قضايا قانونية مترجمة: أبو رنّات وراعي الأبقار الذي قتل سائق القطار .. قضية حكومة السودان .. ضد بليلة بلة بليلة وآخرون

 


 

 

قضية حكومة السودان*
ضد
بليلة بلة بليلة وآخرون

خلاصة أسباب الحكم:
(1) يقاس "الاستفزاز الشديد والمفاجيء" بمقياس الإنسان العادي السوي مع الأخذ في الاعتبار حياة المتهم الطبيعية وحالته العقلية والمعايير السائدة في البيئة التي يعيش فيها.
(2) الوقائع الثابتة بالقضية تكفي لتشكل استفزازا شديداً ومفاجئاً يخفض جريمة القتل من قتل عمد إلى قتل شبه عمد بموجب نص المادة 249 (1) من قانون العقوبات السوداني لسنة 1925.

ملخص وقائع القضية:
في الساعة الثالثة والنصف ظهراً من يوم 3 مارس 1957 كان قطار سكك حديد السودان رقم 94 منطلقا في طريقه من كوستي إلى ربك وعند المنطعف بالكيلو 376 كان هناك بعض الأعراب يسوقون قطعانهم من الأبقار لعبور خط السكة الحديد من اتجاه الشرق إلى الغرب وبغتة فاجاءهم القطار خارجاً من المنعطف فدهس الأبقار مخترقة لها فتسبب في قتل أعداد منها وتقطيع أوصال بعضها، قبل أن يتوقف أخيراً. وعلى الفور هب ستة أو سبعة أفراد من الأعراب مهرولين ناحية سائق القطار المجني عليه وهجموا عليه وطعنوه بحربة مما أدى إلى وفاته في الحال.
عُقدت محكمة كبرى بكوستي برئاسة قاضي المديرية محمد يوسف مضوي لمحاكمة المتهمين فأدانت المحكمة المتهم الأول بالقتل العمد وبرأت البقية.
في مناقشتها لدفاع الاستفزاز الشديد المفاجيء طرحت المحكمة السؤال التالي: "هل تسبب المتهم الأول في موت المجنى عليه أثناء فقدانه السيطرة على نفسه نتيجة استفزاز شديد ومفاجيء؟
أجابت المحكمة على السؤال بالنفي.
وقبل الوصول إلى هذه الإجابة كانت المحكمة قد طرحت على نفسها ثلاثة أسئلة عامة تُطرح عادة في مناقشة دفاع الاستفزاز الشديد المفاجيء وهي:
(ا) ما هي الأفعال التي يُزعم أنها سببت الاستفزاز؟
(ب) ما إذا كانت هذه الأفعال قابلة في ذاتها أن تثير استفزاز الإنسان العادي السوي؟
(ج) ما إذا كان المتهم فقد السيطرة على نفسه بالفعل بسب استفزاز شديد ومفاجيء ونتيجة لوقوعه تحت هذا التأثير ارتكب الجريمة؟
فيما يتعلق بالسؤال الأول فإن المحكمة رأت "أن المتهم الأول راعي أبقار مهمته رعاية قطيع من الأبقار دهست من قبل القطار وهذه الأبقار ليست ملكا له ولكنها تعود إلى أبيه وأخيه. ففي يوم الحادث وبينما كان المتهم الأول ومعه بعض الفتيان يساعدون الأبقار على عبور خط السكة حديد بالقرب من كوبري كوستي، فاجاءهم القطار رقم 94 فقتل وأصاب عددا من الأبقار والثيران ومن بينها الأبقار التي تحت رعاية المتهم الأول". هذه هي الوقائع الثابتة التي يُزعم بأنها تسببت في استفزاز المتهم الأول.
"والآن نأتي إلى مناقشة النقطة الثانية. نحن نرى أن هذه الوقائع غير قابلة في ذاتها إلى تسبيب الإستفزاز للإنسان العادي السوي reasonable man ويمكن القول بصفة عامة لكي يكون فعل المجني عليه مثيرا للإستفزاز يجب أن يوجه إلى شخص المتهم أو أن يكون موجها في حالات محدودة إلى الأشخاص الذين تربطهم صلة قرابة بالمتهم ولكن في كل الأحوال لا يجب أن تمدد الأفعال التي تثير الإستفزاز لتشمل تلك التي تقع على الممتلكات، وسيكون يوما حزينا إذا حدث ذلك. فقد يسمح للشخص في ظروف بعينها في الدفاع عن أمواله في تسبيب الموت دفاعا عن أمواله ولكن بعد وقوع الضرر على المال وانقضاء وقت الحق في الدفاع فلا نقر بأي حماية مطلقة أو مقيدة للذي يرتكب جريمة القتل".
"وأما إجابتنا على النقطة الثالثة والأخيرة فلن تغير من الأمر شيئاً ولكن لمصلحة السلطة الاستئنافية سوف نمضي في مناقشتها. نحن نرى أنه كان أمام المتهم الأول وقت كاف للتهدئة واستعادة امتلاك زمام نفسه عقب وقوع الحادث. فقد شوهد المتهم الأول وهو يجادل السائق ويحاججه بعد وقوع الحادث مباشرة. فقد أفاد شاهد الاتهام الثاني في اقواله: "جاء إلينا المتهم الأول والمتهم الثاني بينما كنا نقف أنا والسائق بالقرب من عربة الفرملة..، وناقشا معنا وقوع الحادث".
"وهذه الواقعة بالاضافة إلى بعض الوقائع الأخرى تدل على أن المتهم الأول برغم إثارته إلا أنه كان في البداية في وضع يسمح له بالمناقشة والمجادلة. وهذا في رأينا ليس موقف شخص واقع تحت تاثير استفزاز شديد ومفاجيء".
غير أن السلطة الاستئنافية (رئيس القضاء) قضى بأنه يوجد استفزاز شديد ومفاجيء ولذلك خفض الإدانة من القتل العمد إلى القتل شبه العمد.
(كانت الأوراق قد أحيلت إلى رئيس القضاء للتأييد بموجب نص المادة 251 من قانون الإجراءات الجنائية السوداني لسنة 1925)

الحكم

القاضي/ محمد أحمد أبو رنّات/ رئيس القضاء:
اتفق تماما مع المحكمة في ملخص أبرز وقائع القضية Salient Facts والمؤيدة بالبينّات الكافية. والمسألة الوحيدة المطروحة هي ما إذا كان المتهم الأول بليلة بلة بليلة قد فقد السيطرة على نفسه بسبب استفزاز شديد ومفاجيء grave and sudden provocation في وقت ارتكاب الجريمة.
الوقائع التي تشكل الاستفزاز في هذه القضية هي: أنه في وقت الحادث كان المتوفى المجنى عليه يقود القطار من كوستي في طريقه إلى محطة ربك وعند تجاوز القطار للكبري تسبب في قتل 80 راس من الأبقار بعضها كانت تحت رعاية المتهم الأول وتعود ملكيتها إلى أبيه وأخيه. المتهم الأول راعي في العشرين من العمر وغير متعلم وينظر إلى الأبقار بأنها تمثل ثروة أسرته. وفي ذات الوقت قد رأى المتهم وسمع أن قريباً له يدعى كيرشا قد أصيب أيضا في الحادث من قبل القطار. وكريشا هذا والذي هو طفل في العاشرة من العمر، لم يستدع من قبل المحكمة لسماع أقواله مع أن الاتهام لم ينازع في واقعة إصابته في الحادث. فهل هذه الوقائع لا تكفي لتشكل استفزازاً شديداً؟
أرى أنها تكفي لإستفزاز شخص في مكانة وعقلية المتهم. إن مصطلح الإنسان العادي السوي reasonable man الذي ترد الإشارة إليه في كتب الفقه القانوني textbooks هو الإنسان الطبيعي الذي يحيا حياة طبيعية في بيئة معينة وله ذات المعايير التي للآخرين الذين يعيشون معه في نفس البيئة والمكان.
وأرى أن وقائع هذه القضية تختلف distinguishable عن القضية الافتراضية التي طرحت كمثال من قبل رئيس المحكمة الموقر. وهي قوله:
"هب أن (ا) كان يقود سيارته الكاديلاك، والمتوفى سائق عربة لوري فاصطدمت عربة اللوري فجأة بالكاديلاك وحطمتها، فهل لنا في هذه الحالة أن نعطي (ا) حق الإفادة من دفاع الاستفزاز إذا فقد السيطرة على نفسه وقام بقتل المتوفى؟ قطعاً يجب ألا نعطيه هذا الحق. إن وضع المتهم الأول في هذه القضية لا يختلف كثيرا في نظرنا عن وضع مالك سيارة الكاديلاك". انتهى.
مع تقديرنا لرئيس المحكمة العالِم، المتهم في هذه القضية إعرابي غير متعلم ومعرفته بالعالم من حوله ضيئلة بينما صاحب السيارة الكاديلاك على أقل تقدير يعلم الكثير عن العالم من حوله. المعيار الصحيح هنا هو ما إذا كان الإعرابي العادي في نفس المستوي المعيشي للمتهم الأول سوف يستفز أم لا؟ ليس لدينا شك أنه سوف يستفز استفزازا شديداً.
النقطة الثانية هي ما إذا كان الاستفزاز مفاجئاًsudden provocation . ثبت بالبينة أن كل الرعاة الذين كانوا متواجدين لحظة الحادث قد استفزوا فطفقوا يبحثون عن سائق القطار الذي قتل وألحق الأذي بأبقارهم والذي غاب عن الأنظار واخفي نفسه في البداية في إحدى قمرات القطار، كما أصيب بقية عمال القطار بالخوف والفزع فهربوا أو أخفوا أنفسهم وعندما ظهر السائق اُنزِل من القطار من قبل الرعاة ملاك الأبقار وضرب ضرباً شديداً وطُعِن.
لذا لا أرى أنه كانت هناك فسحة من الوقت تسمح للمتهم أن يهدأ ويعود إلى رشده، على الأقل البينة المتوفرة في هذه النقطة ليست متماسكة ولا يعول عليها كثيرا فقد قمت بمقارنة أقوال الشهود الواردة بيومية التحري بالأقوال الواردة بمحضر المحاكمة ووجدت كثيراً من عدم التطابق وعدم الاتساق، وأنه لولا إقرار المتهم لحكم عليه بالبراءة أو أدين بجريمة أقل.
لكل ما اتقدم أعدل الإدانة من القتل العمد إلى الإدانة بالقتل شبه العمد.
العقوبة:
أغفلت المحكمة أن تعطي أسباباً للعقوبة برغم أن المتهم صبي في العشرين من العمر في يوم وقوع الجريمة. وحيث أن المحاكم ملزمة بتوقيع العقوبة الرداعة لحماية الموظفيين العموميين وهم يؤدون واجباتهم للمصلحة العامة، لذا فأوقع أقصى عقوبة ممسوح بها في جريمة القتل شبه العمد وهي السجن مدى الحياة تبدأ في 4 مارس 1957.
وفيما يتعلق ببقية المتهمين أويد قرار عدم الإدانة والبراءة.

*هامش:
نُشرت هذه القضية بمجلة الأحكام القضائية السودانية لسنة 1958 ص12 وقد نقلناها من الإنجليزية إلى العربية، فقد كانت المحاكم السودانية تصدر الأحكام القضائية باللغة الإنجليزية حتى سنة 1970. وقد بدأنا مشروعاً طموحاً لترجمة هذه المجلات القضائية إلى اللغة العربية. نسأل الله التوفيق.

abusara21@gmail.com
//////////////////////

 

 

آراء