdallashiglini@hotmail.com