قراءة عابرة في الثورات السودانية المسلّحة (الحركة الشعبية لتحرير السودان نموذجاً)
عبد الجبار محمود دوسه
12 April, 2023
12 April, 2023
الدكتور الراحل جون قرنق وعبر الحركة الشعبية لتحرير السودان التي قادها، طرح رؤية ما أسماها "السودان الجديد"، وهو مشروع إذا جاز أن نفسّره باختصار، يرتكز على المواطنة المحضة لإعادة هيكلة الدولة على أساس الهوية السودانوية المبرأة من أي مؤثّرات دينية أو قبائلية أو إثنية وقومية. قاتلت الحركة الشعبية لتحرير السودان أكثر من عقدين. بضع سنوات منها كانت في مواجهة النظام الذي كان يقوده الرئيس الراحل جعفر النميري والذي تولّى السلطة عبر انقلاب عسكري في العام 1969م، ثم تواصل القتال خلال الفترة الانتقالية عقب الانتفاضة الشعبية في أبريل 1985م، والتي أطاحت بالرئيس النميري وكان الجيش قد قفز إليها حتى لا تتحول إلى سابقة مدنية كاملة الدسم كما هو الحال في ثورة ديسمبر 2018م.
استمرت الحركة الشعبية في قتالها للحكومة الديموقراطية التي انبثقت عن تلك الفترة الانتقالية بقيادة الإمام الراحل الصادق المهدي، رغم توصّلها لاتفاق إطاري مع زعيم الحزب الاتحادي مولانا محمد عثمان الميرغني في 1988م. كانت الحركة تأمل أن يمهّد ذلك الاتفاق لأولى خطوات البدء في المشروع، لكن ذلك الاتفاق لم يجد قبولاً من الشريك صاحب النصيب الأكبر في حكومة الائتلاف آنذاك وهو حزب الأمّة، فواصلت الحركة الشعبية قتالها حتى توصلت في العام ٢٠٠٥م، إلى اتفاق مع نظام "الإنقاذ" الانقلابي بقيادة المشير عمر البشير، الاتفاق الذي سُمّي "باتفاق السلام الشامل"، ويُعرف أيضاً باتفاق نيفاشا.
هذه مقدّمة مختصرة ومعلومة ومتاحة للجميع، واختياري للحركة الشعبية دون غيرها نموذجاً، يعود إلى كونها أعرق وأقدم في الثورة المسلّحة في السودان بعد "أنيانيا"، وقد امتلكت ثلاث عوامل يمكنها أن تجعل مقارباتي اللاحقة أوفق اتساقاً وأقرب تفاعلاً معها، وبما يقود إلى الوصول إلى دروس مستفادة أوسع ماعوناً للاستيعاب وأقوى تأثيراً. هذه العوامل الثلاث هي أولاً، وجود مشروع له مضمون استيعابي عريض هو "السودان الجديد"، وثانياً، قائد يتمتع بإدراك عميق بالقضية وصاحب كاريزما جاذبة هو "الدكتور جون قرنق"، وثالثاً، سيطرة على مساحات شاسعة ومأهولة بالسكان، يمكن أن تطرح فيهم الرؤية تلقيناً وتوعية للكبار والصغار "في جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق" لتمثّلا مدخلاً للوطن الكبير.
من الطبيعي أن تكون الحركة الشعبية لتحرير السودان قد خَرّجت من مدارسها الفكرية عشرات من الكوادر القيادية العليا المتشّربة بفلسفة ورؤية مشروع "السودان الجديد"، كوادر افتراضاً ينبغي أن تكون قادرة على بلورة وتطبيق تلك الرؤية وتفكيكها إلى أي مدى من التفاصيل الصغيرة وفق ما تقتضيه كل مراحل إعادة هيكلة الدولة السودانية وصياغة إنسانها. وبالضرورة أيضاً أن يكون هناك المئات من القيادات الوسيطة المتشرّبة إلى حد معقول بالرؤية نفسها، كما بالضرورة أن ينسحب ذلك على قواتها وعامة عضويتها، حيث إن الفترة الزمنية منذ تأسيس الحركة وحتى اليوم، ليست بالقصيرة (40 عاماً)، فضلاً عن سيطرتها على مساحات شاسعة من الجنوب السابق وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، مما يجب أن يتيح لها القيام بذلك بأريحية ونجاح. أقول هذا وفي ذهني محاولة مقاربة مع ثورات عالمية مسلّحة سابقة مثل الكوبية والفيتنامية والصينية، رغم اختلاف بعض المعطيات بما في ذلك سياقات الزمان والمكان والأطراف والفاعلين والأيديولوجيا.
مع اقتراب انقضاء أجل تنفيذ اتفاقية السلام الشامل في العام 2010م، جاءت أول ضربة فأصابت مشروع السودان الجديد إصابة بليغة، وهي أن الوحدة التي كان مؤمّلاً لها أن تكون جاذبة لتعصف ببند تقرير المصير، لم تكن كذلك. حمّلت الحركة الشعبية نظام "الإنقاذ" الحاكم بأنه لم يكن جاداً في الوحدة. لا أريد الخوض في تفصيلات المسببات حتى لا نبتعد كثيراً عن التساؤلات المحورية. ثم كان الاستفتاء حيث صوت الجنوبيون لصالح الانفصال بنسبة فاقت ٩٩%، وهي نسبة بالتأمل فيها، تنم عن عمق شعور الجنوبيين بحجم الغبن الذي اعتراهم من دولة عاشوا فيها ويرون أنها لم تكن إلا تجسيداً موغلاً للظلم والمظالم التي تعرّضوا لها، فانفصل الجنوب وتأسست الدولة الوليدة في 2011م.
من الطبيعي ووفقاً للافتراضات التي أشرنا إليها بخصوص كوادر مشروع "السودان الجديد"، من الطبيعي أن الدولة الوليدة، ستطبّق المشروع وقع الحافر على الحافر، بالنظر إلى انعدام أي معيقات، إلا من بعض كيد الدولة الأم، وهو أمر مكشوف الصفحات ومقروءٌ ومحفوظٌ لقادة الدولة الوليدة، مما يجب أن يسهّل مهمتهم في التعامل معه، كما أن وجود الشعب ذو الهوية المتجانسة، هو الآخر عامل إيجابي ودافع أقوى. شعب ما زال شعوره بحجم المظالم التي تعرّض لها حيّة وماثلة في مخيلته، وأيضاً لإثبات أن الدولة الوليدة تستطيع أن تُولِد من رحم المعاناة الطويلة، نقيضها. غير أنه لم تمض أربع أعوام من إعلان الدولة، حتى أدخلت الكوادر العليا للحركة، الوطن الوليد في مستنقع حرب طاحنة، أطراف تلك الحرب هم أنفسهم أصحاب فكر ورؤية ومشروع "السودان الجديد". قُتِلَ عشرات الآلاف وشُرِّدَ الملايين، ودُمِّرَ الكثير، من القليل الذي كان مجرّد شبح وملامح خجولة للخدمات والتنمية، وبات أن شراسة القتال بين الرفاق ضد بعضهم البعض، لم يكن بأقل ضراوة من قتالهم ضد العدو المشترك السابق إن لم يكن أعنف. من هنا أبدأ بطرح علامات الاستفهام والأسئلة لأنها ضرورية لتقويم مسيرة الحركة الشعبية شمال وكذا للحركات المسلّحة الشبيهة في دارفور، أو لكل من يفكّر في ذلك الاتجاه، رغم قناعتي الشخصية بأن الحركات المسلّحة الناشئة في دارفور لم يعد ممكناً تقويمها.
بالنظر إلى الحرب الطاحنة التي نشبت بين الرفاق، هل كان مشروع "السودان الجديد"، حياً فقط بحياة الدكتور جون قرنق، ومات بموته؟ رغم أن الحرب وجدت طريقها بين الرفاق في حياة الدكتور جون قرنق نفسه، لكن قد نجد للسياق في ذلك الوقت قراءات موضوعية رغم المرارة. أعود للتساؤل الرئيس، أي هل كان المشروع ضعيفاً في بنيته الفكرية بحيث أن استمراريته كانت متاحة لأنه كان يتغذّى من كاريزما قائده، أي من قدرات الدكتور جون قرنق القيادية والخطابية، فعندما غاب هو، سقط المشروع وبقي هيكلاً أجوفا؟ هل عشرات الكوادر القيادية العليا التي كانت إلى جانب الدكتور جون قرنق ولا يسع المجال لحصرهم وذكرهم، وهي كوادر على قدرٍ عالٍ من التأهيل العلمي والمعرفي والإلمام السياسي، ونحمل لهم كل التقدير، هل كانوا مجرّد كوادر تتوشح بظلاله، أي مرآة تعكس صورته بما فيها المشروع، وأنه بغيابه لم يعد في المرآة معكوس؟ ثم ماذا عن المئات من الكوادر الوسيطة المتشرّبة بفلسفة المشروع، بل أين الفكر والرؤية من عشرات الآلاف من الثوار في جيش الحركة، ممن قاتلوا جنباً إلى جنب لسنين عددا، وهتفوا بشعارات المشروع واستلهموا منها القوة الدافعة في ساحات القتال جنباً إلى جنب، بينما يتقاتلون اليوم وجهاً لوجه؟ بل أين اختفى الشعور بظلم الظالمين السابقين لينشأ من بين المظلومين ظالمون جدد؟ هل كانت الرؤية الفلسفية للمشروع تفتقر إلى قدرة التحصين الذاتي كآلية حاضرة لقمع نوازع التجبّر والانحراف في وجدان قادة المشروع والمنتسبين له متى حادوا؟ فكانت الحصيلة تلك المأساة التي حدثت في الدولة الوليدة؟ تُرى، ما هو السؤال الذي قفز فجأة في ذهن كل مواطن من مواطني الجنوب، ومن يجيبهم عليه؟
إذا كنا قد حصرنا الأسئلة في الفقرة السابقة في عمق أو ضعف استيعاب فلسفة الرؤية أو تأثيره كعامل، فبالنظر معمّقاً في القراءة، لا نستطيع أن نغفل طرح المزيد من الأسئلة حول علاقة النزعة "القبائلية" ومدى طغيانها عند كوادر الحركات الثورية السودانية المسلّحة على فِكر وفلسفة أي تنظيم ثوري والثوّار الذين ينتسبون لها عاملاً آخر، وفيما إذا كان البديل للضعف الفكري هو الانكفاء نحو القبيلة والوقوع في حضنها، بحيث يصبح الكادر القيادي الذي كان بالأمس متحدّثاً بارعاً عن رؤية وفلسفة فكرية لحركة ثورية مسلّحة لبناء امّة، يتحوّل إلى قزم طائع تروّضه وتُعيد تدويره القبيلة وفقاً لأهوائها وطقوسها، فتستخدمه مِعولاً لهدم ما بناه مع الآخرين من مشروع جامع بالدخول في حرب طاحنة؟ هل تتوفر في نواة الذرّة "القبائلية" الاجتماعية خصائص وقدرات غير منظورة ولا محسوسة تطلقها عند الحاجة لتطويع أفرادها مهما اعتقدوا بأنهم تشرّبوا برؤى وأفكار تجمعهم مع الآخرين لبناء أوعية أكثر قدرة على تشكيل أطر جامعة للمجتمعات بما يرتقي بها إلى مصاف بناء أمم؟ وهنا لا بد أن أشير إلى أن ثمة فرق بين ما حدث في نزاع الرفاق في الحركة الشعبية في دولة الجنوب، حيث استسلم قادة الطرفين إلى القبيلة لتدير هي النزاع بمعاييرها، وبين ما نراه الآن في الحركات التي نشأت في دارفور حيث يتدثّر قادتها بثياب القبيلة كلما ادلهمّت خطوب مقاعدهم، ويخلعون ذلك الرداء متى سطعت شمسهم واستبانت مواقعهم، مما يؤكد أنه ليس للقبائل هنا طغيان لا في المنشأ ولا المسيرة ولا المآل، وإن أصابها الرشح.
ونحن ننقّب في أسباب الانزلاق، نتساءل عن دور النزعات الذاتية في الاستئثار بالقيادة والشعور بالزهو، والاستسلام لملذات الرفاه، وأين مقامها من مؤثّرات الانحراف، عاملاً ثالثاً؟ هل هي نتاج غواية لبلوغ رؤية، "السودان الجديد" في الدولة الوليدة قمة توهّجها، بحيث أضحت كالوردة المكتملة التفتّح والرياحين، وبدلاً من أن يعم فواحها الجميع، يسعى الفرد القائد إلى احتكارها لنفسه، واستغلال ذلك التوهّج لذاته؟ أم أن الفرد القائد والذي توفرت لدية الكاريزما بناءً على معطيات وقدرات ذاتية في الخطابة والقيادة، أضحت كاريزماه هي الرافعة التي تسمو بالتنظيم وتهبط بها، والحال كذلك، يطغى إحساس القائد بأنه فوق الجميع تنظيماً ومنسوبين، فينأى بقراراته، ومن هنا يأتي صدام الرفاق عند الخلاف؟ لكن، أين كوابح الرؤية الفكرية لمثل هذه الانحرافات؟ هل هذا يؤكّد أن الحركات الثورية المسلّحة التي نشأت في السودان، ورغم نبل واستقامة الأهداف التي تبنّتها والشعارات التي رفعتها، والسنوات الطويلة التي قضتها في النضال، لم تتمكن من بناء ذلك العمق الفكري المتأصل في الوجدان، بالقدر الذي يقاوم أي تفريخ لانحرافات في ممارسات قياداتها ومنسوبيها مهما صغرت شعواؤها، وتنوّعت في مصادرها؟ هل ذلك تأكيد آخر على أن هذه المواعين الثورية المسلّحة لم تخط تفاصيل الفكر والرؤية ولم تفككها إلى كبسولات تلقينيه وتوعوية مصغّرة بحيث يستوي القادة والمنسوبون لها في فهمها واستيعابها بالدرجة التي يكونوا فيها دائماً على منصّة واحدة وتعصمهم من المؤثّرات الخارجية ومن نوازع الأنفس الأمّارة بسوء من داخلها؟ لعل الحركة الشعبية شمال قد استفادت من العبرة في الذات مما حدث بين الرفاق في الدولة الوليدة رغم قساوته، ولأنها الرائدة في الملعب الثوري، ربما بانعكاس وعي الدرس، يستلهم منها الآخرون بعضاً من القدرة على انتشال الشيطان من تفاصيل فكر وفلسفة الرؤى لتبقى نقيّة يهضمها المنسوبون وتنساب فضائلها على مخاطبة قضايا الوطن بوهج ناصع ومنظور للجميع ولكن غير شاخص ولا يحرق.
مثل هذه الأسئلة، لا تجد طريقها إلى المقاربة مع الثورات المسلّحة التي قامت في كوبا وفيتنام والصين، لأنها ثورات أثبتت قدرتها الكاريزمية في الفكر والرؤى، فصنعت أجيالاً متشرّبة بفلسفتها وكوادر قيادية نهلت من كاريزما الفكر والرؤية، فكان كل قائد يأتي، يحمل الكثير من جينات ذلك الفكر وخصائص تلك الرؤية ومن ثمّ يطوّر فيها، فإن ذهب بقي الفكر وبقيت الرؤية أكثر توهجاً، ولكن المقاربة بلا شك أقرب إلى التطابق مع ما حدث في بوركينا فاسو، حيث غدر من ينبغي أن يكون أحد المُستَهْدَفين بالاستفادة من نتائج ثورة التحرر وهو "لويز كومباوري" بثائر قائد هو "توماس سنكارا"، ويمكن أيضاً أن تتطابق مع ما حدث في زمبابوي حيث الخلاف الفاصل الذي نشب بين ثوار الأمس وأعداء اليوم بعد التحرر، "روبرت موغابي" ورفيقه في النضال "جوشوا أنكومو" وبينهما ما صنع الحدّاد. الحقيقة أن هناك نماذج أخرى عديدة يمكن أن نقارب بها، خاصة في أفريقيا. لعلنا يمكن أن نقول بأن القبيلة والنوازع الذاتية في النماذج التي تقارب الحالة السودانية، محصّنة بحجم ونِسب أمّية منتشرة بين عامة الشعب، سواء من منسوبي الحركات الثورية المسلّحة أو غيرهم، لذلك لم تحفر الرؤى الفكرية في جدرانها بالقدر الذي يضعف من تأثيرها، أو قدرة العوامل الخارجية من أن تلعب داخل تلك الحصون.
ركّزنا على طرح التساؤلات أكثر من الإجابة عليها، لعل القارئ يأخذ فيها المزيد من التأمل والتعمّق للخروج بإجابات ربما تضع حداً فاصلاً لمفهوم البحث عن الحقوق ودولة المواطنة المتكافئة، باتباع الوسائل والآليات الأنسب لهذا العصر، لا سيما في الحالة السودانية التي يتقاسم فيها وجدان وولاء الشعوب، أفكار ورؤى ومشاريع لم تتبلور بكل تفاصيلها سواء على المستوى الثوري المسلّح أو التنظيمات المدنية، الشيء الذي خلق حالة إرواء توعوي ناقصة لدى عامة الشعب. وقيادات آثرت أن تمضي بالاعتماد على وترديد الشعارات دون التبحّر في تحويلها إلى حِزم قابلة للتنفيذ، وللتعويض عن ذلك يتوجهون للاحتكام إلى سطوة ودعم الآلة المسلّحة في تمرير القرارات بغض النظر عن درجة صحّتها، أو عبر الولاء النابع من نفوذ القبيلة والطائفة وربما الأيديولوجيا المتعامية، أكثر مما يستوجب دورها من إنتاج وتغذية الرؤى بأفكار متجددة وتأصيلها في عقول منسوبيها. بقليل من التأمل، فالصورة أكثر وضوحاً بأن أضرار وافرازات سقوط قادة الثورات المسلّحة في تقديم ما يشفع لهم لدى الذين كانت تأمل في انتشالهم إلى الأفضل قياساً بحجم التضحيات، يفوق تأثيرها السلبي فيما إذا كانت الوسائل المتّبعة، مناهضات سلمية بمختلف أشكالها. ربما نستنتج من كل ذلك أنه ليس من الحكمة في شيء، ولا من مصلحة تعافي واستقرار السودان، التفكير في المضي أو تأسيس منصات ثورية مسلّحة مهما عظمت الشعارات والعناوين الرئيسة للأفكار والرؤى التي تتصدر منوفيستات التأسيس.
jabdosa@yahoo.com
استمرت الحركة الشعبية في قتالها للحكومة الديموقراطية التي انبثقت عن تلك الفترة الانتقالية بقيادة الإمام الراحل الصادق المهدي، رغم توصّلها لاتفاق إطاري مع زعيم الحزب الاتحادي مولانا محمد عثمان الميرغني في 1988م. كانت الحركة تأمل أن يمهّد ذلك الاتفاق لأولى خطوات البدء في المشروع، لكن ذلك الاتفاق لم يجد قبولاً من الشريك صاحب النصيب الأكبر في حكومة الائتلاف آنذاك وهو حزب الأمّة، فواصلت الحركة الشعبية قتالها حتى توصلت في العام ٢٠٠٥م، إلى اتفاق مع نظام "الإنقاذ" الانقلابي بقيادة المشير عمر البشير، الاتفاق الذي سُمّي "باتفاق السلام الشامل"، ويُعرف أيضاً باتفاق نيفاشا.
هذه مقدّمة مختصرة ومعلومة ومتاحة للجميع، واختياري للحركة الشعبية دون غيرها نموذجاً، يعود إلى كونها أعرق وأقدم في الثورة المسلّحة في السودان بعد "أنيانيا"، وقد امتلكت ثلاث عوامل يمكنها أن تجعل مقارباتي اللاحقة أوفق اتساقاً وأقرب تفاعلاً معها، وبما يقود إلى الوصول إلى دروس مستفادة أوسع ماعوناً للاستيعاب وأقوى تأثيراً. هذه العوامل الثلاث هي أولاً، وجود مشروع له مضمون استيعابي عريض هو "السودان الجديد"، وثانياً، قائد يتمتع بإدراك عميق بالقضية وصاحب كاريزما جاذبة هو "الدكتور جون قرنق"، وثالثاً، سيطرة على مساحات شاسعة ومأهولة بالسكان، يمكن أن تطرح فيهم الرؤية تلقيناً وتوعية للكبار والصغار "في جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق" لتمثّلا مدخلاً للوطن الكبير.
من الطبيعي أن تكون الحركة الشعبية لتحرير السودان قد خَرّجت من مدارسها الفكرية عشرات من الكوادر القيادية العليا المتشّربة بفلسفة ورؤية مشروع "السودان الجديد"، كوادر افتراضاً ينبغي أن تكون قادرة على بلورة وتطبيق تلك الرؤية وتفكيكها إلى أي مدى من التفاصيل الصغيرة وفق ما تقتضيه كل مراحل إعادة هيكلة الدولة السودانية وصياغة إنسانها. وبالضرورة أيضاً أن يكون هناك المئات من القيادات الوسيطة المتشرّبة إلى حد معقول بالرؤية نفسها، كما بالضرورة أن ينسحب ذلك على قواتها وعامة عضويتها، حيث إن الفترة الزمنية منذ تأسيس الحركة وحتى اليوم، ليست بالقصيرة (40 عاماً)، فضلاً عن سيطرتها على مساحات شاسعة من الجنوب السابق وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، مما يجب أن يتيح لها القيام بذلك بأريحية ونجاح. أقول هذا وفي ذهني محاولة مقاربة مع ثورات عالمية مسلّحة سابقة مثل الكوبية والفيتنامية والصينية، رغم اختلاف بعض المعطيات بما في ذلك سياقات الزمان والمكان والأطراف والفاعلين والأيديولوجيا.
مع اقتراب انقضاء أجل تنفيذ اتفاقية السلام الشامل في العام 2010م، جاءت أول ضربة فأصابت مشروع السودان الجديد إصابة بليغة، وهي أن الوحدة التي كان مؤمّلاً لها أن تكون جاذبة لتعصف ببند تقرير المصير، لم تكن كذلك. حمّلت الحركة الشعبية نظام "الإنقاذ" الحاكم بأنه لم يكن جاداً في الوحدة. لا أريد الخوض في تفصيلات المسببات حتى لا نبتعد كثيراً عن التساؤلات المحورية. ثم كان الاستفتاء حيث صوت الجنوبيون لصالح الانفصال بنسبة فاقت ٩٩%، وهي نسبة بالتأمل فيها، تنم عن عمق شعور الجنوبيين بحجم الغبن الذي اعتراهم من دولة عاشوا فيها ويرون أنها لم تكن إلا تجسيداً موغلاً للظلم والمظالم التي تعرّضوا لها، فانفصل الجنوب وتأسست الدولة الوليدة في 2011م.
من الطبيعي ووفقاً للافتراضات التي أشرنا إليها بخصوص كوادر مشروع "السودان الجديد"، من الطبيعي أن الدولة الوليدة، ستطبّق المشروع وقع الحافر على الحافر، بالنظر إلى انعدام أي معيقات، إلا من بعض كيد الدولة الأم، وهو أمر مكشوف الصفحات ومقروءٌ ومحفوظٌ لقادة الدولة الوليدة، مما يجب أن يسهّل مهمتهم في التعامل معه، كما أن وجود الشعب ذو الهوية المتجانسة، هو الآخر عامل إيجابي ودافع أقوى. شعب ما زال شعوره بحجم المظالم التي تعرّض لها حيّة وماثلة في مخيلته، وأيضاً لإثبات أن الدولة الوليدة تستطيع أن تُولِد من رحم المعاناة الطويلة، نقيضها. غير أنه لم تمض أربع أعوام من إعلان الدولة، حتى أدخلت الكوادر العليا للحركة، الوطن الوليد في مستنقع حرب طاحنة، أطراف تلك الحرب هم أنفسهم أصحاب فكر ورؤية ومشروع "السودان الجديد". قُتِلَ عشرات الآلاف وشُرِّدَ الملايين، ودُمِّرَ الكثير، من القليل الذي كان مجرّد شبح وملامح خجولة للخدمات والتنمية، وبات أن شراسة القتال بين الرفاق ضد بعضهم البعض، لم يكن بأقل ضراوة من قتالهم ضد العدو المشترك السابق إن لم يكن أعنف. من هنا أبدأ بطرح علامات الاستفهام والأسئلة لأنها ضرورية لتقويم مسيرة الحركة الشعبية شمال وكذا للحركات المسلّحة الشبيهة في دارفور، أو لكل من يفكّر في ذلك الاتجاه، رغم قناعتي الشخصية بأن الحركات المسلّحة الناشئة في دارفور لم يعد ممكناً تقويمها.
بالنظر إلى الحرب الطاحنة التي نشبت بين الرفاق، هل كان مشروع "السودان الجديد"، حياً فقط بحياة الدكتور جون قرنق، ومات بموته؟ رغم أن الحرب وجدت طريقها بين الرفاق في حياة الدكتور جون قرنق نفسه، لكن قد نجد للسياق في ذلك الوقت قراءات موضوعية رغم المرارة. أعود للتساؤل الرئيس، أي هل كان المشروع ضعيفاً في بنيته الفكرية بحيث أن استمراريته كانت متاحة لأنه كان يتغذّى من كاريزما قائده، أي من قدرات الدكتور جون قرنق القيادية والخطابية، فعندما غاب هو، سقط المشروع وبقي هيكلاً أجوفا؟ هل عشرات الكوادر القيادية العليا التي كانت إلى جانب الدكتور جون قرنق ولا يسع المجال لحصرهم وذكرهم، وهي كوادر على قدرٍ عالٍ من التأهيل العلمي والمعرفي والإلمام السياسي، ونحمل لهم كل التقدير، هل كانوا مجرّد كوادر تتوشح بظلاله، أي مرآة تعكس صورته بما فيها المشروع، وأنه بغيابه لم يعد في المرآة معكوس؟ ثم ماذا عن المئات من الكوادر الوسيطة المتشرّبة بفلسفة المشروع، بل أين الفكر والرؤية من عشرات الآلاف من الثوار في جيش الحركة، ممن قاتلوا جنباً إلى جنب لسنين عددا، وهتفوا بشعارات المشروع واستلهموا منها القوة الدافعة في ساحات القتال جنباً إلى جنب، بينما يتقاتلون اليوم وجهاً لوجه؟ بل أين اختفى الشعور بظلم الظالمين السابقين لينشأ من بين المظلومين ظالمون جدد؟ هل كانت الرؤية الفلسفية للمشروع تفتقر إلى قدرة التحصين الذاتي كآلية حاضرة لقمع نوازع التجبّر والانحراف في وجدان قادة المشروع والمنتسبين له متى حادوا؟ فكانت الحصيلة تلك المأساة التي حدثت في الدولة الوليدة؟ تُرى، ما هو السؤال الذي قفز فجأة في ذهن كل مواطن من مواطني الجنوب، ومن يجيبهم عليه؟
إذا كنا قد حصرنا الأسئلة في الفقرة السابقة في عمق أو ضعف استيعاب فلسفة الرؤية أو تأثيره كعامل، فبالنظر معمّقاً في القراءة، لا نستطيع أن نغفل طرح المزيد من الأسئلة حول علاقة النزعة "القبائلية" ومدى طغيانها عند كوادر الحركات الثورية السودانية المسلّحة على فِكر وفلسفة أي تنظيم ثوري والثوّار الذين ينتسبون لها عاملاً آخر، وفيما إذا كان البديل للضعف الفكري هو الانكفاء نحو القبيلة والوقوع في حضنها، بحيث يصبح الكادر القيادي الذي كان بالأمس متحدّثاً بارعاً عن رؤية وفلسفة فكرية لحركة ثورية مسلّحة لبناء امّة، يتحوّل إلى قزم طائع تروّضه وتُعيد تدويره القبيلة وفقاً لأهوائها وطقوسها، فتستخدمه مِعولاً لهدم ما بناه مع الآخرين من مشروع جامع بالدخول في حرب طاحنة؟ هل تتوفر في نواة الذرّة "القبائلية" الاجتماعية خصائص وقدرات غير منظورة ولا محسوسة تطلقها عند الحاجة لتطويع أفرادها مهما اعتقدوا بأنهم تشرّبوا برؤى وأفكار تجمعهم مع الآخرين لبناء أوعية أكثر قدرة على تشكيل أطر جامعة للمجتمعات بما يرتقي بها إلى مصاف بناء أمم؟ وهنا لا بد أن أشير إلى أن ثمة فرق بين ما حدث في نزاع الرفاق في الحركة الشعبية في دولة الجنوب، حيث استسلم قادة الطرفين إلى القبيلة لتدير هي النزاع بمعاييرها، وبين ما نراه الآن في الحركات التي نشأت في دارفور حيث يتدثّر قادتها بثياب القبيلة كلما ادلهمّت خطوب مقاعدهم، ويخلعون ذلك الرداء متى سطعت شمسهم واستبانت مواقعهم، مما يؤكد أنه ليس للقبائل هنا طغيان لا في المنشأ ولا المسيرة ولا المآل، وإن أصابها الرشح.
ونحن ننقّب في أسباب الانزلاق، نتساءل عن دور النزعات الذاتية في الاستئثار بالقيادة والشعور بالزهو، والاستسلام لملذات الرفاه، وأين مقامها من مؤثّرات الانحراف، عاملاً ثالثاً؟ هل هي نتاج غواية لبلوغ رؤية، "السودان الجديد" في الدولة الوليدة قمة توهّجها، بحيث أضحت كالوردة المكتملة التفتّح والرياحين، وبدلاً من أن يعم فواحها الجميع، يسعى الفرد القائد إلى احتكارها لنفسه، واستغلال ذلك التوهّج لذاته؟ أم أن الفرد القائد والذي توفرت لدية الكاريزما بناءً على معطيات وقدرات ذاتية في الخطابة والقيادة، أضحت كاريزماه هي الرافعة التي تسمو بالتنظيم وتهبط بها، والحال كذلك، يطغى إحساس القائد بأنه فوق الجميع تنظيماً ومنسوبين، فينأى بقراراته، ومن هنا يأتي صدام الرفاق عند الخلاف؟ لكن، أين كوابح الرؤية الفكرية لمثل هذه الانحرافات؟ هل هذا يؤكّد أن الحركات الثورية المسلّحة التي نشأت في السودان، ورغم نبل واستقامة الأهداف التي تبنّتها والشعارات التي رفعتها، والسنوات الطويلة التي قضتها في النضال، لم تتمكن من بناء ذلك العمق الفكري المتأصل في الوجدان، بالقدر الذي يقاوم أي تفريخ لانحرافات في ممارسات قياداتها ومنسوبيها مهما صغرت شعواؤها، وتنوّعت في مصادرها؟ هل ذلك تأكيد آخر على أن هذه المواعين الثورية المسلّحة لم تخط تفاصيل الفكر والرؤية ولم تفككها إلى كبسولات تلقينيه وتوعوية مصغّرة بحيث يستوي القادة والمنسوبون لها في فهمها واستيعابها بالدرجة التي يكونوا فيها دائماً على منصّة واحدة وتعصمهم من المؤثّرات الخارجية ومن نوازع الأنفس الأمّارة بسوء من داخلها؟ لعل الحركة الشعبية شمال قد استفادت من العبرة في الذات مما حدث بين الرفاق في الدولة الوليدة رغم قساوته، ولأنها الرائدة في الملعب الثوري، ربما بانعكاس وعي الدرس، يستلهم منها الآخرون بعضاً من القدرة على انتشال الشيطان من تفاصيل فكر وفلسفة الرؤى لتبقى نقيّة يهضمها المنسوبون وتنساب فضائلها على مخاطبة قضايا الوطن بوهج ناصع ومنظور للجميع ولكن غير شاخص ولا يحرق.
مثل هذه الأسئلة، لا تجد طريقها إلى المقاربة مع الثورات المسلّحة التي قامت في كوبا وفيتنام والصين، لأنها ثورات أثبتت قدرتها الكاريزمية في الفكر والرؤى، فصنعت أجيالاً متشرّبة بفلسفتها وكوادر قيادية نهلت من كاريزما الفكر والرؤية، فكان كل قائد يأتي، يحمل الكثير من جينات ذلك الفكر وخصائص تلك الرؤية ومن ثمّ يطوّر فيها، فإن ذهب بقي الفكر وبقيت الرؤية أكثر توهجاً، ولكن المقاربة بلا شك أقرب إلى التطابق مع ما حدث في بوركينا فاسو، حيث غدر من ينبغي أن يكون أحد المُستَهْدَفين بالاستفادة من نتائج ثورة التحرر وهو "لويز كومباوري" بثائر قائد هو "توماس سنكارا"، ويمكن أيضاً أن تتطابق مع ما حدث في زمبابوي حيث الخلاف الفاصل الذي نشب بين ثوار الأمس وأعداء اليوم بعد التحرر، "روبرت موغابي" ورفيقه في النضال "جوشوا أنكومو" وبينهما ما صنع الحدّاد. الحقيقة أن هناك نماذج أخرى عديدة يمكن أن نقارب بها، خاصة في أفريقيا. لعلنا يمكن أن نقول بأن القبيلة والنوازع الذاتية في النماذج التي تقارب الحالة السودانية، محصّنة بحجم ونِسب أمّية منتشرة بين عامة الشعب، سواء من منسوبي الحركات الثورية المسلّحة أو غيرهم، لذلك لم تحفر الرؤى الفكرية في جدرانها بالقدر الذي يضعف من تأثيرها، أو قدرة العوامل الخارجية من أن تلعب داخل تلك الحصون.
ركّزنا على طرح التساؤلات أكثر من الإجابة عليها، لعل القارئ يأخذ فيها المزيد من التأمل والتعمّق للخروج بإجابات ربما تضع حداً فاصلاً لمفهوم البحث عن الحقوق ودولة المواطنة المتكافئة، باتباع الوسائل والآليات الأنسب لهذا العصر، لا سيما في الحالة السودانية التي يتقاسم فيها وجدان وولاء الشعوب، أفكار ورؤى ومشاريع لم تتبلور بكل تفاصيلها سواء على المستوى الثوري المسلّح أو التنظيمات المدنية، الشيء الذي خلق حالة إرواء توعوي ناقصة لدى عامة الشعب. وقيادات آثرت أن تمضي بالاعتماد على وترديد الشعارات دون التبحّر في تحويلها إلى حِزم قابلة للتنفيذ، وللتعويض عن ذلك يتوجهون للاحتكام إلى سطوة ودعم الآلة المسلّحة في تمرير القرارات بغض النظر عن درجة صحّتها، أو عبر الولاء النابع من نفوذ القبيلة والطائفة وربما الأيديولوجيا المتعامية، أكثر مما يستوجب دورها من إنتاج وتغذية الرؤى بأفكار متجددة وتأصيلها في عقول منسوبيها. بقليل من التأمل، فالصورة أكثر وضوحاً بأن أضرار وافرازات سقوط قادة الثورات المسلّحة في تقديم ما يشفع لهم لدى الذين كانت تأمل في انتشالهم إلى الأفضل قياساً بحجم التضحيات، يفوق تأثيرها السلبي فيما إذا كانت الوسائل المتّبعة، مناهضات سلمية بمختلف أشكالها. ربما نستنتج من كل ذلك أنه ليس من الحكمة في شيء، ولا من مصلحة تعافي واستقرار السودان، التفكير في المضي أو تأسيس منصات ثورية مسلّحة مهما عظمت الشعارات والعناوين الرئيسة للأفكار والرؤى التي تتصدر منوفيستات التأسيس.
jabdosa@yahoo.com