قصة الخرطوم (1) .. ترجمة وتلخيص : بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 




قصة الخرطومThe Story of Khartoum (1)

سي أي جي وويكلي C. A. J. Walkely

ترجمة وتلخيص : بدر الدين حامد الهاشمي

badreldin ali [alibadreldin@hotmail.com]

تقديم: هذه ترجمة مختصرة لشذرات قليلة من مقال نشر في العدد الثامن عشر من مجلة "السودان في مذكرات ومدونات" في عام 1935م، للكاتب سي أي جي وويكلي عن تاريخ الخرطوم.  يتكون المقال من 21 صفحة (ولعله الجزء الأول من ما كتبه السيد وويكلي، إذ أنه ينتهي بكلمة "يتبع"). حاولت تلخيص ما رأيته مهما في المقال، والذي ورد في ختامه رسم بديع متقن لميدان المديرية بالخرطوم (ربما في العهد التركي)، لا أدري إن كان الرسم للمؤلف نفسه أم لغيره. أورد المؤلف كذلك في مقاله كثيرا من المراجع التاريخية مما لا يتسع المجال لذكره هنا. الجدير بالذكر إن الشبكة العنكبوتية تذخر بكثير من المعلومات المبسطة (والمغلوطة في بعض الأحايين) عن إنشاء مدينة الخرطوم،  فبعضهم يذكر أن المدينة أنشئت على يد الحكمدار عثمان جركس باشا البرنجي، بينما يقول آخر إنها أنشئت عام 1821م. ويقول موقع الجزيرة إن  الخرطوم "...كانت في البداية غابات وأحراشا قبل أن يؤسس بها والي مصر محمد على باشا بعد تغلبه على سلطة سنار في 1821م مدينة عرفت باسم الخرطوم، وأصبحت في العهد التركي المصري عاصمة للسودان بدلا عن واد مدني..."! هنالك رسالة لدرجة الدكتوراه من جامعة القاهرة عام 1963م عن "تاريخ مدينة الخرطوم تحت الحكم المصري 1820 – 1885م" للدكتور أحمد سيد أحمد، نشرها فيما بعد د/ عبد العظيم رمضان في كتاب صدر في سلسلة بعنوان "سلسلة تاريخ المصريين" بعد أن ذكر أنه وجد الرسالة الجامعية معروضة للبيع في سوق للكتب المستعملة في سوق الأزبكية! وللدكتور الراحل محمد أبو سليم كتاب بعنوان "تاريخ الخرطوم"، ولدكتور جعفر ميرغني محاضرات مسجلة عن تاريخ الخرطوم وعلاقته بتوتي والمحس، تجدها مبثوثة في عدد من المواقع الإسفيرية.     المترجم
------------------------
لا يعرف الكثير اليوم عن تاريخ ما يسمى الآن بمدينة الخرطوم، ولكن الرغبة في احتلال الأراضي، والتوسع التجاري، واستكشاف منابع النيل كان لها تأثير بالغ في الحركة المبكرة نحو جنوب السودان والتجارة معه. تقف صور بقايا مقابر "طيبة" على ذلك شهيد. ترى في مقبرة من تلك المقابر لحاكم السودان (من سلالة هيو الحاكمة Hiu XVIII) صورا للأعراق الجنوبية التي حكمها، وزعماء قبائل مع تابعيهم يحملون قواربا مع قوم من زنوج يجلسون عليها، وقطيع من الأبقار، وملكة على عربة تجرها ثيران تشبه الثيران الحبشية، وفوق رأسها مظلة (شمسية) ملكية. لعل أول أثر مكتوب عن زيارة لمنطقة قريبة من الخرطوم هو ما نقشه "يونا Una" حاكم صعيد مصر عام 3200 قبل الميلاد (ق م) عند غزوه للسودان ومروره جنوب مدينة الخرطوم الحالية.
حكمت مصر على مر العصور بإمبراطوريات الفرس والإغريق والرومان، وحاول كل هؤلاء، دون كبير نجاح، سبر غور المسار الغامض للنيل ومنابعه. لم يسجل التاريخ  أكثر تلك المحاولات. بيد أن المؤرخين  سجلوا محاولات الإمبراطور الفارسي قمبيز لتتبع مسار النيل في الرمال الحارقة في أرض إثيوبيا (النوبة). تقف "مروي" بأهراماتها وآثارها، والتي سميت بهذا الاسم على أخت قمبيز، ولا تبعد كثيرا عن شندي، كدليل آخر على المحاولات الاستكشافية ذلك الإمبراطور الفارسي. سجل هيرودوت أن الجنود المصرين الذين هجروا جيش فرعون مصر ياسمتيك اتجهوا جنوبا نحو أثيوبيا واستقروا في المنطقة الواقعة جنوب مروي، في المنطقة الواقعة بين النيلين الأبيض والأزرق. نجح الجغرافي وأمين مكتبة الإسكندرية الإغريقي اراتوسثينس Eratossthenes في جمع معلومات مكنته في حوالي عام 50 قبل الميلاد من أن يرسم، وبدقة معقولة، خريطة للنيل حتى الخرطوم. كتب الفيلسوف والجغرافي بلايني الأكبر (23 – 79 ق م) في حوالي عام 50 ق م أن المستكشفين الإغريق درسوا النيل، وأن بعض رحالة إغريقي اسمه سايموندس عاش في مروي لمدة خمسة أعوام كاملة، بينما توغل آخر (اسمه داليون) عبر النيل لمناطق بعيدة جنوب الخرطوم.
لما عزم نيرو (الذي حكم الإمبراطورية الرومانية بين عامي 54 و 68م، واشتهر بمحاولة حرق عاصمته روما ليفسح – كما زعم- مكانا لبناء مجمع ضخم له. المترجم) على غزو السودان، أرسل أولا للبلاد 200 من الجنود في رحلة استكشافية في عام 66م. رحب بهؤلاء حكام النوبة الودودين، وكان أحدهم يحكم المنطقة في ما بين أتبرة والنيل الأزرق، بل وفروا لهم المراكب ليصلوا بها إلى النيل الأبيض. جمع هؤلاء الجنود معلومات غزيرة عن ما شاهدوه في المناطق التي زاروها في السودان، ولم يرجعوا لوطنهم إلا بعد أن وقفت في طريقهم المستنقعات.
لا يعرف الكثير عن تاريخ الخرطوم غير ما ذكرنا، إلا في بداية القرن السابع عشر الميلادي. كتب المؤرخ الأرميني أبو صالح أنه كانت هنالك مدينة قرب الخرطوم الحالية هي سوبا وكانت عاصمة مملكة علوة المسيحية. تبعد سوبا نحو 13 ميلا عن الخرطوم، وتقع على الضفة اليمنى للنيل الأزرق. كانت تلك مملكة واسعة فيها نحو 400 كنيسة، أكبرها في سوبا وتسمى كنيسة "منبالي"، وكانت كل كنيسة تقف في وسط قلعة، كما هو الحال في شمال النوبة.
يوجد من الدلائل ما يشير إلى وجود مدينة قديمة على الضفة الشمالية من النيل الأزرق بجوار مدينة الخرطوم الحالية. وفي تاريخ قريب (1929م) اكتشفت السلطات إن سكان بري كانوا يحفرون في منطقة تقع غرب منطقتهم (وجنوب محطة الكهرباء) للحصول على طوب محروق من حوائط مدفونة. وفي ذات المنطقة تم العثور على بقايا عظام بشرية. دللت تلك الاكتشافات على وجود مدينة صغيرة في تلك المنطقة. عزز ذلك الاعتقاد العثور على بقايا أدوات فخارية مدفونة على عمق لا يتجاوز مترا ونصف من سطح الأرض الحالي، ولعله من بقايا مدينة قامت في تلك المنطقة في القرن السابع قبل الميلاد.
وجدت كذلك بقايا أثرية من عظام وفخار محطم في منطقة شجرة غردون (شجرة محو بك) يعتقد أن تاريخها يرجع إلى عام 400 – 500 م. وجدت كذلك بقايا آثار مسيحية في منطقة ود الحداد على النيل الأزرق، وفي القطينة على النيل الأبيض وفي أماكن آخر.
قام عبد الله أحمد بن سليم (من  مواطني أسوان) وكان أحد ثلاثة سفراء أرسلوا لعظيم النوبة، بوصف سوبا في عام 969 م، وأثنى على جودة الإبل والخيول والحوم والبيرة فيها! وصفت سوبا بأنها كانت مدينة ذات مباني كبيرة، وبيوت جميلة، وكنائس تحوي كثيرا من الكنوز الذهبية، وحولها الحدائق. كان ملكها يلبس تاجا من الذهب (وهو معدن متوفر بكثرة في مملكته)، وكان أكثر قوة ونفوذا من الملك المسيحي في "شمال الوادي"، حيث كانت الأرض أقل مساحة وخصوبة رغم أن إنتاجها كان أوفر. كانت الكنيسة في سوبا تتبع الكنيسة اليعقوبية في مصر، ويخضع أساقفتها لبطريرك مصر. كانت كتب كنيسة سوبا مكتوبة بالإغريقية، لكنها ترجمت للغتهم المحلية. وجد عبد الله أحمد بن سليم في بلاط ملك سوبا رجالا كثيرين من دول مختلفة كان بعضهم مسيحيا، والآخر محمدي (مسلم) الديانة، بينما كان للبقية معتقدات أخرى مثل عبادة الشمس أو القمر أو النجوم أو النار، وبعضهم أتخذ شجرة أو حتى حيوان كرب له.
زاد ازدهار مملكة سوبا المسيحية خاصة في القرن الحادي عشر الميلادي، ولم تتأثر كثيرا بجحافل الجيوش القادمة من الشرق لغزو أفريقيا، ولا بقيام وانتشار القوى المحمدية (المسلمة)، والتي أشعلت ثورة  كاملة في كثير من الجوانب السياسية والأخلاقية بالقارة. بقيت مملكة سوبا مسيحية حتى القرن الثاني عشر الميلادي، ولذا ظلت في حالة عداء دائم مع القادمين من الشرق، رغم أن دواعي التجارة المتبادلة فرضت نوعا من الهدنة، وذلك لفترة من الزمن.
ظلت المعلومات حول المنطقة بين ملتقى النيلين يلفها الغموض. كتب المؤرخ والجغرافي العربي الإدريسي (والذي عاش في منتصف القرن الثاني عشر) أن هذه المنطقة هي التي تفصل بين النيلين، نيل مصر (والذي يجري من الجنوب إلى الشمال)، والآخر، والذي كان يعتقد أنه ينبع من الشرق ويجري غربا، وتقوم حوله عدد من ممالك الزنوج العظيمة.
كان لشيوع تجارة الرقيق الأثر الأكبر في إضعاف قوة الممالك المسيحية في السودان، مما جعلها "لقمة سائغة" للإسلام. في عام 1275م سقطت دولة النوبة الشمالية في يد المسلمين، الأمر الذي قطع صلة مملكة سوبا بالكنيسة الأم في مصر. منذ ذلك التاريخ أصبح سقوط مملكة سوبا مسألة وقت لا أكثر. أدى تجميع الرقيق كجزية إلى فوضى عارمة وحروب متصلة بين الممالك السودانية الصغيرة. في عام 1286م اشتكى آدور Ador ملك مملكة السودان الجنوبي لسلطان مصر من تابعيه من حكام النوبة السودانيين، ولكن النزاعات والحروب القبلية استمرت، وفي المائة عام التي تلت ذلك تحولت الأمور من سيء إلى أسوأ، وذلك بسبب تدخلات سلطان مصر، والذي كان يزكي نار الصراعات الداخلية بين الممالك السودانية، ويشجع تجارة الرقيق. ما أن حل عام 1550م حتى تم القضاء الكامل على كل الممالك المسيحية في السودان، رغم استمرار وجود تجمعات مسيحية متفرقة في أرجاء البلاد لفترات متفاوتة من الزمن. وفي الثلاثة قرون التي تلت ذلك التاريخ لم تقم حكومة مستقرة في المنطقة بين وادي حلف وشمال غرب الحبشة، وظلت البلاد غارقة في حالة بائسة من الفوضى والسرقة والنهب.
لم يبق من آثار مملكة سوبا وكنيستها الجميلة سوى تمثال الحمل الحجري وعمودين وضعا الآن في الكاتدرائية الأنجليكانية. كان ذلك الحمل الحجري قد اكتشف بواسطة الرحالة الألماني ديوميشن في عام 1863م، وقد احضره غردون للخرطوم (ورد ذلك في كتاب من تأليف جون وارد، وصدر في عام 1905م، اسمه "سوداننا: أهراماته وتطوره" . لاحظ "سوداننا" هذه! المترجم.)
نقلت من بقايا مملكة سوبا أطنان من الطوب المحروق لتستخدم في بناء مدينة الخرطوم الحالية وذلك في بداية القرن الثامن عشر الميلادي. أستمر ذلك قبل وصول غردون بأربعين سنة أو تزيد، واستمر ذلك حتى بعد فترة عمله الثانية في البلاد بين عامي 1874 – 1876م.
عند سقوط مملكة سوبا على يد الفونج لم تعد المسيحية هي دين البلاد الرسمي. قبل عام 1500م لم يكن في السودان قبة أو فكي، كما هو متوقع إن كان العرب قد وصلوا للبلاد قبل ذلك التاريخ.
نقلا عن "الأحداث"

 

آراء