قراءة في مساجلة صلاح أحمد إبراهيم والنّور عثمان أبّكر
عبد المنعم عجب الفيا
16 April, 2022
16 April, 2022
من المواجهات الفكرية التي اكتسبت شهرة في تاريخ الحركة الثقافية السودانية في الستينيات من القرن العشرين رد صلاح أحمد إبراهيم، على، النور عثمان أبكر. وكان النّور قد نشر مقالاً تحت عنوان (لست عربياً ولكن..) وذلك بجريدة الصحافة في يوم الثلاثاء 19/9/ 1967م أي بعد خمس سنوات من انطلاق حركة (الغابة والصحراء). فرد عليه صلاح أحمد إبراهيم رداً غاضباً وقاسياً بمقال جاء تحت عنوان: (بل نحن عرب العرب) نشر بجريدة الصحافة في يوم الثلاثاء 25/10/1967م.
اقتصر مقال النور أبكر على طرح رؤيته الشخصية للهوية الثقافية واٌلإثنية للسودان من خلال صيغة (الغابة والصحراء) ولم يتطرق فيه لمساهمات أي شخص آخر ولا حتى مساهمات زميليه محمد المكي ومحمد عبد الحي ولم يشر إليهما بأي إشارة في المقال.
وقد كٌتٍب المقال بلغة شاعرية انفعالية رجراجة يشوبها شيء من الغموض ولكنه غموض شفاف دال وموحي، يكشف ولا يحجب أفكار ورؤى الكاتب. ويبدو أن النور أبكر بحكم انتمائه الشخصي قد آثر أن يعلي من دور المؤثرات والروافد والأصول الأفريقية للثقافة السودانية ولكن من غير أن ينفي المكونات والمؤثرات العربية.
ولذلك فإن أول ما تلحظه في عنوان مقال النّور أبكر أن الكاتب استخدم ضمير المفرد. قال: "لست عربياً" ولم يقل: "لسنا عرباً".
الملاحظة الثانية هي أن عبارة العنوان تراوحت بين النفي والإثبات. فهو قد استدرك على جملة (لست عربياً) بإضافة كلمة (ولكن!).
(ولكن) هذه تنفي ما أثبتته جملة (لست عربياً) أو بالأحرى تنطوي على الاعتراف الجزئي بما نفته. فكأن الكاتب قصد إلى القول: "لست عربياً، ولكنني مع ذلك عربي بمعنى من المعاني". فثقافته عربية وهو يتحدث العربية ويكتب بالعربية ولكن لغته الأم غير عربية.
يستهل النور المقال بهذا الحسم: "كل ما هو غيبي وعميق في السودان إنما هو عطاء الغاب.. تجريدية الفكر الإسلامي استحالت إلى ليونة المدنية البدائية.. الخيط الأساسي في وجودنا ليس هو الصوفية الشرقية، بل هو الحركة الرخيمة لرقصات الغاب، الطبل، البوق".
ويدلل على ذلك بأن يطلب من القارىء أن يراقب "جوقة دراويش أو حلقة ذكر أو زار: النغمة والحركة، نبضة الطبل وردُّ فعل القدم والصدر واليدين والوسط والعنق.. النوبة الأخيرة للانفعال والتقمص ليست دينية بمفهوم إسلامي، بل بمفهوم بدائي، إفريقي".
"الإيقاع والموسيقى والأنغام والآلات السودانية أفريقية الأصل، بله والفنون والعمارة والأهرامات كذلك فـ"شمال السودان، أرض النوبة، كان من قديم الأعصر لقاح الوادي، اجتماع المنبع بالمصب. الفن الفرعوني بمصر العليا هو استلهام لأعالي النيل على الدوام".
لكن الكاتب يعود بعد كل هذا التأكيد القطعي الذي استهل به مقاله ليعترف في خواتيم المقال بدور التصوف الإسلامي الشعبي برفد الوجدان السوداني وذلك بقوله: "ما من بينة تاريخية تلغي دور التعاليم الإسلامية البسيطة في شكلها الصوفي الزاهد غير الأكاديمي في إثراء ليل الفكر والوجدان الغيبي في أرض الزنج".
إجمالاً يمكن القول إن المقال لا ينفي بل يؤكد إقرار الكاتب بازدواجية الانتماء الأفروعربي للذات القومية السودانية والذي يصفه النور غير مرة في المقال بـ "لقاح الغاب والصحراء الحميم".
ويرى أن روح التسامح التي يتحلى بها السوداني هي: "نزاع الغاب والصحراء في عمرنا، هو لونية هذه السماحة في علاقاتنا مع (إخواننا) العرب و(إخواننا) الزنج".
إن الانطباع العام الذي يخرج به القارىء البصير من مقال النور عثمان أبكر هو أن الكاتب كان يشعر وهو يكتب هذه السطور باختلال تاريخي في لقاح الغاب بالصحراء لكنه يحاول أن يبدو متفائلاً ويختم المقال بنبرة تصالحية توحي بامكانية اصلاح هذا الاختلال بالقول: "لكن معارك الكفاح المشترك وإذكاء الوعي الثوري التقدمي الحضاري هي الكفيلة بتأمين حصاد أوفر من لقاح الغاب والصحراء".
لم يترك صلاح أحمد إبراهيم مقال النور أبكر يمر هكذا. فما كان منه إلا وأن رد على النور رداً غاضباً وقاسياً بمقال جاء تحت (بل نحن عرب العرب)! نشر بجريدة الصحافة في يوم الثلاثاء 25/10/1967م.
وبرغم عبارة مقال صلاح المسرفة في التعبير عن انتماء السودان للعروبة: (نحن عرب العرب) إلا أن صلاحاً قد أكد في المقال في أكثر من موضع، عن قصد أو غير قصد، على مجمل الأفكار الواردة في مقال النور وعلى رؤية الغابة والصحراء الأفروعربية للذات القومية السودانية وعلى واقع التمازج والاختلاط الإثني والثقافي.
وليس أدل على ذلك مما جاء بآخر سطر ختم به مقاله مخاطباً النور أبكر: "لا يا نور نحن عرب العرب، جمعنا خير ما في العرب من نبل وكرم، وخير ما في الزنج من شدة وحمية".
بل أن صلاحاً يمضي أكثر من ذلك للمنافحة عن حقيقة التمازج الإثني والثقافي في السودان وذلك بنفيه واقعة النقاء العرقي في عرب اليوم بقوله: "ثم أين هم العرب الخُلَّص؟. ما من شعب عربي في قطر عربي إلا وامتزج بدماء الأعاجم".
ويتخذ هذه النتيجة مدخلاً للحديث عن اختلاط الدم العربي بالدم الأفريقي في السودانيين حيث يقول مفسراً: "ولكن كان نصيبنا أن يظهر من اختلط بهم أجدادنا في اللون والقسمات. نسبة الاختلاط واحدة تكثر أو تقل، ولكنها لا تقلل من عروبة السودان المهم أنه قليلاً ما تقابل عربياً قحاً أو خالصاً في معظم البلدان العربية".
ثم يضرب مثالاً على تسامح العرب وقبولهم للهجنة العرقية بالقول: "ولعل أروع ما يقدمه العرب أن رمز شجاعتهم هو عنترة بن شداد".
وهنا يحق للقارىء أن يتساءل: إذا كان ذلك كذلك، فما سر الهجوم القاسي الذي شنه صلاح على النور حيث جاء: "في مقال النور شعوبية..، أعداء العرب يحاولون طعن العرب في كعب أخيلهم، يثيرونها بطريقة النور هذه من المحيط إلى الخليج.. إن وضع العروبة مقابل للأفريقية هو مفهوم خبيث..، في تونس خائن العروبة بورقيبة يأخذ زمام المبادرة مع سنغور في الدعوة لمجموعة البلدان المتكلمة بالفرنسية". انتهى.
وهنا تتضح أن دوافع صلاح في الهجوم على النور، دوافع سياسية وليست فكرية ولا علاقة لها باختلاف الرؤى حول قضايا الهوية السودانية. الحقيقة قد كشف صلاح عن دوافعه السياسية منذ بداية رده حين وصف مقال النور بالقول:
"وفي رأيّ أن المقال غير موفق من حيث توقيته على الأقل. فجنودنا الذين في خط النار قد اختاروا مصيرهم هناك في مواجهة المعتدين الصهاينة.. المصريون على شمالهم والجزائريون على يمينهم وقلوب العرب كل العرب، ترف عليهم لا تفكر أصابعهم القابضة على الرشاش ما إذا كانت أصابع عربية أو زنجية أو بين بين، فالسؤال مطروح على صعيد عنصري لا معنى له.". ثم يخلص إلى القول:
"فنحن في حالة حرب ضروس لا تحتمل بث الوهن في المؤخرة وبين الصفوف، واضعاف الروح المعنوية". انتهى.
تمر السنوات ويتخذ شاعرنا صلاح أحمد إبراهيم باريس ملجأً له. هناك سئل في حوار أجرته معه جريدة (الشرق الأوسط) اللندنية: من أنت؟ أجاب: أنا الهجين عنترة!
في باريس يسأله المفكر الراحل الدكتور عبد الله بولا عن سبب اطلاقه لتلك المقولة المسرفة من وجهة نظر بولا: "نحن عرب العرب"، فيرد صلاح: ذلك كان نتيجة موقف عاطفي مع العرب إثر الشماتة عليهم عقب هزيمة حرب 1967. (انظر: عبد الله بولا، شجرة نسب الغول).
وهذا يؤكد حديث محمد المكي في مذكراته حول (التاريخ الشخصي للغابة والصحراء) من أن الرد العنيف الذي سطره صلاح في ذلك المقال لا يمثل موقف صلاح الحقيقي من قضايا الهوية وحركة (الغابة والصحراء) فهو كما يقول قد سبقهم زمنياً إلى هذا الطرح وكان رائداً لهم وقد أخذوا عنه، هو والمجذوب، الطابع السوداني للشعر واستلهموا الكثير من ديوان صلاح (غابة الأبنوس) الذي صدر سنة 1959.
والأبنوس هو "البابنوس" في كلامنا الشجر المعروف في السودان ويمتاز بسواد ولمعان عوده وصلابته. و(غابة الأبنوس) السودان. يقول صلاح بقصيدة (مَريّه):
أنا من أفريقيا: صحرائها الكبرى وخط الاستواءْ
شحنتني بالحرارات الشموسْ
وشوتني كالقرابين على نار المجوسْ
لفحتني فأنا منها كعود الأبنوسْ.
abusara21@gmail.com