كيف أحبطت الولايات المتحدة آمال السودان في الديمقراطية

 


 

 

كيف أحبطت الولايات المتحدة آمال السودان في الديمقراطية
الدولة الواقعة في شرق إفريقيا، التي كانت ذات يوم منارة للتغيير، تواجه الآن حرباً أهلية
10 مايو 2023
روبي جرامر مراسل شؤون الدبلوماسية والأمن القومي في فورين بوليسي
إعداد الترجمة – حسام عثمان محجوب

في أواخر أكتوبر 2021، التقى مبعوث أمريكي كبير بالقادة العسكريين السودانيين والمسؤول السوداني المدني الأعلى لدعم الانتقال غير المستقر نحو الديمقراطية في البلاد. أكد الجنرالات لجيفري فيلتمان Jeffrey Feltman، المبعوث الأمريكي الخاص لمنطقة القرن الأفريقي، أنهم ملتزمون بالانتقال ولن يستولوا على السلطة. غادر فيلتمان العاصمة السودانية الخرطوم متوجهاً إلى واشنطن في وقت مبكر من صباح يوم 25 أكتوبر. وفي طريقه، تلقى أنباء من السودان: بعد ساعات من مغادرته، قام هؤلاء القادة العسكريون باعتقال كبار القادة المدنيين في البلاد وقاموا بانقلاب.
خلال الأشهر الثمانية عشرة التالية، تبنت واشنطن سلسلة من الإجراءات السياسية المثيرة للجدل للحفاظ على العلاقات مع المجلس العسكري الجديد ومحاولة دفع الدولة الواقعة في شرق إفريقيا إلى التحول الديمقراطي. أدت أشهر من العمل إلى صفقة سياسية جديدة قدمت، على الورق على الأقل، أملاً جديداً، وشعر بعض مسؤولي إدارة بايدن أنهم كانوا قريبين جداً.
لكن الاتفاق انفجر في الساعة الحادية عشرة مع اندلاع أعمال عنف في أنحاء الخرطوم الشهر الماضي بين القوات التي يسيطر عليها الجنرالات المتنافسون عبد الفتاح البرهان الذي يقود القوات المسلحة السودانية ومحمد حمدان "حميدتي" دقلو. من مجموعة شبه عسكرية قوية هي قوات الدعم السريع.
أدى انهيار التحول الديمقراطي في السودان إلى غضب ورد فعل عنيف في واشنطن بين الدبلوماسيين ومسؤولي الإغاثة، الذين يشعر بعضهم أن سياسات إدارة بايدن أدت إلى تمكين الجنرالين في قلب الأزمة، مما أدى إلى تفاقم التوترات بينهما حيث دفعوا باتجاه تحقيق صفقة سياسية أو اتفاق، في حين تجاهلوا النشطاء المؤيدين للديمقراطية.
قال مسؤول أمريكي تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته: "ربما لم يكن بإمكاننا منع نشوب صراع". "لكن الأمر كما لو أننا لم نحاول، وما هو أبعد من ذلك، شجعنا حميدتي وبرهان من خلال إطلاق تهديدات فارغة متكررة فقط وعدم المتابعة مطلقاً."
وأضاف المسؤول: "وطوال الوقت، سمحنا بأن يتم إهمال اللاعبين الحقيقيين المؤيدين للديمقراطية".
حول الصراع بين قوات البرهان وحميدتي الخرطوم بين عشية وضحاها إلى ساحة معركة وضعت ملايين المواطنين، بالإضافة إلى موظفي الحكومات الأمريكية والأجنبية، وسط تبادل لإطلاق النار، والضربات الجوية، وهجمات المدفعية. دفع القتال السودان نحو حافة الانهيار وقوض، ربما بشكل دائم، مشروعاً ممولاً من الغرب لجلب الديمقراطية إلى بلد عانى من الاستبداد والصراع لمدة نصف قرن.
مع فشل الجولات المتعاقبة لوقف إطلاق النار، يخشى المسؤولون والمحللون الغربيون بشكل متزايد من أن القتال قد يؤدي إلى حرب أهلية واسعة النطاق، مما يؤدي إلى فراغ جديد من عدم الاستقرار والفوضى في منطقة تعاني بالفعل من أزمات إنسانية على طول البحر الأحمر الاستراتيجي، ويتدفق من خلالها 10 في المائة من التجارة العالمية.
قال ألكساندر روندوس Alexander Rondos، مبعوث الاتحاد الأوروبي السابق لمنطقة القرن الأفريقي: "بالطريقة التي تسير بها الأمور، بدأ السودان يشبه نسخة مكبرة من صومال أوائل التسعينيات على البحر الأحمر، بانهيار كامل للدولة، إذا لم يتوقف القتال".
تصف المقابلات التي أجريت مع حوالي عشرين من المسؤولين الغربيين الحاليين والسابقين والناشطين السودانيين القريبين من المفاوضات عملية سياسية أمريكية معيبة بشدة بالوساطة في محادثات السودان في الفترة التي سبقت الصراع، واحتكرتها قلة مختارة من المسؤولين الذين لم يشركوا بقية أعضاء الفريق المشترك بين وكالات أمريكية متعددة في المداولات الرئيسية قضت على أصوات المعارضة المتزايدة حول اتجاه سياسة الولايات المتحدة في السودان.
قال مسؤول سابق مطلع على الأمر: "منذ البداية، كان هناك رفض متسق ومتعمد لوجهات النظر التي تساءلت عما إذا كانت محادثات الأمم المتحدة ستكون وصفة للنجاح أو الفشل". "تم تجاهل تلك التحذيرات، وبدلاً من ذلك قامت الولايات المتحدة ببناء قصر أحلام للعملية السياسية تحطم الآن على شعب السودان".
قال مسؤولون أميركيون حاليون وسابقون، تحدث كثير منهم شريطة عدم الكشف عن هويتهم، إن التحذيرات الداخلية من التوترات المتلاحقة في الخرطوم ونشوب صراع محتمل قد تم رفضها أو تجاهلها في واشنطن، مما مهد الطريق لجعل موظفي الحكومة الأمريكية محاصرين وسط القتال في أجزاء مختلفة من الخرطوم دون استعدادات مسبقة لنقلهم إلى بر الأمان. في الخرطوم، قال هؤلاء المسؤولون الأمريكيون والمحللون السودانيون، إن السياسة أعيقت أكثر من قبل سفارة كانت لسنوات عديدة تعاني من نقص في الموظفين وفي عمق الخبرة والمعرفة، حتى دون سفير في معظم الفترة الحاسمة.
قال كاميرون هدسون Cameron Hudson، زميل بارز في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية ومسؤول سابق في وزارة الخارجية: "يبدو أننا فقدنا كل الذاكرة المؤسسية في السودان". "هؤلاء الجنرالات يكذبون علينا منذ عقود. أي شخص عمل في السودان قد رأى هذه الأشياء تتكرر مراراً وتكراراً".
عارضت وزارة الخارجية الأمريكية بشدة هذه التوصيفات. وقال متحدث باسم وزارة الخارجية رداً على ذلك: "إن الدور الأمريكي بعد الاستيلاء العسكري في أكتوبر 2021 تركز على دعم الجهات المدنية السودانية في عملية يقودها السودانيون لإعادة تشكيل حكومة انتقالية بقيادة مدنية".
وقال المتحدث: "الولايات المتحدة لم تضغط من أجل أي صفقة محددة، لكنها حاولت بناء إجماع والضغط على الجهات الفاعلة الرئيسية للتوصل إلى اتفاق بشأن حكومة مدنية لاستعادة انتقال ديمقراطي"، وأضاف أن تلك الجهود تشمل “دبلوماسية شبه مستمرة، تعمل غالباً عن قرب مع المدنيين، لنزع فتيل التوترات بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع التي نشأت عدة مرات وظهرت مرة أخرى في الأيام التي سبقت 15 أبريل 2023"، عندما بدأ القتال.
ومع ذلك، فبالنسبة لإدارة جعلت من تعزيز الديمقراطية العالمية محور سياستها الخارجية، أكد العديد من المسؤولين الحكوميين الذين تحدثوا إلى مجلة فورين بوليسي أن السودان يمكن أن يقف كواحد من أشد إخفاقات السياسة الخارجية، حتى في أعقاب الإخلاء الناجح لجميع موظفي الحكومة الأمريكية ونجاح حملة مساعدة المواطنين الأمريكيين على الهروب من البلاد.
يخشى هؤلاء المسؤولون أيضاً من أن الأزمة قد يتردد صداها خارج حدود السودان إذا لم توافق الأطراف المتحاربة على وقف إطلاق نار قابل للتطبيق قريباً، مع خطر قيام القوى الأجنبية المتنافسة بمفاقمة الصراع وتحويله إلى حرب بالوكالة.
في غضون ذلك، ترسم المقابلات مع العديد من النشطاء السودانيين وقادة المجتمع المدني صورة حركة مؤيدة للديمقراطية فقدت الثقة تماماً في الولايات المتحدة كمنارة للديمقراطية وداعمة لتطلعات السودان الديمقراطية. تحدث كثيرون شريطة عدم الكشف عن هويتهم خوفاً على سلامتهم مع استمرار القتال في الخرطوم.
قال شخص سوداني مطلع على المفاوضات الداخلية: "إما أن ترتفع قدرات وجهود الولايات المتحدة والغرب أو فإنهما بحاجة فقط إلى أن يغربوا عنا، لأن الخطوات الفاترة والتهديدات الفارغة بالعقوبات، مراراً وتكراراً، تضر أكثر مما تنفع". "تلاشت ثقتنا تماماً في الولايات المتحدة".
بعد انتفاضة شعبية مؤيدة للديمقراطية أطاحت بالديكتاتور القديم عمر البشير في عام 2019 ومهدت الطريق للسودان للانضمام إلى المجتمع الدولي بعد عقود من كونه منبوذاَ دولياً، استثمرت الولايات المتحدة موارد دبلوماسية لا حصر لها ومئات الملايين من الدولارات في انتقال السودان الديمقراطي.
بدا السودان على وشك أن يكون قصة نجاح. أدت انتفاضة شعبية، قادتها النساء السودانيات بطرق عديدة، إلى الإطاحة بواحد من أكثر الديكتاتوريات سمعة سيئة في العالم. شجب الرئيس الأمريكي جو بايدن في خطاب رئيسي للأمم المتحدة في سبتمبر 2021 الصعود العالمي للاستبداد ووصف السودان بأنه أحد أكثر الأمثلة المناقضة لهذا الاتجاه في جميع أنحاء العالم إقناعاً بعد ثورة 2019. وقال إنه يوجد في السودان دليل على أن "العالم الديمقراطي موجود في كل مكان".
بعد شهر واحد فقط، قام برهان وحميدتي بتدبير انقلابهم. بعد ذلك، جمدت إدارة بايدن حوالي 700 مليون دولار من الأموال الأمريكية للمساعدة في التحول الديمقراطي، وبعد أكثر من عام، أصدرت قيوداً على التأشيرات على "أي مسؤولين سودانيين حاليين أو سابقين أو أفراد آخرين يُعتقد أنهم مسؤولون أو متواطئون في تقويض التحول الديمقراطي في السودان ". كما قام البنك الدولي وصندوق النقد الدولي بتجميد 6 مليارات دولار من المساعدات المالية.
لكن بعض الدبلوماسيين الأمريكيين شعروا أن ذلك لم يذهب بعيداً بما فيه الكفاية ولن يؤثر أي من هذه الأعمال الانتقامية بشكل مباشر على البرهان أو حميدتي. اندلع نقاش داخلي حاد. جادل بعض المسؤولين بأن واشنطن بحاجة إلى فرض عقوبات رادعة على البرهان وحميدتي للجمهما وإظهار الدعم للناشطين المؤيدين للديمقراطية. جادل مسؤولون آخرون، بما في ذلك مساعدة وزير الخارجية مولي في Molly Phee- كبير مبعوثي بايدن لإفريقيا - بأن العقوبات لن تكون فعالة وقد تقوض نفوذ الولايات المتحدة مع البرهان وحميدتي حيث سعوا لإعادتهما إلى طاولة المفاوضات.
قال مسؤول أمريكي مشارك في العملية: "كان هناك الشيء الصحيح الذي يجب القيام به، لنظهر للشعب السوداني أننا نقف بصورة كاملة وراء الديمقراطية، وهو معاقبة حميدتي والبرهان على هذا الانقلاب الفاضح، ثم كان هناك الشيء الخاطئ وأكثر ملاءمة قليلاً لفعله، وهو الاستمرار في العمل معهما بعد بعض الانتقادات الشديدة". "ولقد اخترنا الباب الثاني".
قال فيلتمان، المبعوث الأمريكي السابق، إنه دعا إلى معاقبة البرهان وحميدتي خلال فترة وجوده في الحكومة، لكن في الإدراك المتأخر لم يكن متأكداً مما إذا كان ذلك يمكن أن يمنع الصراع: "هل أعتقد أن العقوبات كانت ستمنعهما في نهاية المطاف من أخذ 46 مليون شخص من السودان كرهائن بسبب رغباتهما الشخصية في السلطة؟ لا".
كانت هناك قضايا أخرى معقدة أيضاً. لقد استنزفت الحرب في إثيوبيا المجاورة كبار مسؤولي إدارة بايدن الذين يعملون على السياسة الأفريقية، حيث مات ما يقدر بـ 200.000 إلى 600.000 شخص خلال صراع دموي في منطقة تيغراي الشمالية في البلاد. وسفارة الولايات المتحدة في الخرطوم تعاني من نقص في الموظفين وغير قادرة على التعامل مع الوضع؛ لن يصل سفير أمريكي متفرغ إلا بعد ثلاث سنوات من إطاحة البشير. يقول المسؤولون إنه خلال هذا الوقت، تولت مولي في المسؤولية المباشرة عن السياسة الأمريكية بشأن السودان.
عملت في عن كثب مع داني فوليرتون Danny Fullerton وهو مسؤول بالوكالة الأمريكية للتنمية الدولية ملحق بوزارة الخارجية في الخرطوم للتفاوض مباشرة مع البرهان وحميدتي وإحضارهما إلى طاولة المفاوضات للتوصل إلى اتفاق سياسي جديد.
قال أحد الأمريكيين المطلعين على تفاصيل عمل السفارة الأمريكية الداخلية: "كانت السفارة محاصرة للغاية، مع نقص حقيقي في عدد أو مهارة المسؤولين السياسيين، وكان القائم بالأعمال والسفير لاحقاً عندما وصل إلى هناك محبطين للغاية بسبب نقص الدعم من واشنطن". "لقد كانت مجموعة قليلة الحيلة، ومشغولة للغاية، وبصراحة، لم تكن على اتصال جيد كما كان ينبغي أن تكون مع الأشخاص المناسبين في المجتمعات المؤيدة للديمقراطية في السودان".
قال هذا المسؤول إن النقص الحاد في عدد العاملين بالسفارة، والذي تم تفصيله في تقرير رقابي لوزارة الخارجية الأمريكية حول السفارة نُشر في مارس، وقضايا القيادة ساهمت في صعوبات إجراء مفاوضات مع البرهان وحميدتي. لكن مسؤولين حاليين وسابقين يجادلون في ذلك، ويصرون على أن وزارة الخارجية لا يزال بإمكانها عقد صفقات بمشاركة رفيعة المستوى من المسؤولين في واشنطن، حتى مع وجود نقص في الموظفين في السفارة.
قال خمسة مسؤولين أمريكيين حاليين وسابقين وناشطين سودانيين على دراية بالمفاوضات إنه قبل وصول السفير الأمريكي إلى الخرطوم في أواخر عام 2022، لم يفعل المسؤولون الأمريكيون المشاركون في المفاوضات مع حميدتي والبرهان ما يكفي لدمج لجان المقاومة المؤيدة للديمقراطية في السودان في مداولات بشأن صفقة سياسية جديدة مع الجنرالات، ولم يلتفتوا إلى التحذيرات المتعلقة بالمخاطر والعيوب الكامنة في صفقة جديدة.
قال هؤلاء المسؤولون إن هناك معارضة متزايدة في واشنطن بشأن مسار السياسة الأمريكية، لكن في رفضت خيارات السياسة الأخرى، بما في ذلك تهديد حميدتي أو البرهان بفرض عقوبات أو أشكال أخرى من الضغط أو دمج الجماعات المؤيدة للديمقراطية في السودان في المفاوضات السياسية. كما أشار تقرير وزارة الخارجية إلى أن نائبة رئيس البعثة في الخرطوم "ظلت في بعض الأحيان تركز على مسار عملها المحدد مسبقاً ولم تنظر في البدائل التي قدمها الموظفون" - على الرغم من أن التقرير لم يتطرق إلى ما إذا كان لهذا أي تأثير على سياسة الولايات المتحدة .
ومع ذلك، عارض المتحدث باسم وزارة الخارجية بشدة هذه التوصيفات: "بينما لا يمكننا التعليق على مداولات السياسة الداخلية، نظر قادة وزارة الخارجية بعناية في مقترحات السياسة والآراء المختلفة حول سياستنا بشأن السودان ولم يتاجاهلوا أو يرفضوا أي معارضة".
وطوال الوقت، سعى البرهان وحميدتي إلى توسيع سلطتهما ونفوذهما في جميع أنحاء السودان، وتملق القوى الأجنبية وتمهيد الطريق لتنافس متنامي من شأنه أن يشعل فيما بعد صراعاً مميتاً. وجد البرهان داعمين له في مصر المجاورة. وتودد حميدتي للإمارات العربية المتحدة وروسيا وبدأ في تعميق العلاقات بين قوات الدعم السريع ومجموعة فاغنر، وهي جماعة مرتزقة روسية غامضة يُقال على نطاق واسع إنها مسؤولة عن جرائم حرب في أجزاء أخرى من إفريقيا وأوكرانيا. أطلق حميدتي، المتورط في فظائع واسعة النطاق في نزاع دارفور في السودان الذي اندلع في عام 2003، حملة علاقات عامة منسقة لمحاولة تحويل نفسه إلى رجل دولة على الساحة العالمية فيما كان يُنظر إليه على أنه هجوم تجميل سياسي وتحدي لحكم البرهان.
زار حميدتي موسكو في 23 فبراير 2022، عشية الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا، لمناقشة احتمال فتح ميناء روسي على الساحل السوداني على طول طرق التجارة الاستراتيجية في البحر الأحمر. اعتقد بعض المسؤولين الأمريكيين الذين كانوا يضغطون من أجل معاقبة حميدتي أن زيارته الوقحة لموسكو كانت ستقنع أخيراً كبار صانعي القرار بإقرار عقوبات جديدة كبيرة عليه. ولكن العقوبات لم تأت أبدا.
في ذلك الوقت تقريباً، تمت كتابة مذكرة واحدة على الأقل وتوزيعها داخل مكتب الشؤون الإفريقية بوزارة الخارجية تحذر من مخاطر السياسة الأمريكية الحالية بشأن السودان وتعرض السيناريوهات المحتملة التي يمكن أن تنبثق من التنافس بين البرهان وحميدتي، بما في ذلك تلك التوترات التي قد تتفجر إلى صراع واسع النطاق. المذكرة، التي وصفها العديد من مساعدي الكونجرس والمسؤولين السابقين المطلعين عليها بعبارات عامة، كان من المفترض أن تذهب إلى مكتب وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكين، ولكن تم تحرير المسودة بشكل كبير، وتم تخفيفها، ولم تخرج من المكتب . قال مسؤول سابق: "مع ذلك، لا يستطيع قادة وزارة الخارجية القول إنهم لم يتم تحذيرهم".
كما انتقد المدافعون عن حقوق الإنسان نهج إدارة بايدن تجاه السودان في الأشهر التي سبقت اندلاع العنف في أبريل. قال محمد عثمان، خبير شؤون المنطقة في هيومن رايتس ووتش: "من خلال الفشل المتكرر في محاسبة القادة المتعسفين أو التوضيح، من خلال تدابير ملموسة، أن السلوك العنيف لن يتم التغاضي عنه، أرسل شركاء السودان الغربيون إشارة إلى هؤلاء الجنرالات بأنهم يستطيعون الاستمرار في إبقاء البلاد تحت تهديد السلاح دون أي عواقب تقريباً".
خلال هذا الوقت، أصبح النشطاء السودانيون محبطين بشكل متزايد من نهج الولايات المتحدة تجاه السودان. قالت خلود خير، المحللة السياسية السودانية التي تابعت المفاوضات عن كثب: "لم يكن هناك أي التزام ذي مغزى رأيناه من أي من [البرهان أو حميدتي]، وقد تم تنحية كل ذلك جانباً والتضحية به عملياً على مذبح عملية سياسية واتفاق سياسي بدعم شعبي محدود ولم يكن ليصمد أبداً".
في سبتمبر 2022، وصل جون جودفري John Godfrey، وهو دبلوماسي أمريكي محترف لديه خبرة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وخلفية في مكافحة الإرهاب، إلى الخرطوم كأول سفير للولايات المتحدة في السودان منذ ربع قرن. قال المسؤولون إن جودفري بدأ على الفور في محاولة شق طريقه مع ما يسمى بلجان المقاومة ومنظمات المجتمع المدني الأخرى التي كانت القوة الدافعة في دفع السودان نحو الديمقراطية.
قال الأمريكي المطلع على الديناميكيات الداخلية للسفارة: "لقد هزمته أوراق اللعب التي وزعت له". "كان يحرق الشمعة من كلا الطرفين في محاولة لإنجاز هذه الصفقة، حتى لو لم يعط المسؤولون في واشنطن، فيما عدا في و [مكتب الشؤون الأفريقية]، السودان الكثير من الاهتمام أو التفكير".
حتى في الوقت الذي شتتت فيه الحرب الروسية في أوكرانيا والصراع المستمر في إثيوبيا انتباه معظم المسؤولين في واشنطن، فإن في وغودفري - جنباً إلى جنب نظرائهم بمن فيهم دبلوماسيون كبار من المملكة المتحدة، والأمم المتحدة، والاتحاد الأفريقي، وكتلة إقليمية تسمى الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية (إيقاد) - دفعوا إلى استئناف انتقال السودان إلى الحكم المدني. حدث اختراق واضح في ديسمبر الماضي، عندما وافق القادة العسكريون في السودان وبعض فصائل القوى المؤيدة للديمقراطية في البلاد على حكومة انتقالية جديدة بقيادة مدنية في غضون أشهر.
لكن مسؤولين قالوا إن المفاوضين الغربيين رضخوا لمطالب حميدتي والبرهان بإبعاد نشطاء المجتمع المدني والمؤيدين للديمقراطية عن المفاوضات، مما منح المجلس العسكري انتصاراً مبكراً على الجماعات المدنية الأضعف. كما ترك اتفاق ديسمبر قضية رئيسية واحدة دون حل وهي التي ستصبح قريباً قضية متفجرة: خطط دمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة السودانية لإنشاء قوة عسكرية موحدة للبلاد.
أثارت هذه القضية المزيد من التوترات بين البرهان وحميدتي في الأشهر المقبلة. بدأ محللون في الخرطوم دق ناقوس الخطر بشأن التوترات المتأججة التي من شأنها أن تمهد الطريق لاندلاع العنف. ربما أدى الدفع باتجاه الاتفاق إلى تفاقمه.
قال شخص آخر منخرط في المفاوضات: "كان هناك هذا اليأس المطلق لدفع الاتفاق النهائي لخط النهاية إلى حد الاستسلام للأمل الكاذب".
لكن في واشنطن، كانت الخطط جارية للاحتفال بالحكومة الانتقالية الجديدة بعد توقيع الاتفاقية الثانية. واصلت السفارة ترتيب الاجتماعات مع حميدتي والبرهان وإجراء الأعمال الروتينية للسفارة. قامت إحدى فرق الروك الأمريكية بالعزف في مهرجان في مارس كجزء من جولة وزارة الخارجية للدبلوماسية العامة.
نهج العمل كالمعتاد كذب التوترات في الخرطوم. تم تأجيل حفل توقيع الاتفاق، ثم تأخر مرة أخرى. كان البرهان وحميدتي يحشدان القوات حول الخرطوم. بدأ بعض الدبلوماسيين الأمريكيين ذوي الرتب المنخفضة والمفاوضين المدنيين السودانيين بشكل أكثر صراحة في تحذير أصدقائهم وزملائهم في واشنطن من خلال قنوات خلفية غير رسمية من أن الصراع يبدو وشيكاً.
قال الأمريكي المطلع على الديناميكيات الداخلية للسفارة: "كان الناس يتصلون، قائلين: "عليك أن تمرر هذه الرسائل إلى كل شخص تعرفه في واشنطن أنه يمكن أن تكون هناك حرب بالفعل، ولا يبدو أن المجتمع الدولي يأخذنا على محمل الجد "".
قال ستة من المسؤولين ومساعدي الكونجرس المطلعين على الأمر إن كبار المسؤولين في واشنطن إما قللوا من شأن هذه الإشارات التحذيرية أو أساءوا تفسيرها. لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يجمع فيها البرهان وحميدتي قوات حول الخرطوم، ولا المرة الأولى التي يضطر فيها المحاورون الأمريكيون إلى التدخل للمساعدة في تهدئة التوترات.
غادر جودفري ونظيره من لندن، جايلز ليفر Giles Lever، اللذان لعبا أدواراً رئيسية في رعاية صفقة ديسمبر حتى خط النهاية، البلاد في إجازات منفصلة بحلول أوائل أبريل، في إشارة إلى أن واشنطن شعرت بأن الصفقة قد اكتملت. في واشنطن، بعد توقيع برهان وحميدتي على الاتفاقية (الاتفاق الإطاري)، أرسلت وزارة الخارجية رسالة إلى الكونجرس بأنها تريد تجهيز 330 مليون دولار من الأموال لمساعدة التحول الديمقراطي في السودان، وفقاً لثلاثة مساعدين في الكونجرس ومسؤولين مطلعين على الأمر. وقال هؤلاء المسؤولون إن الوزارة كانت تعمل على صياغة خطة جزرة وعصا للسودان، حيث كانت الجزرة تمويلاً بملايين الدولارات بينما كانت تفويضات العقوبات الجديدة هي عصا ثقيلة.
كان لدى وزارة الخارجية منذ زمن طويل تحذير سفر من المستوى الرابع للسودان، يوصي المواطنين الأمريكيين "بعدم السفر" هناك، وأرسلت الوزارة تنبيهاً أمنياً إضافياً، في 13 أبريل، نصحت فيه المواطنين الأمريكان بتجنب مدينة كريمة في شمال السودان، وحظرت أفراد الحكومة الأمريكية من مغادرة الخرطوم، في ظل "تزايد وجود قوات الأمن". لم تصدر الولايات المتحدة تحذير سفر واسع النطاق يحث المواطنين على المغادرة عبر الرحلات الجوية التجارية، أو يجمع موظفي الحكومة الأمريكية داخل الخرطوم في حالة حدوث أزمة، أو يأمر بمغادرة الأفراد غير الضروريين في حين وصلت التوترات بين البرهان وحميدتي إلى نقطة الغليان. .
قال مسؤول أمريكي ثالث: "نحن جميعاً نتساءل حقاً عن سبب عدم قيامنا بالمزيد للتحضير لأسوأ سيناريو".
في 15 أبريل، اندلعت التوترات بين حميدتي والبرهان أخيراً. شنت قوات الدعم السريع ما بدا أنه سلسلة منسقة من الهجمات على قواعد القوات المسلحة السودانية وقصفت مطار الخرطوم الدولي بالنيران والصواريخ - مما أدى إلى قطع الوسيلة الوحيدة العملية للهروب من مدينة مكتظة بالسكان تبعد مئات الأميال عن الساحل أو أقرب الحدود.
في الحال، أصبحت المدينة التي يبلغ عدد سكانها حوالي 5 ملايين نسمة منطقة معارك. بدأت سفارة الولايات المتحدة العمل بشكل محموم لجمع موظفيها وعائلاتهم في عدة مواقع رئيسية. هرع غودفري، السفير الأمريكي، عائداً إلى الخرطوم، وقطع إجازته قبل اندلاع القتال مباشرة. نفذ مقاتلو قوات الدعم السريع عمليات نهب واعتداءات بالجملة، وبدأت القوات المسلحة السودانية بقصف مواقع في وحول الخرطوم. اعتدى مقاتلو قوات الدعم السريع على سفير الاتحاد الأوروبي في الخرطوم، آيدان أوهارا Aidan O’Hara، وفي حالات أخرى مختلفة ورد أنه تم إطلاق النار على عاملين في الأمم المتحدة والمنظمات الدولية أو خطفهم لفترة وجيزة أو الاعتداء عليهم جنسياً، وفقاً لتقارير أمنية داخلية للأمم المتحدة حصلت عليها فورين بوليسي.
دخل البيت الأبيض ووزارة الخارجية ووزارة الدفاع في وضع الأزمة، وعملوا على مدار الساعة لصياغة خطط إخلاء السفارة. في 22 أبريل، أقلعت وحدة من القوات الأمريكية من قاعدة أمريكية في جيبوتي على متن ثلاث طائرات هليكوبتر من طراز شينوك Chinook، وبعد التزود بالوقود في إثيوبيا، هبطت في الخرطوم لإجلاء جميع موظفي الحكومة الأمريكية وعائلاتهم بأمان. طوال الوقت، عمل كبار الدبلوماسيين الأمريكيين على ترتيب وقف إطلاق نار مؤقت بين البرهان وحميدتي لمساعدة المدنيين ومساعدة أولئك الذين يحاولون الفرار.
قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية: "لم تغير أي من البعثات الدبلوماسية الأجنبية في الخرطوم استعداداتها الأمنية أو مستويات التوظيف قبل اندلاع القتال، وكانت السفارة الأمريكية مركزة للغاية وفعالة في تجميع موظفيها فور بدء الحرب".
ظل ما يقدر بنحو 16000 مواطن أمريكي محاصرين في المدينة، بما في ذلك العديد من المواطنين حاملي الجنسيتين السودانية والأمريكية وعدد أقل من المنظمات غير الحكومية وعمال الإغاثة الذين عملوا في البرامج الإنسانية والإنمائية التي تمولها الولايات المتحدة. أصبح المشرعون الأمريكيون غاضبين لأن إدارة بايدن لم تفعل المزيد للمساعدة في إجلاء المواطنين الأمريكيين بعد اندلاع الصراع الأولي، وقارنوا الفشل الذريع بالانسحاب المخزي من أفغانستان.
كان بشرى ابنعوف من السكان الذين بقوا في الخرطوم، وهو مواطن أمريكي سوداني مزدوج الجنسية، عاد إلى الخرطوم من ولاية أيوا. "كان لديه شغف بعمل الخير". قال ياسر الأمين، رئيس جمعية الأطباء السودانيين الأمريكيين وصديق مقرب وزميل لابنعوف، إنني أتذكره وهو يقول: "يمكن استبدالي في ولاية أيوا، لكن لا يمكن استبدالي في السودان". غامر ابنعوف وأطباء آخرون بالخروج وسط معارك بالأسلحة النارية وانفجارات لتقديم المساعدة للجرحى من المدنيين مع استمرار الصراع.
بدأ مواطنون سودانيون آخرون يحاولون الخروج من الخرطوم، إما بالفرار شمالاً إلى الحدود المصرية أو في رحلة برية محفوفة بالمخاطر إلى الساحل في بورتسودان. يتذكر ناشط سوداني فر من الخرطوم: "كان الجحيم على الأرض". "غادرنا متخللين المدينة وسط المعارك فقط لأن المياه بدأت تنفد. كان خيارنا إما أن نموت بالتأكيد من العطش أو أن نخاطر باحتمال إصابتنا بالرصاص. لم يكن خياراً على الإطلاق ".
جعل المسؤولون الأمريكيون التوسط للتوصل لوقف إطلاق نار مستدام على رأس أولوياتهم، لكن حتى الآن لم يتم وقف إطلاق النار. أرسل كل من البرهان وحميدتي مفاوضين إلى محادثات سلام في جدة بالمملكة العربية السعودية، بالتنسيق مع واشنطن والرياض، لكن العديد من المسؤولين والمحللين يشكون في أن المحادثات ستقود إلى أي مكان بعد فشل محاولات وقف إطلاق النار المتعددة. في 4 مايو، أعلن بايدن عن أمر تنفيذي جديد يمنح سلطات قانونية جديدة لفرض عقوبات على المتورطين في أعمال العنف في السودان. ويشك بعض المحللين السودانيين في نجاح العقوبات.
قال أمجد فريد الطيب، مساعد كبير مستشاري رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك قبل إقالته من السلطة: "الهدف من العقوبات هو أنها تستخدم كتهديد خلال الأوقات العادية لمنع الجهات السيئة من فعل أشياء سيئة". "أعتقد الآن أن الوقت قليل جداً، فقد فات الأوان - إنها بالفعل حالة حرب".
لا يزال الوضع في الخرطوم متردياً. وقالت المحللة السياسية السودانية خلود خير "لا أعتقد أن ما يسمى بالمناطق الآمنة في الوقت الحالي ستكون آمنة لفترة أطول لأن الهدف من اللعبة من كلا الجانبين يبدو أنه السيطرة الكاملة على البلاد".
يضغط المشرعون الأمريكيون لتكليف مبعوثين جدد لدخول المعركة. أصدر النائب مايكل ماكول Michael McCaul، الرئيس الجمهوري للجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب، ونظيره الديمقراطي، النائب غريغوري ميكس Gregory Meeks، مناشدة مشتركة إلى بايدن والأمم المتحدة لتعيين مبعوثين خاصين جدد للولايات المتحدة والأمم المتحدة إلى السودان، قائلين: "القيادة المباشرة والمستدامة رفيعة المستوى من الولايات المتحدة والأمم المتحدة ضرورية لمنع القتال من جر البلاد إلى حرب أهلية شاملة وانهيار الدولة ".
يخشى العديد من المسؤولين الغربيين من أن السودان قد ينغمس في حرب أهلية إذا لم يتوقف القتال قريباً، ولكن من غير الواضح أيضاً ما الذي قد يعنيه وقف إطلاق نار قابل للتطبيق لأي آمال في إحياء الانتقال الديمقراطي المحتضر في السودان. قال فيلتمان، المبعوث الأمريكي السابق: "هذه ليست حرباً أهلية واسعة النطاق بعد، مثل سوريا وليبيا". "لا يزال القتال بين قوتين متنافستين. الوقت هو الآن لإيقافه، قبل أن يتطاول ويتمدد".
وطوال هذا الوقت، يستمر القتال في الخرطوم. ووجد بعض المواطنين الأمريكيين طرقاً إضافية للإخلاء، إما بمساعدة مباشرة من حكومة الولايات المتحدة أو من دول أخرى.
آخرون لم يكونوا محظوظين. قُتل بشرى ابنعوف، الطبيب السوداني الأمريكي الذي مكث في الخرطوم لتقديم العون للمدنيين وسط القتال، طعناً حتى الموت على أيدي لصوص مشتبه بهم أمام عائلته في 25 أبريل.

روبي جرامر مراسل شؤون الدبلوماسية والأمن القومي في فورين بوليسي.

رابط المقال الأصلي باللغة الإنجليزية:
https://foreignpolicy.com/2023/05/10/sudan-conflict-burhan-hemeti-democracy-us-missteps/

رابط استعراض المقال باللغة العربية من قناة سودان بكرة:
https://www.youtube.com/watch?v=VZW8dHXXYQc

 

husamom@yahoo.com

 

آراء