كلمة الإمام الصادق المهدي في وداع السيدين معتز واستقبال وئام

 


 

 



بسم الله الرحمن الرحيم
في وداع السيدين
معتز واستقبال وئام

بقلم: الإمام الصادق المهدي
1 فبراير 2014م

مقدمة:
بعض البلدان سمعتها أسوأ من حقيقتها، وبلدان أخرى حقيقتها عكس سمعتها، على وزن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه. السودان من البلدان التي جلب لها طقس العاصمة وأفعال حكومتها سمعة طاردة ولكن مجتمعه ذو خلائق جاذبة.
ففي المجتمع السوداني تقليد صديق لضيوفه من غير مواطنيه، وفيه إنسانيات محببة ما جعل بعض الدبلوماسيين يقول لي: حزنا عندما نقلنا للسودان وحزنا عندما نقلنا منه، وعلى حد تعبير أحدهم: وجدت بلاداً أخرى طبيعة ولا طبع، ولكن في السودان طبعاً ولا طبيعة.
ولكن بالنسبة للمنقول إلى حضن بلاده لا مجال للحزن لأنه على حد تعبير إيليا أبو ماضي:
فالمرء قد ينسى المسيء المفترى، والمحسنا
و مرارة الفقر المذلّ بلى و لذّات الغنى
لكنّه مهما سلا هيهات يسلو الموطنا
1.    بعض الناس نعى الربيع العربي، ولكن مهما كانت العثرات فإن للربيع ثماراً باقية أهمها الثلاث الباقيات:
•        انعتاق الشعوب وكسر حاجز الخوف.
•        هيمنة منظومة حقوق الإنسان على الرأي العام العالمي.
•        الشفافية التي باتت تفرضها ثورة المعلومات والاتصالات.
2.    نعم لا توجد رابطة دستورية بين السودان ومصر ولكن هنالك روابط باقية مهما كانت الأوضاع الدستورية، أخص بالذكر سبعة من هذه الروابط الأزلية:
•        الدين الإسلامي والمسيحي.
•        اللغة العربية.
•        الثقافة.
•        المصالح الاقتصادية.
•        الروابط العشائرية فكثير من العشائر في البلدين من أصل واحد وأخص بالذكر: النوبة، الهواوير، البشاريون، العبابدة، الرزيقات، المسيرية، بني هلبة، الحجازية، الجعافرة، وغيرهم. ولأهلنا في جزائر الأشراف قرابة عشائرية مع عشيرتهم في جنوب مصر.
هذه الروابط السبع تكتب دستور الحياة، ودستور الحياة أقوى وأبقى من دساتير الحكم.
3.    هنالك حقائق موضوعية في عالم اليوم أهمها أن الفكر العلماني الذي هيمن على العالم الأول في القرن التاسع عشر الميلادي والنصف الأول من القرن العشرين تراجع بعد ذلك بشهادة جورج ويقل الذي قال: إن انحسار العلمانية في العالم هو الظاهرة الاجتماعية البارزة في أواخر القرن العشرين. ومنذ النصف الثاني من القرن العشرين ظهرت حقيقتان هما:
الأولى: أن الإسلام كدين صار القوة الثقافية الأقوى في العالم بشهادة مونيسغنور فيتوري فورمنتي الناطق الرسمي باسم الفاتكان.
والثانية: أن التوجه الإسلامي بمدارسه المختلفة صار الحائز على القسط الأكبر من الرأسمال الاجتماعي في الشارع السياسي في بلاد المسلمين والعرب. ومع قهر النظم الحاكمة في البلدان العربية كان أثرها التقويضي على التيارات المدنية والعلمانية واليسارية والقومية واللبرالية أكبر. بينما تخندقت التيارات الإسلامية في أنشطة اجتماعية ودينية متصلة. لذلك عندما أزاحت ثورات "الربيع العربي" النظم الدكتاتورية دون أن تكون للثورات قيادات محددة، ولا برامج ثورية مفصلة، ما جعل الأنظمة الانتقالية التي ملأت الفراغ تتخذ نهجاً غير ثوري وتجري انتخابات عامة، فأدى ذلك لانتصار التيارات ذات المرجعية الإسلامية انتخابياً.
هذه الولاية الانتخابية احتلت مواقعها وكان الأولى بها كما ظللنا نقول أن تدرك أن في البلاد مؤسسات دولة مستمرة، وممارسات مجتمع باقية، ورأي سياسي آخر مستمر، ما يوجب أخذ هذه الحقائق في الحسبان وممارسة السلطة ضمن معادلة جامعة.
في تونس بدا كأن السلطة المنتخبة سوف تتخذ موفقاً اقصائياً للآخر، ولكن قيادة حزب  النهضة سرعان ما أدركت الخطأ، واتخذت نهجاً توافقياً مثمراً. أما في مصر فقد تأثرت قيادة الأخوان بعاملين هما الأول: غلبة التيار القطبي على التيار التلمساني. والثاني: نجاح تجربة الإسلاميين في السودان في البقاء في السلطة ربع قرن نتيجة لسياسة التمكين. ودون تقدير الثمن الذي دفعته التجربة في السودان، ودون أخذ ظروف مصر المختلفة مارست السلطة الإخوانية المنتخبة نهجاً تمكينياً هو السبب الأهم في تراكم معارضة واسعة ظهرت شعبيتها في 30 يونيو 2013م ما أدى للإطاحة بالسلطة الأخوانية بصورة مماثلة لما حدث في عام 2011م. وصارت الحالة:
رُزِقتُ مُلكاً فَلَم أَحسِن سِياسَتَهُ                 وَكُلُّ مَن لا يسُوسُ المُلكَ يَخلَعُهُ
الحقيقة الجيوسياسية الكبيرة أن ثمة تربيعة أضلاعها مصر، والسودان، ودولة جنوب السودان، وليبيا؛ تتطلع لمعادلة سياسية تجسد تنظيم تلك الروابط الجيوسياسية، ولكن إلى حين تحقيق ذلك فإن التطورات في هذه البلدان سوف تؤثر على بعضها بعضاً.
4.    نحن  في السودان نواجه استقطابا حاداً يمكن تصنيفه بوجود انقسام إسلامي علماني، وإسلامي مدني، وانقسام داخل الجسم الإسلامي حول درجة التوفيق بين التأصيل والتحديث. في هذا المناخ السياسي هنالك روابط ما بين قوى سياسية سودانية متعاطفة مع الأخوان في مصر، كما أن هناك قوى سودانية ضدهم وبالتالي متعاطفة مع نهج الحكم الحالي في مصر.
كذلك في الجسم السياسي السوداني انقسام حول ما جرى في دولة جنوب السودان، فقوى سياسية منحازة لرئيس الدولة، وأخرى منحازة لنائبه السابق. هذا الانقسام سوف تجري بلورته وفق موقف الخصمين الجنوبيين من دعم الجبهة الثورية.
5.    نحن في حزب الأمة القومي نضع أنفسنا في خانة أوصافها كالآتي:
(أ)          بالنسبة لما يجري في مصر فإننا خطأنا ما فعل الأخوان من ممارسات في الحكم، وخطأناهم فيما لجأوا إليه من مقاومة عنيفة، ونصحنا بكل ما نستطيع أن يتعظوا بالتجربة التركية وما فعل رصفاؤهم عند مواجهة حل حزبهم حتى بعد نيل أغلبية انتخابية، ومراجعة موقفهم والاستعداد لجولة أخرى.
وبما أننا ننطلق من مرجعية إسلامية غير أخوانية بل كانت من ضحايا التجربة ذات المرجعية الأخوانية، وننطلق من سجل مدني ديمقراطي لا يمكن الطعن فيه، ولذلك فنحن لا نصنف بالانحياز لطرفي النزاع في مصر، فقدرنا أن نسعى بكل ما نستطيع من مناصحة أن نقترح إجراء مراجعات تمكن من الاتفاق على معادلة تحقق درجة أعلى من الوفاق على نحو ما حدث في تونس.
إن للشرعية الحالية في مصر سنداً مؤسسياً وشعبياً كبيراً. كما أن للأخوان سنداً اجتماعياً داخل مصر وخارجها.
هذا معناه أن المساجلة حتى كسر العظم لن تمكن من الاجتثاث المتبادل بل ستكون المساجلة بين العنف والأمن على حساب الاستقرار والتنمية وبسط الحريات في مصر، كذلك فإن هذا الاستقطاب بسبب ما ذكرنا آنفاً سوف يعبر الحدود إلى السودان.
(ب)     أما بالنسبة لدولة الجنوب فنحن قد اقترحنا أن يكون الموقف السوداني حيادياً من الصراع على السلطة بل أن نهتبل هذه الفرصة لحسن استقبال اللاجئين الجنوبيين تصويباً لسوء معاملتهم بعد الانفصال. وأن نحسن استقبال اللاجئين ومعاملتهم كمواطنين، وأن ندفع بعون إنساني نستقطب له ما يمكن من دعم عربي، وأن نواصل التزامنا بتنفيذ ما أبرم من اتفاقيات مع دولة الجنوب قبل المفاصلة، وألا يتدخل السودان عسكرياً حتى لحماية حقول البترول، وإذا لزم ذلك فليكن من مهام الأمم المتحدة عن طريق اليوناميس. وأن نرحب بدور الاتحاد الأفريقي في وقف ومراقبة وقف إطلاق النار، ودوره في الوساطة بين طرفي النزاع لتحقيق وفاق يقيم مرحلة توافق انتقالية تحقق المهام الآتية:
o      التحقيق فيما حدث لبيان الحقائق وإجلاء الاتهامات المتبادلة.
o      العفو المتبادل للتمهيد لمحادثات السلام.
o      إن اللجوء لقوات أجنبية محفوف بالمخاطر وأهمها: أن لكل قوى أجنبية أجندة خاصة، ولكل قوى أجنبية كذلك خصوم في المنطقة، ما يعني أن تدخل دولة سوف يجر خصومها إلى الساحة لتصفية حساباتهم في أرض دولة الجنوب كما حدث في حرب البحيرات.
o      أن نحافظ على صلتنا بطرفي الاقتتال لدعم المصالحة بينهما.
o      أن نعمل في المجال العربي والأفريقي والدولي على اقتناع الطرفين أن الصلح بينهما يمكن أن يرتبط بدعم معنوي وتنموي كبير لدولة الجنوب.
(ج)      أما فيما يتعلق بالموقف من الجبهة الثورية، فالموقف الصحيح ليس أن نستغل ما تواجه من ضعف نتيجة لحوادث الجنوب بل أن نقوم بحملة نحو السلام تشدهم إلى مائدة سلام تستجيب لمطالبهم المشروعة باستثناء تقرير المصير لأي جزء آخر من السودان، فتجربة الجنوب تؤكد أن تقرير المصير ليس إكسيراً لحل المشاكل بل قد يكون مصدراً لمشاكل أكثر تعقيداً. ومع احتفاظهم بأسلحتهم إلى أن يبرم اتفاق سلام عادل شامل ينبغي التخلي عن هدف إسقاط النظام بالقوة فهذا إذا نجح فسوف يخلق استقطاباً قتالياً حاداً في السودان، وسيكون لوزنهم السياسي دوره في دعم جبهة العمل من أجل نظام جديد في السودان بوسائل سياسية.
6.    وإذا كان لنا دور في التطلع لتجاوز الاستقطاب الحالي في مصر فإننا نتطلع كذلك أن يكون لمصر دور مهم في مناصحة طرفي النزاع في دولة الجنوب، وفي مناصحة النظام الحاكم والجبهة الثورية للانحياز إلى الحل السياسي لا المفاصلة القتالية.
7.    نحن إذ ننادي بهذه الرؤى لا ننطلق من فراغ فالمواجهة في جنوب أفريقيا كانت هي الأكثر حدة والأكثر دموية ولكن القيادة العاقلة استطاعت عبر الكوديسا في جنوب أفريقيا أن تجد مخرجاً توافقياً. وهذا نفسه كررته أسبانيا بعد نزاع حاد سالت فيه الدماء، وكذلك في تشيلي حتى أن رئيسة تشيلي السابقة ميشيل باسيليه حولت هذه المعادلة التوفيقية إلى سيناريو انتقال مأمون وألقت بموجبه محاضرة في القاهرة قبل عامين.
ختام: وداعنا للصديق الحبيب معتز، واستقبالنا لخلفه العزيز وئام يدرك أنهما تابعين لإدارة لا يتخذان فيها القرار السياسي، ومهما كان القرار السياسي فنحن نقدر لهما الصلة الودية بيننا التي نحرص على استدامتها، ولكننا نقول ما نقول حتى لا تخلق التطورات السياسية مواقف تضر تكامل العلاقة بين شعبينا، تكامل يرجى أن يدعمه كل عاقل، وأن يزيل من طريقه العقبات في وقت تواجه أمتنا وقارتنا تحديات هائلة مرشحة أن تتصاعد في مستقبل الأيام.
هذا مع أطيب التمنيات لمعتز في عمله الجديد ولوئام الذي يرجى أن يكون من نصيب اسمه تحقيق وئامٍ في السودان، وفي مصر، وفي العلاقة بينهما.

والله ولي التوفيق.
/////////

 

آراء