كلية الفنون..اللالاية ضي الرتينة 

 


 

 

"ضعف تدريس الفنون في مدارسنا سينتج عنه انعدام الخيال وضعف الأفق الضروريان للمخططين وواضعي السياسات"   بروفسور أحمد محمد شبرين.

لا مكذب لمن زعم بأنه لولا فراسة الخواجي قرينلو وصحبه – لغلبت على أهل السودان بداوتهم، وبؤس ذائقتهم الجمالية، ولما اهتموا بتدريس فنون التصميم والرسم لبنيهم. لتوثق لفنون النقش والتصوير والزخرفة البسيطة في مجتمعاتهم، ولترتقي بمعارفهم الجمالية.

بقيت كلية الفنون الجميلة والتطبيقية، منذ إنشائها تحت مسمى (مدرسة التصميم) في منتصف أربعينات القرن الماضي بكلية غردون – قبل ان يتم "زقلها" الى المعهد الفني - بقيت يتيمة لأكثر من نصف قرن. تأبَّى رجالات التربية والسياسة أن يضيفوا عليها توأماً، أو حتى أن يرفعوا من شأنها – مبنىً ومعنى - إلا في أضيق الحدود. رغم خصوصيتها وتفردها، وإنجازات دارسيها المشهودة على مستوى العالم. حتى بتنا نحن أبناؤها وخريجوها "نعاف" مظهرها، فأقللنا ما اعتدنا عليه من مرور وزيارات نجدد فيها الصلات باساتذتنا وموظفيها، ونتنشق عبق ذكريات أيامنا فيها.

وعلى مر العقود، ظلت المعارض السنوية لتخريج طلبة الكلية مهرجانات متفردة للابداع والفكر والمثاقفة. تتلهف لقدومها العاصمة وضواحيها، بل وكل مدينة وقرية جاء منها دارس للكلية. يتوافد أهله ومعارفه في شغف لرؤية ما لا يمكن وصفه لمن فاته. ولكم شهدت هذه المعارض تعاقد كثير من المؤسسات داخل وخارج السودان مع الخريجين لتوظيفهم، أو لتنفيذ بعض الأعمال وتصنيعها وترويجها. من الرسم والتلوين وتصاميم المنسوجات والشعارات والملصقات والمطبوعات وقطع الأثاث وحلول المشاكل الصحية والبيئية.

وتزدان أيام العرض بالمنتديات والندوات والمحاضرات وعروض الافلام والمسرحيات والموسيقى.. حدثني طبيب خرطومي في الخليج بأنه ما تعرف على طبيعة أقاليم السودان وأزياء قبائلها واشكال آلاتهم الموسيقية وحرفهم .. بل وإلى كثير من رموز وأشكال وحتى مشاكل العالم، إلا من خلال رسومات وتصاوير وتصاميم طلاب الفنون، قبل ثورة الاتصال بالأقمار الصناعية.

حضرت بعد غياب عقدين معارض التخريج التي أقيمت أخريات مارس الماضي فبللت شوقي، ورويت عطشي (وإن كان بماء فاتر)! فحال البلاد وظرفها السياسي والاقتصادي جعل المناسبة باهتة اللون خافتة الصدى. المباني التي شادها المستعمر قبل سبعين عاماً شاخت. والقاعات انخفضت أرضياتها (أو علا ردم خارجها) وأضحت "جخانين" فاقم بؤسها كآبة الجدران والإضاءة. وأحبطني أكثر ضعف عرض أعمال ومشاريع طلاب بعض الأقسام بسبب الفقر البائن في المواد والموارد. من قلة في النماذج المنفذة أو المطبوعة وصغر حجمها. إضافة الى تعثر البرنامج الثقافي المصاحب. وحزنت كثيراً لأن الدولة "أوالجامعة" أمسكت يدها عن التمويل اللازم حتى لصيانة القاعات لتلائم العرض. فبدت كمن يبخل على ابنه أوابنته يوم عرسها!!

وسط هذه الخيبة العريضة، أسعدني أن الطلاب وأساتذتهم لم تهن عزائمهم في تطوير قدراتهم والارتقاء بمهاراتهم، فأنجزوا تصاميم مشروعاتهم بمستوى طيب، وتكاتفوا على إقامة هذه المعارض التي توقفت منذ 2017 بمواردهم الشخصية وبدعم بعض الخريجين، وقاموا بصيانة وتجديد طلاء الجدران بأنفسهم. ووقفوا بفخر أمام أعمالهم منشرحي النفوس، تبرق أعينهم بعظم آمالهم وهمو يحدثون زائريهم في توق لمستقبل زاهٍ ملؤه الضياء والألوان.

التهنئة لبلادنا في عيد التشكيليين، والتحية لأسرة كلية الفنون الجميلة والتطبيقية بجامعة السودان، وهم يتمثلون بأهل الكهف، في عكوفهم داخل صوامعهم العتيقة، مخلصين ومتجردين لأداء رسالة آمنوا بها. ولست أدري حتام سيبقون صامدين.

** حاشية أولى:

سمعت عن قرب الشروع في تشييد المباني الجديدة للكلية شرق الجناح الجنوبي لجامعة السودان بشارع محمد نجيب. فتحسرت على انتزاع موقعين خصصا لها سابقاً على شاطئ النيل بأمدرمان. وآلت إلى هذا المكان الذي يموج بحركة المركبات وزحامها، وتحفه مباني وعمائر كالحة للبنك العقاري والجيش والشرطه، في مساحة مغلقة تخلو من أي مظهر أو فضاء جمالي طبيعي أو مصنوع.

لعل هذا يحكي عظم الظلم الواقع على هذه المؤسسة الرائدة وإنكار دورها المغيب..  فهو باختصار موقع لا يليق بخصوصية مهام وطبيعة الدرس والتلقي والتجريب في مثل هذه الكلية. والتي يحسن، بل يجب، ألا تبتعد عن شواطيء النيل في أفق متسع لرؤية مسطحات وألوان ومستويات الماء والنبات وخلفيات الأشجار والمباني والجسور وغيرها لإغناء بصر وبصيرة الدارسين. ولا يزال في هذه الشواطئ متسع من مساحات يمكن تخصيصها إن لم يبتلعها محاسيب السلطة وأجهزتها، ويجدر بقاعات دراسة الفكر وعرض الفنون والدراما وساحاتها ومسارحها أن تشغل بعضها، بل أن تحل محل أندية و مؤسسات وشركات عاطلة عن رفد المجتمع بما يفيده، ولا يضيرها أن تقام مبانيها هنا أو هناك.  فمن يلالي ويضيء كالرتينة عتمات وأذهان المجتمعات مثل مؤسسات الفكر والفنون؟

** حاشية ثانية:

ألم يصدق أستاذنا شبرين في مقولته التي صدرت بها مقالي؟ فالعشوائية يزينها القبح تنداح وتكسو طرقات مدننا وسوح بوادينا.


saadeenn@gmail.com

 

آراء