لا خير فينا ان لم نقلها: القشة التي قصمت ظهر البعير (2) 

 


 

صديق الزيلعي
10 February, 2022

 

أخطأت في المقال الأول (يا قائدا بلا معركة ... آن أوان المعركة) بعدم إشارتي لأنه أول مقال في سلسلة مقالات تشمل كافة القوى السياسية والاجتماعية التي ساهمت في افشال الفترة الأولى، من عملية الانتقال الديمقراطي. سأبذل قصارى جهدي، الا تخرج المقالات عن الموضوعية، أو الانجرار الي معارك التخوين والعداء. واقتباسي للعنوان (لا خير فينا ان لم نقلها)، مقصود لأننا نواجه تحدي مصيري يتعلق بمستقبل بلادنا. وهذا هم وطني أساسي نحتاجه، بصدق وقوة، للخروج من المأزق الذي أدخلنا فيه انقلاب البرهان وحميدتي.

ناضل شعبنا من اجل تحقيق السلام في كل ربوعه. وكانت دارفور احدى المناطق التي نالت زخما تضامنيا كبيرا، وكان شعار (يا العنصري المغرور كل البلد دارفور). كما ان معظم أطراف الحركة السياسية والجماهيرية دعمت نضال أبناء دارفور، الرافض للتهميش والداعي لقسمة عادلة للثروة والسلطة. وقد تعرضت في المقال السابق لدور المجلس المركزي لقحت في افشال الفترة الانتقالية، انتقل اليوم لدور الحركات المسلحة في تخريب الفترة الانتقالية.

درجت كوادر الحركات المسلحة على مهاجمة كل من يتعرض بالنقد لتلك الحركات بانه عنصري. ولكي يقرأ أولئك وغيرهم مقالي هذا بموضوعية، أقدم هذه المعلومات. ولدت بمدينة الأبيض ودرست بها كل المراحل قبل الجامعية. عندما كنت أعمل بجريدة الميدان اليومية، خلال الديمقراطية الثالثة، حررت صفحة أسبوعية باسم (صوت الغرب)، أجريت خلالها حوارات مطولة مع كل قادة أبناء الغرب، من مختلف قبائل كردفان ودارفور، بالإضافة للمتابعة للوضع الأمني بدارفور. قمت بتجميع تلك المقابلات في كتاب بعنوان (حركة أبناء الغرب الي اين؟)، وهو موجود بالمكتبات.

الموقف المبدئي لكل قوى الثورة هو المطالبة والعمل الجاد لتحقيق السلام. والسلام هو أحد مبادئ الثورة الأساسية، التي جسدها شعار (حرية سلام وعدالة). انطلاقا من هذا الموقف المبدئي نرحب بكل الجهود لتحقيق السلام، الذي هو شرط أساسي للتنمية. هذا الموقف لا يعني تأييد أي اتفاق يتم، بل النظر في تفاصيل الاتفاق، بمنظور مدي معالجتها لمأساة الذين اكتووا بنيران الحرب، ومدى شمولها لكافة الأطراف المتحاربة، ومصداقية من يوقعونها، والاستفادة من أخطاء التجارب الماضية وتخطيها، وقابلية الاتفاقية نفسها للاستمرارية.

المشكلة الجوهرية في طرح الحركات، انها تنظر لقضية التهميش بمنظور جغرافي بحت، وهذه نظرة ضيقة تلقي كافة أنواع التهميش كالتهميش الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، والديني. وهذه النظرة الضيقة، تعني ان مواطني السودان النيلي، كلهم، قد همشوا سكان دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق. وأن عمال عطبرة ومزارعي الجزيرة ورعاة النيل الأبيض قد همشوا زعماء قبائل دارفور الذين يملكون الالاف الماشية ومئات مخمسات (أفدنة) الأراضي المطرية، ومشاريع زراعة آلية تتراوح في المساحة ما بين ألف وألف وخمسمائة فدان للمشروع. وبدون الدخول في التفاصيل، قتل مزارعو جودة لمطالبتهم بنصيبهم الناتج عن كدحهم، كادر ويكفيلد حدد احتياجات عمال عطبرة بأقل من حد الكفاف، مزارعو الجزيرة انتزعت أراضيهم، تحت ادعاء الايجار الذي هو ملاليم فقط. هل يشكل ذلك تهميشا في منظور الحركات الجغرافي؟

أزمة فهم قادة الحركات للتهميش ناتج عن عدم معرفتهم بالاقتصاد السياسي للسودان.  فالاستعمار البريطاني، عندما غزا السودان، أنشا مشاريع ضخمة في المناطق النيلية، لخصوبة تربتها، ووفرة المياه، وقربها من الميناء، وذلك لإنتاج القطن الذي تحتاجه مصانعه. واستمرت الفئات التي حكمت السودان، عسكرية ومدنية، في نفس المنهج الاقتصادي، مما عمق من التطور غير المتكافئ لأقاليم السودان المختلفة. هذا المنهج لم يتم باختيار مواطنو السودان النيلي، بل فرض عليهم. اما الحديث المكرر عن الخدمات، فقد أنشئت بمال المزارعين، عن طريق خصم 2 % من الحساب المشترك لصالح الخدمات الاجتماعية. كما أدى وعي أبناء الجزيرة لإنشاء المئات من المدارس بالعون الذاتي.

اتفاق جوبا يتكون من 266 صفحة وعشرة أبواب. سيركز هذا المقال على ما يخص دارفور، لان الحركات الدارفورية، بممارساتها وتحالفاتها الحالية، تشكل خطرا حقيقيا على الانتقال الديمقراطي.  لن أكتب عن المسارات لان شعبنا بحسه الديمقراطي اكتشفت انها ولا وزن او قيمة لها وسط سكان تلك المناطق، بل رفضتها الجماهير التي تدعي التحدث باسمها.

ورد ضرورة تحقيق السلام في الوثيقة الدستورية، وتحدد له ستة أشهر لإنجازه. وظهرت، فور إزاحة البشير، روح جديدة. فالحركات، التي هي طرف اصيل في الثورة، لم تحضر لتشارك في تأسيس النظام الجديد. ثم ما تم في اديس ابابا من أتفاق، عطلته بعض مراكز القوي في قحت. وما قدر له بستة أشهر تواصل حتى أكمل العام. ويمكن تلخيص المفاوضات فيما يلي: حركات نالت تدريبا نظريا في المفاوضات، واكتسبت خبرة عملية خلال مفاوضاتها مع نظام البشير، ودخلت للمفاوضة بتلك الخلفية، وبنية مسبقة على تحقيق أكبر قدر من المكاسب. والغريب انها أصرت على شكل التفاوض كأنما تفاوض عدو، فرغت من الحرب معه. المكون العسكري اختطف المفاوضات، ودخلها بمخطط ان يكسب الحركات، لمساعدته في مشروع التآمر على الانتقال الديمقراطي، ودعا الحركات ان تمسك القلم وتكتب ما تريد. أما المكون المدني فقد أثبت ضعفا بينا، ودخل المفاوضات بنية اكمالها، بأي شكل، لتحسب له مكسبا في مفاوضاته الدولية.

جاء في ديباجة الاتفاق إشادات بدور الحركات المسلحة في النضال ضد نظام الإنقاذ، وكذلك دور الشباب والنساء، وما سمي بانحياز القوات المسلحة. ونلاحظ تجاهل ذكر دور الأحزاب أو منظمات المجتمع المدني أو تجمع المهنيين. ولا اعتقد ان ذلك غير مقصود، لان الاتفاق استغرق عاما لإنجازه، وتمت مراجعة أي كلمة فيه.

استثنت الاتفاقية قادة الحركات من المادة (20) في الوثيقة الدستورية حول الترشيح في الانتخابات القادمة. كما تم استثناء الحركات من شروط التسجيل كأحزاب سياسية، والشرط الوحيد هو ان تكون موقعة على اتفاق جوبا. كما منحت الاتفاقية الحركات الموقعة 25% من مقاعد مجلس الوزراء و25% من المجلس التشريعي. إضافة لحقها في المشاركة في إدارة العاصمة. وهذه النسب محتكرة لقيادة الحركات فقط. عندما طالب حمدوك بان يشكل وزارة من الكفاءات، رفض قادة الحركات التنازل عن مناصبهم، رغم انه طالبهم بالإتيان بكفاءات من قواعدهم. والأغرب ان الحركات طالبت بتلك النسب باعتبار حجم سكان دارفور، لكن، في الممارسة العملية، احتكرت تلك المناصب لنفسها وليس لأبناء دارفور. كما اتفق المفاوضون على ان من مهام مفوضية اصلاح الخدمة المدنية مراجعة التعيينات التي تمت، منذ تكوين الحكومة الانتقالية. وران صمت القبور في الإشارة للتعيينات التي تمت خلال عهد الاسلامويين.

اتفق الطرفان على استيعاب أبناء دارفور في الوظائف العليا والمتوسطة (وكلاء وزارات، مدراء إدارات عامة، سفراء، مدراء شركات ...الخ) بنسبة 20 – 25 % وبقرار سياسي. مما يعني الغاء حاجز الكفاءة. ويتم اعداد قوائم من الحركات لتصدر الحكومة قرارا سياسيا بقبولها. والغريب حقا، ان المؤتمر، الذي انعقد لعام كامل، لم يهتم بحصر أبناء دارفور في الوظائف العامة، ليعرف عددهم. كما تقرر اعفاء أبناء دارفور من الرسوم الدراسية لمدة عشرة سنوات. وان تخصص 25 % من مقاعد الكليات العلمية القومية لأبناء دارفور بالإضافة لخمسين في المئة من كل مقاعد الجامعات الدارفورية.

قرر الاتفاق تصنيف السودان كدولة فدرالية، قبل انعقاد مؤتمر الحكم (مقرر له 6 أشهر بعد التوقيع). كما تقرر أن يعين حاكم دارفور في الشهر السابع، حتى إذا لم ينعقد مؤتمر الحكم. وإذا انعقد مؤتمر الحكم، فانه لا يحق له تغيير سلطات حاكم دارفور، ولكن يمكنه إضافة مزيدا من الصلاحيات لها. أما المؤتمر الدستوري المقترح، والمتفق على قيامه، سيجد ان المسالة محسومة مسبقا.

تضمن الاتفاق إنشاء مفوضية الرحل، لتحقيق عدة اهداف للرحل والرعاة، وهذا جيد ومستحق لهم. ولكن تم منحها الحق في تحديد المسارات، بدون اشراك المزارعين، وهي قضية شائكة تهم الرحل والمزارعين، وتتعلق بحياة المزارعين وكانت أحد الأسباب التاريخية للصدامات القبلية. والأسوأ لم يتقرر إنشاء مفوضية مشابهة للمزارعين، وانما تقرر إنشاء مفوضية للأراضي، مختصة، أساسا، بقضية أراضي النازحين. مفوضية الأراضي رغم ضرورتها لحسم هذه القضية الهامة، الا انها تحوي بندا يثير الغضب. فهي ستعمل على ارجاع النازحين لأراضيهم، وإذا تعذر ذلك يتم منحهم تعويض. وهكذا يتم معاقبة النازحين مرتين: الاولي بنزع أراضيهم واسكان عرب النيجر وتشاد وافريقيا الوسطي بها، والثانية تعويضهم إذا استحال ارجاعهم لأراضيهم. وفي ظل الزحف الصحراوي، وندرة الأراضي غير المأهولة، سيؤدي ذلك لإرغام البسطاء على البقاء في المعسكرات أو الهجرة للمدن، لكسب عيشهم كعمالة رخيصة. وها هي أكثر من 18 شهرا تمر على توقيع الاتفاقية، ولم تحل مشكلة نازحي المعسكرات داخل وخارج السودان.

تشكل الترتيبات الأمنية، كعب أخيل الاتفاقية. فقيادة الجيش، كما ظهر خلال الشهور الماضية، غير حريصة على تطبيقها. ولدينا عظة بتجربة مناوي مع حكومة البشير، ونفس القيادة التي مارست ذلك القمع، هي الموجودة الان في السلطة. ولكن لنفرض انها ستتم بحسن نية وسلاسة، وهو ما يكذبه الواقع المعاش. ونرى ان بها بعض البنود الغريبة. من ضمن تلك البنود بند يحدد ترك نسبة 15 % للمقاتلين بغير سلاح، لاستيعابهم، عند الادماج. (وهي أول مرة في التاريخ ان يكون هناك مقاتل من غير سلاح). واعتقد ان هذا البند مقصود لتضخيم العدد بإضافة مدنيين، وببيع الرتب في السوق. والبند الغريب الآخر ان هذه الحركان ستحتفظ بقواتها لمدة أربعين شهر، والانتخابات ستجرى بعد 39 شهر. سيضحك العالم على ديمقراطيتنا، التي تجري بمشاركة حركات مسلحة.

ستواجه عملية الترتيبات الأمنية عدة تحديات، منها، انعدام التمويل بعد الانقلاب الدموي، رفض بعض المجموعات لكل ما تم (صحوة موسي هلال مثالا)، تقرير الأمم المتحدة الذي كشف ان لدي الحركات مرتزقة في ليبيا، تدفع اجورهم الامارات، القتال الذي جري مؤخرا، وأدى لمقتل بعض قادة الحركات.

نختم بملاحظات عامة:

• هل يحق للبرلمان المنتخب حق مراجعة بنود اتفاقية جوبا أو عقد اتفاقية جديدة تشمل كل الحركات المسلحة؟

• هل ما جري في الشرق والشمال والاقليم الأوسط، يفرض ضرورة تغييرها، وحسب الاتفاقية لا يجوز تغيير أي بند فيها، هل سيكون ذلك سببا لإلغاء كل الاتفاق التي فشلت في تحقيق أي شيء، ما عدا المحاصصات؟

• كيف تتم الترتيبات الأمنية بدون اصلاح المؤسسة العسكرية والأمنية، وفي ظل الرفض المعلن لحميدتي حول دمج قوات الدعم السريع؟

• ما هي أسس تحديد ان تدفع الحكومة مبلغ 750 مليون دولار سنويا لمدة عشرة سنوات، في ظل الازمة المعروفة لبلادنا؟

• هل ستتعرض العدالة الانتقالية للممارسات الدموية للدعم السريع في دارفور؟

• لماذا الكلفتة وعدم الدقة في تحديد تواريخ سريعة لإنجاز مسائل مهمة، واتفاق جوبا نفسه استغرق ضعف الزمن المقدر له؟


siddigelzailaee@gmail.com

 

آراء