قيود الذاكرة: تغير نمط الزواج عند الجعليين بين 1915 – 1981م .. عرض: بدر الدين حامد الهاشمي
Fetters of Memory: The Changing Pattern of Marriage among the Ja’aliyin, 1915 to 1981
Kristen Kjerland كريستين كجيردلاند
عرض: بدر الدين حامد الهاشمي
هذا عرض مختصر لرسالة ماجستير كانت كريستين كجيردلاند قد قدمتها لقسم التاريخ بجامعة بيرجن بالنرويج في عام 1982م، وهي ثمرة بحث ميداني أجرته الباحثة في منطقة شندي ورفاعة والعاصمة المثلثة، بعون من الأستاذة فوزية يوسف، والتي رافقتها في تنقلها في المنطقة ولعبت دور المترجمة في المقابلات التي أجرتها الباحثة. وتعمل كريستين كجيردلاند الآن أستاذة ومستشارة بجامعة بيرجن، ولها عدد من الكتب والمقالات المحكمة في التاريخ الأفريقي.
قسمت الأطروحة إلى قسمين. شمل القسم الأول (المعنون: مسح لعملية العصرنة modernization في السودان) ثلاثة فصول، جاء في أولها مقدمة عن جغرافية السودان بمناطقه الريفية وشبه الحضرية والحضرية، مع الإقرار بصعوبة التفريق بين هذه المناطق في غير البلدان الغربية المتقدمة، وبيانات بأعداد السكان في المدن الكبيرة مثل العاصمة المثلثة والتي بلغ عدد سكانها في عام 1964م أربعة أضعاف سكان بورتسودان، ثاني أكبر مدينة بالبلاد، وبلغ عدد سكانها في عام 1973م 784294 نسمة. واختارت الباحثة مدينتي رفاعة وشندي كمثالين لمناطق شبه حضرية (كان عدد سكانهما في ذلك العام 15681 و24161 نسمة، على التوالي).
وشمل القسم الأول للأطروحة أيضا ذكر الطبقات الاجتماعية بالبلاد، حيث أشارت الباحثة إلى أن السودان يعد واحدا من أفقر عشرة أقطار في العالم. وهو – كغيره من تلك البلدان النامية - قطر تقوده البيروقراطية التي تجند من النخبة التي يزيد دخلها عن متوسط دخول الآخرين. فقد جاء في وثيقة حكومية أن دخل العائلة المتوسط في عامي 1967 - 1968م بالمناطق الحضرية كان 410 ج، وبالمناطق شبه الحضرية 270ج، و148 ج بالمناطق الريفية. وهذا التفاوت (وعدم العدالة) أمر معهود في كل المجتمعات البشرية، وأسبابه قد تكون بيولوجية (مثل الجنس أو العمر أو العرق أو القرابة) أو دينية أو تعليمية أو مهنية.
وذكرت الباحثة أنها واجهت في البدء – باعتبارها أجنبية - صعوبة في معرفة الطبقة الاجتماعية للمصادر/ المشاركات في جمع الدراسة informants اللواتي كانت تتعامل معهن. ولكن مع مرور الوقت بدأت تلاحظ الفروقات في ملابسهن، وفي مواد البناء المستخدمة في منازلهن، ومستوى تعليم أطفالهن، ونوع الحلوى التي كن يقدمنها في أثناء المقابلة. فاللواتي يرتدين "توبا" مجلوبا من لندن (والذي يبلغ سعره 100 – 150 ج) لا بد أن يكن من طبقة اقتصادية عليا. وغالبا ما يكون للعائلة من تلك الطبقة (القليلة العدد في المجتمع) جهاز تلفزيون وسيارة.
استعانت الباحثة في دراستها الميدانية بستين من المشاركات في جمع الدراسة، منهن عشر غير مباشرات (سئلن أسئلة غير تلك الأسئلة المعيارية المعدة في الاستبيان)، وثلاث من هؤلاء العشر مشاركات في جمع الدراسة كن من فتيات غير متزوجات، وكانت معرفة آرائهن في أمور الحب والزواج في المستقبل مهمة للبحث. وكان موضوع البحث بالنسبة للمشاركات في جمع الدراسة من كبار السن أمرا مثيرا للإطراء والعجب من أن الباحثة قطعت كل تلك الأميال لتأتي وتسألهن عن زواجهن، وكن سعيدات بتقديم كل الحكايات المهمة التي كن يتذكرنها عن زواجهن. وبما أن الكثيرات بينهن لم يسبق لهن سماع أصواتهن من مسجل، فقد استهلكت الباحثة عددا كبيرا من حجارة البطارية لتسمعهن مرارا وتكرارا ما تفوهن به في المقابلات. وكن في بعض الحالات ينادين أزواجهن ليسمعوا قصصهن، ونتج عن ذلك تصحيح لبعض المعلومات التي أدلين بها.
وكانت الأسئلة المقدمة للمشاركات في جمع الدراسة (وأعمار أكبرهن بين الستين والثمانين) تتعلق بأمهاتهن، وبهن شخصيا، وببناتهن – إن كن قد تزوجن- وحصرت الدراسة في المعلومات المستقاة بين عامي 1915 و1980م. واعتمدت الباحثة في أمر موثوقية ما سمعته من النساء اللواتي شاركن في البحث على أن أمر الزواج وطقوسه من الأمور المهمة عند أولئك النساء، لذا كن يتذكرن كل تفاصيلها بدقة شديدة. ولكنها لم تغفل عن احتمال أن يكن يتظاهرن بتذكر تلك التفاصيل أو تضخيمها لسبب أو آخر.
لم تقع الباحثة على أي مصادر مكتوبة في موضوع بحثها فاعتمدت على مصادر ثانوية غير منشورة مثل التأريخ الشفاهي، وما هو مسجل في أدب الرحلات، والوثائق القانونية، والإحصاءات الرسمية وعقود الزواج والطلاق، وما نشر في مجلة "السودان في مذكرات ومدونات" بين 1918 – 1922م، وعامي 1945 – 1950م عن عادات سكان السودان النيلي.
وفي الفصل الثاني بالقسم الأول من الأطروحة تناولت الباحثة بعض المفاهيم النظرية لتفسير التغيرات الاقتصادية والاجتماعية في السودان الشمالي مثل احصائيات نمو عدد سكان السودان من 1.5 مليون في عام 1910م، و5 مليون في عام 1930م، و10 مليون في عام 1960م، و19 مليون في عام 1973م، وكذلك التغيرات الإدارية والاقتصادية التي حدثت بالبلاد في العهود المختلفة (المصري – التركي بين 1821و 1884م، والمهدية بين 1884 و1898م، والحكم الثنائي بين 1898 و1956م، ثم الاستقلال منذ 1956م). وتناولت أيضا عمليات التمدين urbanization والهجرات التي حدثت بالبلاد عبر السنوات إلى المدن وأسبابها، والتفتت في عجالة إلى تكوين الاتحاد النسائي السوداني ومن قمن بتأسيسه عام 1952م، ومطالبتهن بحق التعليم والأجر المتساوي للعمل المتساوي، وتكوين اتحاد نساء السودان في بداية السبعينيات، ونقلت ما قالته السيدة/ سعاد إبراهيم عيسى من أنهن اكتشفن أن نسبة الأمية في أوساط النساء في بعض ضواحي الخرطوم بلغت 100% مما يدل على عدم وجود أي أثر لاتحاد نساء السودان في تلك الضواحي.
وتطرقت الباحثة إلى التعليم الديني التقليدي (أي الخلوة)، وأشارت إلى أن الإناث لم يكن لهن فيه نصيب كبير. ومن الطريف إنها حاولت شرح معنى كلمة " حوار" الخلوة فذكرت أنه تشبيه له بحوار (أي صغير) الناقة، والذي يتبعها حيثما ولت (وهذا هو حال "الحوار" الذي يتبع / يطيع شيخه). ثم تناولت تاريخ التعليم الحديث الذي بدأ مع الحكم الثنائي، وكيف أن تعليم البنات تأخر عن تعليم البنين، وأعادت للأذهان قصة كفاح بابكر بدري وسبقه في تعليم البنات برفاعة. وضمنت الباحثة أطروحتها بعض الجداول المبينة لتطور التعليم وأعداد طلاب المدارس والجامعات في سنوات مختلفة، وجدولا مثيرا للانتباه عن نسبة الأمية فى عامي 1955م و1973م في مختلف المديريات، جاء فيه على سبيل المثال أن نسبة الأمية في الخرطوم كانت قد بلغت 67% و42% في الفترتين، على التوالي، بينما بلغت في ذات الفترتين ببحر الغزال 98% و96%، على التوالي. وخلصت الباحثة من الجداول التي أتت بها عن التعليم في مناطق دراستها إلى تخلف تعليم البنات عن تعليم البنين. وأشارت الباحثة في نهاية القسم الأولى من أطروحتها إلى وثاقة الصلة والعلاقة (relevance) بين العصرنة والزواج في مناطق دراستها، فذكرت أن التعليم ساهم في تغيير نظرة المرأة للحياة والأشياء من حولها، وساهم أيضا في تعديل سن الزواج، فالمرأة التي تتزوج في سن الخامسة والعشرين، كما سجلت في أطروحتها، لا تحتاج للحماية التي تحتاجها من تتزوج في سن الثالثة عشرة.
وبعد كل تلك المقدمة الطويلة نسبيا حول خلفيات موضوع البحث دلفت الباحثة لموضوع بحثها الرئيس في القسم الثاني لأطروحتها والتي عنونتها: "العقد والزفاف (العرس) والطلاق"، واستفاضت في بدايته فى تناول القوانين الإسلامية (الشريعة) المتعلقة بالخطبة والزواج والطلاق، وما ورد في القرآن من المحرمات من النكاح (للأبد وبالنسب وبالرضاع)، والطلاق، وتعدد الزوجات. وتناولت ثنائية القضاء السوداني بفرعيه المدني والشرعي.
وفي الفصل الخامس تناولت الطريقة التقليدية لاختيار الرجل لزوجته مستصحبة دراسة لبلقيس بدري عن الموضوع في أمدرمان نشرت عام 1980م (وليس 1981م كما ذكرت الباحثة). البحث المقصود هو:
Balghis Yusuf Badri; Sex, socialization and conjuagal roles in Omdurman. In: V. Pons editor. Urbanization and Urban Life in the Sudan. Khartoum: Khartoum Development Studies and Research Centre, U.K.; 1980
وذكرت أن الأبوين كانا يلعبان الدور الأهم في اختيار الزوجة. وأشارت إلى أن مخبراتها من كبار السن ذكرن لها أنهن لم يكن يعرفن شيئا عمن تزوجوهن قبل إتمام عملية الزواج، وكان زواجهن مدبرا له سلفا (arranged marriage) وفي الغالب من أبناء عمومة أو خؤولة. وعبرت إحدى نساء أمدرمان المسنات عن ذلك بقولها: "لم يسألني أحد عن رأيي فيمن تقدم لي. لم أكن قد رأيته أو سمعت به من قبل، ولكني خاضعة لأبي تماما، ولو أراد أن يزوجنى من مسترق لرضيت باختياره لي". وعبر إدوارد عطية عن موقف مشابه في روايته الشهيرة "الطليعي الأسود The Black Vanguard".
وتوسعت الباحثة في قصص وحكايات مطولة عن زواج الفتيات دون أخذ موافقتهن أو حتى علمهن. ففي إحدى تلك القصص (والتي حدثت في عام 1960) أوردت الباحثة حكاية طالبة من عائلة مستنيرة بجامعة الخرطوم كانت تذاكر دروسها بالمكتبة عندما استدعيت للخارج لمقابلة رجل في الأربعين من عمره ومعه امرأة مسنة لم ترهما من قبل. تحدثت الطالبة من باب المجاملة بلطف وأدب شديدين مع السيدة الكبيرة رغم استغرابها من سبب الزيارة. وفجأة نطق الرجل الأربعيني لأول مرة وقال للسيدة الكبيرة: "أنا موافق"، ثم غادرا. وبعد نحو شهر أخبر والد الطالبة أن أيامها بالجامعة قد انتهت، إذ أنه وافق على زواجها من ذلك الرجل الأربعيني الذي رآها مع والدته. وسأل أحد المشرفين على الداخلية الطالبات عن رأيهن في مثل تلك الطريقة في الزواج فرددن عليه بالموافقة عليها، فللرجل بيت رائع وسيارة كذلك!
غير أن الأمر اختلف مع مرور السنوات، فقد ذكرت الباحثة أنها وجدت أن مخبراتها من صغار السن كن لا يمانعن فى الزواج بشخص (مناسب) من قبيلة أخرى، إلا أن المخبرات من كبار السن كن لا يحبذن ذلك. ووجدت الباحثة أن الرجال في سنوات القرن الماضي كانوا يؤثرون الزواج من عدة نساء من الأقرباء (lineage) ومن خارج العائلة أيضا. وأوردت الباحثة ما ذكره إبراهيم عن اختيارات الشايقية في الزواج (لم تذكر من هو إبراهيم في المراجع، ولكنه قد يكون حيدر إبراهيم في كتابه عن الشايقية)، والتي أتت بهذا الترتيب: ابن العم / الخال (cousin) ثم أقرباء الوالد (Agnatic relations) ثم الجيران وأخيرا المعارف. أما بالنسبة للجعليين (بزعمها) فالخيارات مختلفة قليلا فهي بهذا الترتيب: ابن العم / الخال، ثم قريب بعيد، ثم لجعلي من غير الأقرباء، ثم لرجل من قبيلة عربية (غير جعلي) يسكن في نفس القرية، وأخيرا مسلم غير سوداني.
وتناولت الباحثة عمر الفتاة عند الزواج، وذكرت أنه لم يكن هنالك في الماضي أي قانون يحدد السن الأدنى للزواج. وأوضحت النتائج التي تحصلت عليها من المخبرات أن نسبة اللواتي تزوجن وهن في عمر أقل من خمسة عشرة في أعوام 1900 – 1919م، و1920 – 1939م و1940 – 1959م، و1960 – 1980م كانت 55% و29% و34% و10%، على التوالي. وكان انخفاض تلك النسب مع مرور السنوات يتناسب عكسيا مع ارتفاع مستوى التعليم عند البنات.
وتطرقت الباحثة لختان البنات بحسبانه أول طقوس تحضير البنت للزواج. ونقلت ما كتبه تريمنجهام عن أن الختان كان يمارس في السودان قبل دخول العرب بسنوات طويلة. غير أن أصل العادة ما يزال موضوعا للنقاش. وذكرت الباحثة معلومات أولية عن أنواع الختان المختلفة، وتطرقت لتحول العائلات مع مرور السنوات من الختان "الفرعوني" (والذي حرم بالقانون في عام 1946م) إلى ختان "السنة"، وأوردت جدولا بنسب نوعي الختانين في عامي 1966 و1971، وكانت نسبتي الختان الفرعوني فيهما 75% و50%، على التوالي، بينما كانت نسبتي الختان السني في ذات العامين 20% و45%، على التوالي. وتراوحت نسبة غير المختونات في العامين بين 5% و8%. ووصفت تفاصيل عملية الختان (التي تجرى على البنات بين سن الرابعة والعاشرة) وما يصاحبها من احتفال وتصفيق وزغاريد وغناء. وذكرت أن الختان يمارس للحفاظ على عذرية البنات من "العار"، ويرتبط بـ "ايديلوجية" للطهر. وتعتقد المخبرات من كبار السن بأن الختان يزيد من متعة الرجل الجنسية، وإعادته بعد الولادة له نفس الوظيفة. ولا يزال الختان ممارسا بنوعيه بخلاف عادة أخرى هي عادة الشلوخ، والتي كانت منتشرة في أوساط الجعليين (والذين كانوا يسمون 111 على سبيل السخرية)، وتستخدم للحفاظ على تضامن القبيلة وشخصيتها، أو للتجميل. وهنالك من زعم أن العرب الذين دخلوا السودان اتخذوا الشلوخ وسيلة لتفريقهم عن سكان البلاد الأصليين من النوبة وغيرهم.
تناولت الباحثة أيضا أمر الخطبة والتحضير للزفاف، وذكرت أن الزواج المدبر سلفا يعني عادة أن عائلتين اتفقتا منذ سنوات على تزويج صغارهما. وتوسعت في ذكر تحضيرات الزواج ودفع "الصداق المقدم" والتحضيرات الأخرى مثل الحنة والمشاط والبخور والدخان وملابس العروس من "فركة" وغير ذلك. وتطرقت بشيء من التفصيل لعقود الزواج عبر السنوات. ولعل هذا الجزء هو الأكثر أهمية وإثارة في سائر الأطروحة.، إذ أنها أوردت مثالا لعقد زواج أبرم في 30/5/1881م (غرة رجب 1298هـ) جاء في بعض نصوصه (كما وردت دون تنقيح):
"اشهاد مضمونه أن الرجل العاقل الرشيد في صحة بدنه وتمام عقله ..... من مانع شرعي الحاج ... بان اصدق زوجته خضراء بنت .... من الصداق الحاضر الفرخة جبلي المكادية ومن الضأن عشرة شياه وعشرة ماعز وبقرتين والناقة الحمدية وأولادها الاثنين ... أما الصداق الغايب فاصدقها راسين رقيق ومن الضأن عشرة ومن الماعز خمسة عشرة ومن البقر اثنين ومن الذهب ستة اواق ذهب سناري ويقوم بدفع ذلك بعد مضى ثلاثة أعوام من تاريخه وانحلها والدها احمد محمد وقيتين دهب سناري والفرخة التي تدعى الكريم يدري وجوز حجول فضة .... والله خير الشاهدين". ثم أوردت مثالا لعقد زواج أبرم في 11/5/1917م بمركز شندي مديرية بربر جاء فيه أن "الصداق قدره 10 جنيه مصري، الحال منه ستة جنيه ونصف منها أربعة جنيه نقدية قبوضه بيد والدها والباقي قيمة نصف بقرة، والمؤجل ثلاثة جنيه ونصف بميعاد سنتين من تاريخه". ثم أوردت نموذجا (فارغا) لعقد زواج في عام 1977م، ربما لتبين الفرق بين بنوده وما سبقه من عقود. وجلبت أيضا نموذجا (فارغا) لعقد زواج للإخوان الجمهوريين كان المهر المقبوض فيه "واحد جنيه سوداني"، ويحوي اسم الزوج ووكيله، والزوجة ووكيلها، واسم الشاهد الأول والثاني، وامضاء الزوج وامضاء الزوجة. ويتم العقد والجميع حضور (ويشمل ذلك العريس والعروس والضيوف "على كتاب الله وسنة رسوله وعلى حسب الشروط الشرعية المتفق عليها بين الزوجين والواردة في كتيب "خطوة نحو الزواج في الإسلام" للأستاذ محمود محمد طه"، ثم تسلم صورة من وثيقة العقد (التي يوقع عليه أيضا السيد/ محمود محمد طه، زعيم الإخوان الجهوريين) مع نسخة من ذلك الكتيب لكل من الزوجين.
وتطرقت الباحثة أيضا لزواج "الكورة"، والذي عرفته (بحسب فهمها) بأنه زواج يكون فيه الصداق مبلغا رمزيا، والاحتفال مبسطا ومختصرا، تذهب بعده العروس لبيت زوجها مباشرة، وقد يتم فيه أيضا تزويج أكثر من عريس واحد. ولهذا النوع من الزواج تاريخ قديم في السودان بحسب المؤرخ سبوليدنق، والذي زعم بأن أحد باشوات الحكم التركي مر بقرية فلم يستقبله الأطفال كما هي العادة. وأخبره شيخ القرية بأن طمع الأمهات جعل شباب قريته يحجمون عن الزواج، وبذا قل عدد الأطفال في القرية. فأمر الباشا من فوره ألا يزيد المهر عن لفة واحدة من القماش، مع ثوب "زراق" واحد، وعشرين قرشا فحسب. وفي عهد المهدية، كان المهدي يحض على زواج "الكورة" باعتباره وسيلة من وسائل تضييق الفجوة الاجتماعية بين مختلف السكان.
وفي الفصل السابع من الأطروحة تناولت الباحثة ما طرأ من تغيير على مراسيم / طقوس الزواج منذ عام 1915م وعدد أيامه (والتي قد تمتد لسبعة أيام) وما يصاحبها من "بطان" و"عرضة" و"قطع رحط" و"سيرة" و"جرتق" و"حق البنات" و"النقطة" و"لمس القصة" و"البشة" والقيد" و"الحضانة" وغير ذلك من التفاصيل الحميمة. وانتقلت لسنوات الستينيات والسبعينيات حيث دخلت ملابس العرس الأوربية، واختصرت أيام العرس، وتصوير العروسين (في الأستديوهات) وغير ذلك.
وخصصت الباحثة الفصل الثامن للحديث عن الطلاق وتعدد الزوجات. وزعمت أن المجتمعات الإسلامية تميزت دوما بنسب طلاق عالية، غير أن هذا لم يكن يشير إلى انهيار اجتماعي، في مقابل نسب طلاق منخفضة في العالم المسيحي قديما، بسبب سن قوانين لا تشجع على الطلاق. غير أن الوضع اختلف في الثلاثين عاما الأخيرة حيث ارتفعت نسبة الطلاق في الغرب بسبب التصنيع و"الثورة الجنسية" حتى بلغت في أمريكا نحو 40% في عام 1970م.
وبلغت نسبة الطلاق في السودان بين عامي 1950 – 1970م بحسب إحصاءات القضاء الشرعي نحو 33%. ووجدت الباحثة أن نسب الطلاق عند أجيال الجدود والآباء كانت أعلى من النسب المسجلة في السنوات المتأخرة. وعبرت دكتورة دينا شيخ الدين عن رأي المرأة الحديثة في أمر الطلاق بقولها: " إن جيلنا لن يقبل من أزواجنا ما كانت تقبل به أمهاتنا. إن لدينا نظاما قضائيا يحمي حقوقنا في الطلاق، ونظاما قضائيا يحمينا في حالات الطلاق". غير أنها أشارت أيضا للقلة النسبية لعدد اللواتي استفدن من الإصلاحات القانونية في أمور الطلاق وغيره، فنساء المناطق الريفية لم يحظين بتلك المزايا، حيث تحسم معظم القضايا من هذا النوع على مستوى العائلة لا بالمحاكم.
وتطرقت الباحثة لقضية تعدد الزوجات، وذكرت أنه كان أمرا شائعا قبل الحكم الثنائي للسودان، غير أنه بدأ في التناقص في النصف الثاني من القرن العشرين. وتزعم بأنه كاد أن يختفي تماما في مناطق دراستها، وعزت ذلك لارتفاع كلفة الزواج. وعلمت الباحثة من مخبراتها أن السبب الرئيس لتعدد الزيجات هو عقم الزوجة، ثم رغبة الرجل الغني في التميز بوضع اجتماعي أرفع من غيره، وتفضيل الزوجة الأولى المشاركة في زوجها على أن تطلق. ووجدت الباحثة أيضا أن العاصمة المثلثة هي الأقل في نسبة تعدد الزوجات مقارنة بغيرها من المناطق الحضرية وشبه الحضرية والريفية.
خلصت الباحثة إلى أنه على الرغم من أن موضوع دراستها الرئيس هو التغيير، إلا أن استمرار التقاليد القديمة (أو "قيود الذاكرة" كما سمتها) كان أمرا بينا جدا. لقد حدثت بالفعل تغيرات لا تنكر في عدد من الجوانب الخاصة بالزواج وطقوسه وما يترتب عليه، إلا أنها وجدت أن الأجيال السابقة ما زالت تحدد، على نحو ما، خطوات الأجيال الحالية، خاصة في المناطق الريفية.
دعت الباحثة إلى الاهتمام بالدراسات النسوية، وعدم أخذ الشائع من العادات والتقاليد والممارسات بحسبانها أمورا مسلم بها، ونادت بالقيام بالمزيد من الدراسات التي تتناول تلك العادات والتقاليد والممارسات من زوايا مختلفة للحصول على معلومات أدق وأشمل مما ورد في دراستها هذه.
من بعض ما قد يعاب على هذه الأطروحة رغم أصالة موضوعها البحثي هو عدم دقة عنوانها، فهي تشير إلى "الجعليين" في العنوان، ولكنها تجري بحثا قوامه النساء من مختلف الأعمار في العاصمة المثلثة ورفاعة وشندي، وهي مناطق يقطنها أناس من مختلف القبائل، ولم تذكر الباحثة الطريقة التي استخدمتها للتأكد من قبيلة من سألتهن، خاصة مع اختلاط القبائل منذ سنين طويلة. ولعله كان من الأحرى – من باب الدقة- أن تستبدل كلمة "الجعليين" بـ "السودانيين" أو "السودانيات" في بعض مدن شمال السودان، ولن تختلف بذلك النتائج التي توصلت إليها في هذا البحث، وهي نتائج متوقعة على كل حال، وليس فيها ما يدهش!
وأوردت الباحثة الكثير من التفاصيل عن طقوس الزواج وعقوده عبر السنوات وموضوعات أخرى عديدة، مما لا ينسجم مع عنوان الأطروحة، والتي كان من الأوفق – في رأيي- أن تعنون:" تغير نمط بعض العادات الاجتماعية عند الرجال والنساء في شمال السودان بين 1915 – 1981م". كذلك قد يعاب على الدراسة قلة عدد المشاركات في الإجابة على الأسئلة (خاصة من السيدات من كبار السن) مما يضعف من موثوقية مخرجات الدراسة.
وأخيرا، أوردت الباحثة تفاصيل مراجع كل فصل من فصول الدراسة بصورة تفتقر للدقة والتفصيل (مثل اسم المؤلف كاملا وعنوان البحث وسنة الإصدار وعدد الصفحات) وهذا من أولويات كتابة البحوث.
قد يكون من المفيد مواصلة ما بدأته كريستين كجيردلاند بدراسات مقارنة لذات الموضوع في مناطق متعددة في ريف وحضر شمال وشرق وغرب البلاد في الثلاثين عاما الأخيرة، ونشر النتائج في دوريات يسهل الوصول إليها. وقد يجد الباحث / الباحثة أن تغييرات كثيرة في عادات وطقوس الأهالي في مختلف المناطق قد حدثت.
alibadreldin@hotmail.com