قراءة خارج الصندوق (1)

 


 

 

(1)
أن يخرج السيّد رئيس الوزراء الانتقال الدكتور عبد الله حمدوك، الذي عُرفت عنه لازمته المتفائلة "سنعبر وسننتصر" تعبيراً عن إيمان لا يتزعزع عنده بحتمية إنجاح مهمة الانتقال، ليقفز فجأة بعد أقل من عامين من تشكيل الحكومة الانتقالية إلى نتيجة مغايرة تماماً عنوانها وصول الأحوال إلى درجة "أن نكون أولا نكون" وأن وجود السودان ذاته بات مهدداً، فذلك بون شاسع بين الموقفين يطرح تساؤلات كثيرة، خاصة عندما لا تفسّر الحيثيات التي سيقت في الخطاب بموضوعية مقنعة أسباب هذا التحوّل الدرامي من النقيض إلى النقيض، لا سيما وقد حدث ذلك بلا تدرّج يبرّر هذه النقلة المفاجئة، فالخطاب في مجمله لم يأت جديد مما هو معلوم ومعاش، فهو يقدم وصفاً متأخراً لما كان يحدث على أرض الواقع من تدهور منذر لأكثر من عام، وما ظلّت تحذر من حدوثه العديد من الكتابات الصحافية، وسط حالة إنكار مستمر من الطبقة الحاكمة التي كانت تصر على أن كل شئ يجري على ما يرام، فضلاً عن ذلك قدّم الخطاب تشخيصاً غير متماسك لأسباب هذا "الخطر الماحق على البلاد والعباد" هي في الواقع نتاج وليست أسباباً لما حدث.

(2)
في مطلع مثل هذا الشهر من العام الماضي استقبل السيّد رئيس الوزراء عدداً من كبار الصحافيين بمبادرة كريمة سعى فيها الدكتور الواثق كمير تكلّلت بحوار استغرق عدة ساعات جرى فيه نقاش عميق وصريح للغاية حول التحديات التي تجابه البلاد في الفترة الانتقالية، وكانت لا تزال معظم المشاغل التي جرى الحوار حولها في بداية بروزها كمهدّدات لإنجاح الفترة الانتقالية، ولعل ما جعل ذلك النقاش صريحاً وواضحاً أريحية الدكتور حمدوك التي تفاعلت مع المشاركين في اللقاء بعقل مفتوح وسعة صدر يفتقر إليها أكثر العاملين في المجال العام وتلك ميزة فريدة لرجل دولة.

(3)
ولعل أغلب القضايا التي تم الحوار حولها في ذلك اللقاء مما تطرق له خطابه الموسوم "الأزمة الوطنية وقضايا الانتقال – الطريق إلى الأمام"، مثل مسائل الشراكة المدنية العسكرية، مفاوضات السلام، أوضاع "الحاضنة السياسية" وعلاقتها المضطربة مع الحكومة، الاقتصاد، العدالة وغيرها من القضايا الملّحة وكانت كلها تشهد إرهاصات اختلالات واضحة مما بات محل شكوى اليوم، ولعل أهم خلاصة لذلك اللقاء كانت اتفاق الصحافيين المشاركين الحثّ على ضرورة أن "يمسك الدكتور حمدوك كتاب القيادة بقوة"، وأن يكون دوره مركزياً ومحورياً في قيادة وإدارة عملية الانتقال بحكمة وقوة وإنصاف، ليس فقط بحكم المهام الملقاة على عاتقه، والصلاحيات التي كفلتها له الوثيقة الدستورية، بل لما هو أهم من ذلك، لتجسيد "التفويض الشعبي" الواسع غير المسبوق الذي لم يحظ به أحد قبله، ولكن لسبب ما لم يكن الدكتور حمدوك مستعداً أو راغباً في التجاوب مع هذا الطرح، مؤثراً ما اعتبره أسلوباً ناجعاً بإمكانية إنجاح "نموذج الشراكة السودانية الفريد" بإدارة متناغمة غير ميّالة لحسم التناقضات ورسم الخطوط الحمراء.

4))
أهمية هذه المقدمة على طولها أنها ترسم خلفية ضرورية لا غنى عنها لأي محاولة موضوعية لقراءة التطور الأخير الذي حمله خطاب حمدوك ومآلاته، ويجدر بي التنبيه هنا إلى أنني أنطلق من موقف مؤيد من ناحية المبدأ لتحرك السيّد رئيس الوزراء، وما أبديه من ملاحظات واستدراكات في هذا المقال تأتي من باب "نقد وإصلاح"، وأول داعي لذلك توافق ما ورد في خطاب الدكتور حمدوك مع ما ظللت وآخرين نحذر من وقوعه لفترة طويلة، أن يصل انسداد الأفق مع تواتر التردي السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأمني لأن يضع البلاد على حافة الهاوية إن لم يتم تداركه قبل وقوع المحظور، صحيح أن تحرك السيد رئيس الوزراء للإقرار بذلك جاء متأخراً للغاية، تفاقمت خلاله الأمور وأصبحت أكثر تعقيداً، ولكن مع ذلك يُحمد له هذا الموقف المتأخر بغض النظر عن ملابساته وخلفياته، والسبب الآخر أن البلاد باتت تواجه هذه الأوضاع المنذرة في ظل حالة فراغ سياسي وقيادي من قبل الأطراف كافة فيما يُعرف ب "شركاء الانتقال"، وهي حالة عجز سياسي وقيادي غير مسبوقة لم تشهد لها البلاد مثيلاً، وأن يأتي يتحرك الدكتور حمدوك في محاولة لسد هذا الفراغ السياسي والعجز القيادي، ولو متأخراً كثيراً، ودون الدخول في التفاصيل، وفي ظل هذه الغيبوبة الشاملة لهو أمر يجب أن يجد ما يستحقه من اهتمام وتفاعل موضوعي بحسبانه الخيار الوحيد المتاح الآن، على الأقل بمنطق أنها اللعبة الوحيدة في المدينة. ونواصل بإذن الله.

 

آراء