قرب شجرة “السرو” وبرفقة ” بابكر مخير ”
عبد الله الشقليني
11 May, 2013
11 May, 2013
abdallashiglini@hotmail.com
في الحفاوة بالدكتورة "إشراقة مصطفى حامد "
(1)
يوم الخامس والعشرين من سبتمبر 2011 لا يشبه ما قبله ولا الذي يأتي بعده . كنتُ قبل ذلك مُكتئباً ، تتقاطر على رأسي الأحزان . ورن الهاتف وكان الصديق " بابكر " على الطرف الرفيق من المكالمة. شكوت له حُزني ، فقال أنت رفيقي اليوم وأعِدُك أن نفكَ أسرك ، فقد جاءت إلينا شجرة " السرو " . ركِبتْ كل الدروب المُمكنة لتصل .
نصف الساعة وكنا مع بعضنا . ما أطيب الأجانب الذي يتحدرون من أصول سودانية ! . صوتهم خفيض ، ويتحدثون على سجيتهم ، ويجبرونك أن ترتفع إلى مقامهم فتستريح .
(2)
في حضور "شجرة السرو " وهي قادمة من شتاءاتها إلينا ذات المساء . جلسنا إليها . كنت برفقة صديق صنوبري الجزع ، هو "بابكر إبراهيم قاسم مُخير ". بالفعل ،لن ينمو "السرو "إلا في شتاء المناخات المعتدلة ، أو الباردة ، وليس له في الحر كثير عافية ، وقد يموت .
قالت الشجرة الوارفة :
- إني أتهيب الرطوبة .
قلنا لها سنختار مكاناً يصلُح للألفة ، ويمَكِّن صديقنا من أن يتنفس " شيشة " تعادل من أربعين إلى خمسين لفافة تبغ .وقال لي " بابكر " إنه لا يبالي ولا يتخذ المكابح فالعُمر واحد .
في صحبته التقينا من جديد وبيننا أشهُر من قبل ولم نلتقِ ، وكانت "شجرة السرو" قاسمنا المشترك.قيل إن المحبين يلتقون ولو من بعد حين ، والمحبة هي التي بيننا وبين كل الكائنات من حولنا ، إن كان لنا حظٌ في الفأل ، ولا تمتحننا الأمثال التي تقول :
( البعيد من العين ..بعيد من القلب )
(3)
في أزقة أبوظبي التي هصرها الطريق الجديد قبل أن نلتقي ، أقلني " بابكر " بسيارته ،التففنا على كل الدروب . وكان هو يعرف دروب ثعابين الطريق الماكرة ، بينما فقدتُ أنا البوصلة .
لن نسرد أول المكان الذي وصلنا إليه ، ولا النماذج البشرية النبيلة التي تقاسمنا ضيافتها عند " النادي السياحي " . فأعذب نادلٌ هو الذي يسقيكَ بيديه ، ومحبته ترشفها واحدة تلو أخرى .
(4)
هذا زمن حزين إن كنت تشاهد التلفاز على رأس كل ساعة ، ولكن رَبكَ قد يهبك الطريق القصير إلى الفرح وهو القادر على كل الصنائع في فترة وجيزة .
فتحنا بوابة الحديث الشجي ، فشجرة "السرو" أكبر من وطن سرقته المهاجر ، إلا أن للشجرة قرار أكبر من أن تتقطّع بها السُبل . فكانت زمردةً ، تحفُ بها النيران من كل صوب . وقالت لها من قبل صديقتها التي رحلت منذ زمان :
(أمامكِ كل الجبال استحالت رماداً ، ولكنكِ من تحت الرماد تنهضين ، يهُبُ جَمْرَكِ أكبر من الأسى . فكانت تراوِح مكانها ، تعرف كيف تُحيل أيقونة (التصالُح مع النفس ) إلى فعل ينطق ويتكلم ويعيش بين أهلنا وبين الذين تقطعت بهم السُبل( .
أفسحنا لشجرة " السرو " أن تقول كل ما لديها ، فعيد ميلادها السادس عشر من سبتمبر منعطف إلى العُمر الجميل . ويومٌ لتقول المُحتفى بها كل المُستطاع قوله .
قالت :
- إنني قد تركت بعض سُلالتي في فصل الربيع أو الخريف البارد ، ولا أحد يعرف أني اختبأتُ من كل العواصف ، كي أكون مزهوة برحلة من الرحلات النادرة ، قادمة أنا من بلاد الصقيع إلى الأرض الدافئة قرب الخليج .
قُلنا لها : لنْ نُخبر أحد .
(5)
شرِبتُ أنا " سحلب " ، وشرب صديقي " بابكر " قهوة مُرّة "، وشربت هي ليموناً أخضر بشبابه ، فرِحٌ بمجلسها بيننا ... والماء الزلال كان قاسمنا المشترك . ومن حولنا ،كأن "مصطفى سيد أحمد" يغني : ( شوية .. شوية .. وسكتْ المركب.كل الناس إتنين .. إتنين.فرح إتكلم بى لغتين )، إلا نحنُ ( ثلاثة ) دون الذين من حولنا !.
تقول الكُتب المقدسة عندنا إن الرب أصيل في الذاكرة وأصيل في الهوى وأصيل قبل كل ذلك في الخَلق ، فشجرة " السرو " تعتقد في وجود الرب وتؤمن بأنه صاحب القواسم المشتركة، ويده الطولى تتحكم في المصائر .
إذن لم تعبث برفيقتنا مزالق الهوى الديني .
قال " بابكر " :
- كل الأديان تُمجد الرب ، وتهبه محبتها . أهو المُحب الذي يرغب أن يتغني له كل العشاق ... ، أيصلح الحب والجبروت أن يجتمعا ؟! .
(6)
أخرَجتْ " شجرة السرو"نسختين من ديوانها الجديد ) أنثى المزامير )، وهي واحدة من الإناث التي اختارتها لعجين الشِعر ، فهيّ طاهية ماهرة . تعرف كيف تخلط التوابل في مرق الخضار . بريق الليل أخفى عنا الشوق لنقرأ ، والإضاءة الخافتة تُغري بالرومانسية الجديدة.فالقبض على اللحظة الهاربة هي التي سرقتنا من محبة القراءة .بسلطان الحديث .
أمسكتْ " شجرة السرو" بالقلم تسطر الإهداء :
(الأخ الأديب.. ، هذه مزاميري أحملها أينما حللت . وقد حللت الآن بينكم ،لننشد الحياة رغم مواجعها .)
قلتُ لنفسي :
- الكتبُ أصدق إنباءً من السيوف القاتلة .
(7)
فتحت صفحة من أشعار (أنثى المزامير ) وقرأت :
صَمتُكَ
حَدَّثتُكَ يا جِبريلي
إنَّ المقامَ الآن مقامُ حُزنٍ طروبْ
وإنَّكَ تزخ في قاع روحي
لغراب الكِتابة النَبيَّة
ليَبينَ هِلالُ حرفِكَ فأرتوي
أتوضَّأُ منْ ضيَّ صمتِكَ
علني أفيقُ يوماً على فردوسِ لا يَغيبْ
لا تسألني عن أيِّ ريحٍ ساقتني إليكَ
...
(8)
انتبهتُ إلى فخامة النص وجُرأته على ما اعتدنا . فأمامك سيدة تمتلك بهرج القول الشعري ، وقوة التعبير والشخصية . وامتلاكها دُنياها وهي مُسيَّجة بهالة أكبر من الظنون والاحتمالات سابقة التجهيز. للمرأة في شخصها أنموذج أقوى من الذين يمسكون بالفؤوس ليتباروا ، تكسرهم هي، فقد تعمَّدت من قبل بنيران المهاجر . غزلت من خيوط الحزن " بُردةً" جديدة وتلفحت بها من عواصف الذين تنفتح دنياهم باللهيب عندما يرونها ، ينشدون الغزو عند كل سانحة ، ما أخسرهم للإنسانية ، لم يهاجروا محطة الإنسان الأول بعد !.
(9)
منْ يغرق عطشاً في نهر النيل العظيم وهو سابح في مائه ؟
ومنْ يسرق الكُحل من العين ،وهو ينظر ؟
قد تأتي الجنان الموعودة محض صدفة ، وتُمكِننا من نفسِها ، ونطلّ من كوة مفتوحة على الأفق ،ونرى الظباء ترعى جوار القطط الكبار دون خوف . لم نر في ليلنا ذاك سوى " هُريرة " صغيرة على باب البناية ، وتحدثنا عنها دون أن تدري . فالنفوس تعشق الأطفال ، والأطفال يعشقون الحيوانات الأليفة . كلهم يشبهون بعضهم .
في هذه المدينة العربية الغامضة المُضيئة بالزحام ، تكونت جمعية تُعنى بالقطط من أبناء وبنات الشوارع . يطعمونها برفق ، فيطل في ذواكرنا أن كثيرين من فقراء أريافنا وأشباه المدن يكادوا لا يستطعمون .كل أيامهم سواء ، حتى يأتيهم هازم اللذات ، فنتراجع عن المقارنة .
(10)
قالت "شجرة السرو" :
- إن القراءة وجه من وجوه الكتابة ، وحياتي هي أن أكتُب . وأن أحيل الحلمُ إلى حقيقة ولو كانت سكين القسوة أمضى ، لن أستسلِم أبداً.
قلت لها :
- هكذا حدثتنا من قبل الروائية " ليلى أبو العلا ":
"الكتابة امتداد طبيعي للقراءة "
(11)
نجهل نحن كيف يقترب المثقفون والمثقفات أعشاش الفقراء ، في الوقت الذي تصفهم الأسفار المؤدلجة بصفوة الفشل ، فنظراتهم الملونة بالرغائب أكثر إفصاحاً . تمس القلب من شغافه .إن في الحياة شراك أكبر من الطموح الشخصي .والذين يدخلون أحلام الفقراء يحسون بأنهم لو انتبه الزمان برهة، لكانت لهم بصمة في الحياة مثل كل المبدعين في أرجاء الكون .هكذا حال الدكتورة " إشراقة " في عنايتها بقضايا المرأة وظلاماتها المرفوعة إلى الذين لا يحسون !.
(12)
في حضرة " شجرة السرو " ، جلسنا نستمع :
فتحت الدنيا لنا نافذة على الفِكر . فالشجرة تُفكر باللغة التي بها تتحدث وتكتُب . ثلاثة لغات يشتركن الصندوق الذي تحمله هي من فوق كتفيها . تتحدث وتترابط الفكرة ويتناسل الحديث بدفء الأغنيات ، وزورق ألحانها النشوان ، يُبحر بربان، خطف منا الزمان واعتقل المدينة في عباءة الليل ، وطواها في أصابع اليد . في زمن يمشي فيه الناس جميعاً على حدّ السكين . لا الجرح اندمل ، ولا السماء أمطرت ذهباً .
يقول الذين يهمهم أمر النفوس البشرية ، أين تقلق وأين تستريح ؟! .
غشتنا غمامات في دنيانا لا تعرف الرحمة ، وانقشعت حيناً من الزمان في الوقت والساعة التي جاءت بالصديق " بابكر " ومدّ لي حبل نجاتي ، وجئت كي أشهد من يقود سيمفونية لا أبجدية تشابهها .
كُنا كالأصابع ، و" شجرة السرو " كالإبهام في راحة اليد ، تسرد قصصاً مصنوعة من مزهرية الحياة ، فمن الفخار ينشأ بيتٌ لربيع الأزاهير الجميلة يكسوها الندى وروائحها الطيبة تتحدث بالفتنة .
إني في مقام الدرويش في حضرة هذا السجاد الذي تفرشه لنا سِماطاً لنقرأ . ليتني كنتُ بقدر المقام الذي خصني به المجلس. لا شيء يا صديقي يعدل صدق المشاعر ، فهي من رافعات الأقلام كما هي من رافعات فرح النفوس . سلطان الكاتبة أو الكاتب جبار على الأنامل . نكتبُ نحنُ ما لم تستطع أن تقوله الشفاه .
(13)
تحت مظلة الليل انعقد مجلسنا . المقاعد من حولنا تهمس للجالسين من حولنا ، فلا تكاد تسمع حديث الجُلساء والجالسات .
قالت " شجرة السرو " :
- رسمت لبابكر ذات الصورة التي رأيتها أول مرة ، ولكنك أنتَ غير ما رسمت من صورة في ذهني لشخصك . فأنت لم تكُن في المُخيِّلة . أنت أكثر سُمرة مما كنتُ أحسب .
(14)
تُرى من هي " شجرة السرو " ؟
أهي السّرو الأريزوني ، الأطلسي ، البيكري ، السارجنتي ، الستيفنسوني، الشنغي ، الصحراوي ، العملاق ، الغويني ، الفوربيسي ، الكشميري ، .. أم هي الدكتورة الإنسانة والشاعرة التي تحمل على كتفها قلائد منظمات العمل العام التي تُعنى بالمظلومات ؟!
(15)
تقول بطاقتها الشخصية :
الدكتورة (إشراقة مصطفى حامد) .من مواليد مدينة كوستي .أم لواصل أيوب مصطفى ومرافئ أيوب مصطفى .درست الصحافة والإعلام في جامعة أم درمان الإسلامية ، وتعذبت من الأصفاد التي تتحلى بها المؤسسة الدينية ومستوطنيها السلفيين والسلفيات. ثم أفلتت من الأسر وهاجرت والتحقت بجامعة فيينا حيث نالت درجة الماجستير في الإعلام من كلية الإعلام ونالت درجة الدكتوراه في العلوم السياسية بجامعة فيينا . ولمدة خمس سنوات عملت كمحاضرة غير متفرغة وباحثة بجامعة الاقتصاد ، قسم الدراسات النسوية . تعمل حالياً مستشارة في مركز التدخل لرعاية النساء من ضحايا الاتجار البشري في منظمة IBF LEFO – ومقرها فيينا . نشرت أول أعمالها باللغة العربية في صحف سودانية مثل الأضواء ، الأخبار ، والمنابر والمدونات السودانية المختلفة . شاركت بالنشر في أنطولوجيات مختلفة باللغة الألمانية . أول مجموعة شعرية صدرت لها بالألمانية بعنوان " ومع ذلك أغني " ، من دار ميلينا النسائية للنشر عام 2001 . والذي تميزت فيه ضمن خمسة عشر من الكتاب والكاتبات ، تمّ تحفيزهم جميعاً من مجلس الوزراء النمساوي ،قسم الآداب والفنون في ذات العام .حصدت الدكتورة "إشراقة" العديد من الجوائز والحوافز نتيجة نشاطاتها و مشاركاتها المختلفة في المجتمع النمساوي . وهي عضو اتحاد الكتاب النمساويين . حضرت للإمارات مشاركة في مؤتمر .
*
ألف تحية وسلام لسيدة من القطع النبيل ، والخاتم السوداني الملامح ، يرقد على الوجه والمسلك مصباحاً . وألف تحية لطيب الذكر صديقنا الصدوق " بابكر مُخيَّر" الذي جعل كل هذا ممكناً .
عبد الله الشقليني
26/9/2011