لجان المقاومة و(التغيير داخل التغيير)!!
عبدالله مكاوي
28 March, 2023
28 March, 2023
abdullahaliabdullah1424@gmail.com
بسم الله الرحمن الرحيم
مشاهدة ساحة الاعتصام كما درجت قناة سودان بكرة علي عرضها، تضع المشاهد امام اقسي تناقض مشاعر الم بامة السودان. فمن ناحية جسدت ساحة الاعتصام عمق التلاحم والتراحم والتضامن بين السودانيين. واحتمال لم تتح فرصة حقيقية للحديث عن الشخصية السودانية واللحمة الوطنية، كما اتاحتها ساحة الاعتصام تحققا وواقعا، علي ايدي فتية آمنوا بالثورة والشعب والوطن. وهو ما كان ينبئ بمستقبل باهر للدولة السودانية يعوض عذاب وفشل السنين منذ الاستقلال.
ولكن نفس هؤلاء الاشاويس، بنبلهم وبسالتهم وطموحاتهم في بناء وطن يليق بمواطنيه، شكلوا اكبر تحدٍ لاستدامة نظام الطغيان، الذي بني وجوده علي الاستبداد والفساد والاستباحة لموارد البلاد. لنشهد واحدة من اسوأ المجازر في تاريخ الانسانية، خسة ودموية وروح تشفٍ وانتقام، للخلاص من الثوار ومن ثورتهم ولاجهاض طموحاتهم واحلامهم.
والحال ان مجزرة بهذه القساوة والجبن والبجاحة السنمائية، لا تعكس دموية اجهزة النظام العسكرية والامنية والشرطية والمليشياوية فحسب، وانما قُصد بها ارسال رسالة سياسية فحواها كل من ينازعهم السلطة، فان مصيره الاغتيال والتنكيل دون رحمة.
وعموما ما حدث في ساحة الاعتصام يلخص، مطامع ومخاوف وممارسات واساليب حكم الاسلامويين منذ انقلابهم المشؤوم، وقبله بادخالهم العنف وتزوير الانتخابات الي ساحة الجامعات. وفي اعادة سيئة لانتاج نموذج الملالي الايراني، الذين سرقوا الثورة الايرانية علي نظام الشاه الدكتاتوري، وحولوها لحكم عضوض. بدأ برفع شعار الدين لشرعنة السلطة، لينتهي بانحلال الدين في السلطة، لتصبح السلطة هي المعبود الذي ينتج دينه ورموز عبادته وطقوسه. اي حدثت عملية ازاحة شاملة لمنظومة التدين التقليدية المتوارثة شعبيا، لتحل محلها ديانة دنيوية (رهن الاستعمال والتوظيف) تستخدم مستحدثات العصر، كآليات ولغة سيطرة، لتكريس الهيمنة المطلقة.
والحال كذلك، ما جعل نظام الانقاذ يختلف عن كل الانظمة الانقلابية التي تسلطت علي البلاد وانهكت شعبها، انه ذو سمة شمولية مغلقة ومتحجرة. احدثت تغيير شامل في طبيعة الدولة ووظيفتها والمجتمع واحواله. لنصبح فعليا امام دولة الكيزان في مجتمع مضطهد. حيث تم تجيير موارد الدولة لرفاه الكيزان، وتجنيد اجهزتها ومليشياتها لحمايتهم. وهذا التجنيد يقوم في الاساس علي استباحة حقوق ووجود المواطنين، وهذا ما يفسر ان لغة العنف والسلاح والارهاب والتعذيب والتخوين، هي اللغة المعتمدة للتعامل مع المعارضين.
ونخلص من هذا السرد المختصر، ان الكيزان وفي واجهتهم المكون العسكري ليس في وارد ترك السلطة، ولو غرقت البلاد في بركة دماء وعم الخراب وتشرد اهلها (البشير صرح بذلك، ونوي القيام به، قبل ان يغدر به رفقائه طمعا في سلطته).
وبما ان القوات المسلحة بعد ان تم ادلجتها اصبحت شريك الاسلامويين في كل المصالح والجرائم، فذلك ببساطة يعني ان ليس هنالك فرصة لانحيازها للثورة عن صدق او سماحها للتغيير الجذري ان يتم. ولكن المعضلة انه دون انحياز ذات المؤسسة العسكرية للثورة والتغيير الجذري فلن يكتب لهما النجاح! ولذا اصبح طريق الثورة والتغيير الثوري شبه مسدود. إلا اذا لجأنا للتحايل وخداع الذات، من شاكلة ان المشكلة في القيادات وليس المؤسسة العسكرية. مع العلم ان تسلط المؤسسة ( فساد العقيدة ونزعة الوصاية) هو ما انتج قيادات متسلطة. والمفارقة ان تسلط المؤسسة العسكرية جعلها قابلة بل طيعة للتسلط من قبل قادتها، وتاليا التحكم في المؤسسة العسكرية وتوظيفها لمصلحتهم الشخصية! اي ما يحكمها علاقات القوة وليس قوة العلاقات. وهذا بدوره افرز علاقة مسممة (تبعية) خاصة مع الجارة المصرية القوية، التي فرضت سطوتها علي القادة الانقلابيين العسكريين، لتتحول علاقة الاستعلاء/الدونية بين المصريين والسودانيين، من حالة نفسية غير صحية، الي صرح مادي دائم تجسد في قيام السد العالي. الذي لا يعني غمر اراض سودانية بالمياه وطمر آثارها وحضارتها، ولكن قبل ذلك طمرها بالاستبداد والجهل والفساد الذي تكرسه الانقلابات العسكرية. اي تكريس الحكم والاستعلاء العسكري والحرمان والدونية المدنية، كعائق مادي (سد عالي) يحول بين الدولة والنهوض والتقدم. وتاليا الخضوع للتسلط والاستغلال المصري.
وما يهم ان هذا يعني احد امرين، اما ان تتغير اساليب عمل واولويات لجان المقاومة، وبما فيها ايجاد مدخل للتواصل مع القوات المسلحة للوصول الي تسوية واقعية تراعي مطامحها ومخاوفها، وفي ذات الوقت تضع استراتيجيتها علي المدي الطويل لتغيير القوات المسلحة، بتحريرها من اوهامها التي تضخم دورها ومكانتها وتاليا امتيازاتها، ومن ثمَّ ينفسح المجال امام التغيير الآمن. واما ان تصر لجان المقاومة علي المقاومة بذات الاساليب، وبذات كلفتها العالية، من دون وضع اعتبار لا لموازين القوي ولا هشاشة الدولة ولا تردي الحالة الاقتصادية والامنية، والاسوأ من ذلك من دون بصيص امل لاخضاع القوات المسلحة (لانه من دون تغييرها لن يحدث تغيير كما سلف). اي بصريح العبارة المسألة ليست مسألة شجاعة او شعارات وطموحات نبيلة لا تنقص لجان المقاومة، ولكن في خصوم بقدر ما يملكون من السلاح والمال والقرار، تنقصهم المروءة والمسؤولية والحساسية المجتمعية. وبقدر ما يرفعون شعارات الدين ينتهكون حرمات الوطن والمواطنين. وبقدر ما يصرخون بالظلم والتهميش يضمرون الحقد والرغبة في الحاق الاذي والضرر بالآخرين.
اما المعضلة التالية اذا ما افترضنا ان الثورة نجحت في ازاحة قادة الانقلاب بطريقة ما. فستجد نفسها ليس امام ذات المشاكل (الاقتصادية) والقضايا (الاجتماعية) المعقدة، وتركة الانقاذ المهولة من الخراب الشامل واهدار الموارد وتحلل القيم والاعراف، التي تحتاج معالجتها لوضوح الرؤية والبرنامج والزمن وتضافر كافة الجهود. ولكنها كذلك امام تعدد جيوش وحركات مسلحة وانتشار سلاح يهدد سلامة الدولة، ومؤامرات فلول وقدرتهم علي التلاعب بالاحتياجات المناطقية والمشاعر الدينية والضائقة الاقتصادية! وهم سلفا يملكون موارد مالية مهولة ويتغلغلون في كل مفاصل جهاز الدولة، الذي لا يمكن حذفه والاتيان بجهاز دولة جديد بجرة قلم! اي باختصار وخصوصا بعد الانقلاب، نحن لسنا حيال دولة تحتاج للبناء او سياسة تحتاج للحكمة او سلطة للترشيد، ولكننا بالاحري حيال كارثة نحتاج لايقافها ومعالجة تداعياتها راهنا. والحال كذلك، ليس هنالك خطر اكبر علي الثورة والثوار من تمسكهم بذات الوسائل والشعارات، رغم تبدل الاحوال والظروف والاولويات. والبسبب في ذلك غالبا يرجع لاستسهال تحدي الخصوم وطبيعة التعقيدات وتضخيم القدرات الذاتية.
وملخص هذه الجزئية، ليس هنالك تغيير يمكن ان يحدث دون مشروع طويل المدي، يستصحب تاريخ القوات المسلحة وعلاقتها بالسلطة، وما وفرته لها من امتيازات علي مستوي الحضور والتاثير في فضاء الدولة. اي دون شراء رضاءها لا يمكن ان نأمن شرها. ولذلك اكثر ما استغرب من الذين يعتبرون الاتفاق الاطاري هو شرعنة لقادة هذه المؤسسة او لوجود المؤسسة في السلطة! في حين انهم عندما يرغبون في السلطة ياخذونها كاملة ودون استئذان من احد، ببساطة لانهم الحامون لها (اي الكلفة لا تتعدي خيانة الامانة من غير الامناء)! وهم عمليا الآن يسيطرون عليها، وقادرون علي السيطرة عليها في كل زمان! وصحيح هم فاشلون في ادارة الدولة ولكن هذا لا يمنع ان طمعهم في السلطة لا حد ولا علاج له، وهو ما يمنع تعلمهم من الاخطاء وتكرار اعادتها كما هي. والحال كذلك، دون الوصول لمرحلة النضج الديمقراطي وترسيخ ثقافة ومؤسسات الخدمة والدولة المدنية، ليس هنالك ما يكبح جماح هذه القوات من السطو علي السلطة او فرض وصايتها علي المدنين. وبالطبع الوصول لهكذا مرحلة ليس بالامر الساهل، لدول اصلا صنيعة للاستعمار وثقافته ومخططاته. اي القوات المسلحة لم تتكون بطريقة طبيعية في دولة طبيعية، حتي تقوم بادورها الاحترافية. اي لم تولد دولتنا كاستجابة لتحديات تاريخية تلاءم تكوينها، كما حدث في بيئات منشأ الدولة الحديثة. واحتمال هذا واحد ليس من التحديات العديدة لبناء الدولة الحديثة في بيئات مختلفة، كمنطقتنا العربية والافريقية فقط، ولكنه شكل العامل الاساس في اعاقة بناءها.
ولكن اين تكمن الخطورة في تردي العلاقة مع العسكر؟ تكمن في فقدان الثقة وحالة الاستقطاب التي تنشأ بين القوي السياسية والثورية ومنظمات المجتمع المدني وبين القوات المسلحة، كما حدث بعد الانقلاب. وعندها يلجأ العسكر لشراء حاضنة تبرر انقلابهم ودول تعترف بشرعيتهم. لينفسح المجال واسعا لاستغلال العسكر من قبل الدول الطامعة لتمرير مصالحها عبر علاقة الابتزاز للعسكر الانقلابيين! وكذلك يستثمر الانتهازيون والتافهون في تملق العسكر ودعهم، لتمرير مصالحهم الشخصية علي حساب تردي الخدمات وقهر الشعب! كما يجد اعداء الثورة والتغيير ضالتهم في تزيين الاتقلاب للعسكر، لقطع الطريق علي قيام الدولة المدنية وتحقيق التحول الديمقراطي، الذي يفسح المجال امام الجميع للاستمتاع بخدمات الدولة وخضوع الحكام لارادة الشعب.
لكل ذلك، علي مستوي المشاعر يستحق العسكر والمؤسسة العسكرية الاحتقار، لما سببوه من جرائم في حق المواطنين ودمار في حق الدولة. ولكن من مصلحة التغيير ومشروع بناء الدولة المدنية وانجاز التحول الديمقراطي، وهو في طور المهد (بقدر ما هو سهل الاجهاض، بقدر حاجته للرعاية والحماية) عدم خسران القوات المسلحة، و(عصر ليمونة) لفتح قنوات التواصل معها، والسعي لايجاد منطقة وسط للتعامل معها، وحفظ مكان لها سواء في السلطة او الاقتصاد (صعوبة الفطام). وهذا ما يسعي الاتفاق الاطاري له. ولكن ما يجعل الاتفاق الاطاري نهب للمزايدة من جانب قوي الحرية والتغيير والتوسع في وعوده، والتغاضي عن علاته. هو الرغبة في تسويقه، والاهم لشراء رضا شباب الثورة الرافض للاتفاق. وهو رضا يستحق كل الجهود الصادقة لالحاقهم بالاتفاق، ليس بوصفه حل مرضٍ، ولكن بوصفه ادراك للبلاد من كارثة الانقلاب باقل كلفة، وكذلك ابعاد احتمالات الانزلاق لما يحمد عقباه، خاصة بعد وصول الانشقاق والاختلاف داخل القوي الحاملة للسلاح (صراع السلطة الصفري بين الجنرالات)! وكذلك لتخفيف الضائقة المعيشية التي اصبحت لا تحتمل، وهي بدورها قد تقود لثورة جياع (فوضي) لا تحمد تداعياتها!
ومؤكد ان لجان المقاومة لا يمكن لها قبول الاتفاق الاطاري، كتواصل مع العسكر وضمان للحفاظ علي جزء من مصالحهم، من دون حدوث تغيير في طريقة تعاطي لجان المقاومة مع المستجدات وقبولها تغيير وسائلها واولياتها. اي دون قدرة لجان المقاومة علي ان تتغيير لمواكبة المستجدات المتغيرة، ستعيد انتاج ذات اخطاء الاحزاب والنخب السياسية، وتاليا ضياع اكبر امل ومشاريع وقادة وافكار واساليب عمل جديدة، تقود منظومة التغيير المنشود.
ومن اكبر عيوب النخب والاحزاب السياسية التي اوردتنا الدوران في حلقة الفشل، هي تركيزها علي السياسة حصرا، والاسوا من ذلك تضييق السياسة لتختص بالسلطة فقط. وعليه امام لجان المقاومة فرصة توسيع دائرة الاهتمام والرؤية للتغيير، لتندرج السياسة في مجري ضمن التيار العريض للتغيير (وليس ابتلاعه كما يبتلع العسكر الدولة). وهذا الانحسار لدور السياسة لا يعني تهميشها بل علي العكس يعني تجويدها بعد حصرها في نطاق محدد مخصص لها.
اي التغيير يستحسن ان يستصحب كل انشطة المجتمع من القاعدة، وذلك ليس باسلوب القيادة النخبوي الاستعلائي الذي يصادر خياراتها و(غالبا يدرجها لخدمة مشروعه السياسي)، ولكن بمشاركتهم همومهم واشراكهم في علاجها، والقيام بواجب التبصير بالحقوق والواجبات بطريقة تتلاءم وامزجتهم وقدراتهم والاستفادة من خبراتهم واحترام مشاعرهم (عادتهم وتقاليدهم وطريقة تدينهم) والعمل علي تغيير السلبي منها بهدوء واقناع. اي التاثير علي طريقة التعليم المتبادل والاحساس المشترك.
في هذا السياق الاتفاق الاطاري الذي لا يتعدي كونه اتفاق مبادئ ووعود والتزامات لا تتوافر ثقة في العسكر للايفاء بها. وهذا غير تهديده من قبل اعداء الثورة والتغيير (الفلول تحالف الموز الانتهازيون والتافهون والفاسدون) الذين يستثمرون في الاستبداد ويعتاشون علي الفساد. وهو ما يجعله في حاجة ماسة للدعم من قوي الثورة الحقيقية، اذا ما تعاملت معه بوعي سياسي (كخطوة في مشوار الالف ميل) لتوسيع انشطتها وزيادة خبراتها في العمل الاداري والسياسي والمجتمعي، ولحسن الحظ الاتفاق يتيح لها كل ذلك.
وصحيح ان مطالب قوي الثورة في العدالة ومحاسبة قادة الانقلاب وانسحاب العسكر من المشهد السياسي والاقتصادي وغيرها من المطالب الموضوعية حق مشروع. ولكن المؤكد ان ليس هنالك امكانية لتحقيق هذه المطالب راهنا، مع ضمان بقاء الدولة علي حالها او عدم تعريض بقية المواطنين لمزيد من الاخطار الاقتصادية والامنية. ولكن ليس هنالك ما يمنع تحقيقها مستقبلا اذا ما احسنا التعامل مع الفرص المتاحة كالاتفاق الاطاري. خاصة اذا ما انصب تركيزنا علي بناء المؤسسات وتحسين الخدمات وتفادي التصادم مع العسكر او استفزازهم.
وصحيح ايضا، ان الكثيرين قد يرون مثل هذا الحديث تنازل عن شعارات الثورة ومجاملة للعسكر وتماهي مع خط الحرية والتغيير. ولكن اي تتبع لمسار الثورة يؤكد شئ واحد، ان نجاح الثورة بمنظورها النظري اي استبدال منظومة قائمة بمنظومة مغايرة، علي ارض الواقع، امر يصعب تحقيقه. وحتي اذا امكن تحقيقه في مكان ما ولتجربة ما، فهذا ما لا ينطبق علي منظومة متطرفة في الاستبداد والفساد كالانقاذ (مندغمة في الدولة) او علي ما احدثته من دمار يصعب علاجه او تغييره بسهولة (مهمة مركبة اصلاح وبناء). وهذا بدوره يقول شئ واحد، ان العلة ليست في الثورة او الثوار الذين قدموا ولم يستبقوا شيئا، ولكن في ان كل معينات انجاز شعارات الثورة تكاد تكون غير متوافرة، وهو ما جعل فعل الثورة يحاكي نطح الصخر، بكل ما يحدثه من جروح ويعكسه من روح اصرار وعزيمة.
وهذا يرجعنا مرة اخري للاتفاق الاطاري، الذي يمنح النضال الثوري جدوي اكبر، طالما اندرج في مشروع واضح وقابل للتطبيق. اي الدفاع عن مكاسب الاتفاق وترسيخها، ومن ثمَّ البناء عليها، للارتقاء لمرحلة اعلي وكسب اراضٍ جديدة في مشروع التغيير. وهكذا يبني التغيير علي ارضية صلبة، وليس مكاسب سريعة وعاجلة تستفز العسكر وتستنفر اعداء الثورة، ومن ثمَّ اعادة الانقلابات والدوران في الحلقة الشريرة.
وعموما حتي نتخلص من اعادة ذات الاخطاء، واذا قُدر للحكومة التشكل ونجت من تربص وغدر البرهان، ان تلتزم مكوناتها بما تم التوافق عليه، وتقدم نموذج محترم يليق بتضحيات الثوار، وذلك بمراعاة المصالح العليا للبلاد. وفي ذات الوقت نخدم انفسنا وبلادنا والانتقال، اذا ما خفضنا سقف التوقعات، ولم نكلف الحكومة فوق طاقتها، او نكثر من الاضرابات المطلبية والمطالب التعجيزية. حتي لا نفسح المجال للمتربصين لاسقاطها. وكذلك يخدم الثوار انفسهم والثورة اذا ما اشتركوا في حكومة الفترة القادمة لاستئناف الانتقال، او اقلاه (لا يطبزوا عينهم باصبعهم) بمساعدة اعداء الانتقال علي اسقاط الحكومة، لان ما يعقبها ليس نظام ديمقراطي كما يتوهمون، ولكن انقلاب اسوا واضل سبيلا من هذا الانقلاب الكارثي الذي اوردنا المهالك!
واخيرا
نسال الله الرحمة والمغفرة للشهداء وعاجل الشفاء للمصابين، وعودة ميمونة للغائبين. ويا لها من محنة محزنة يعيشها السودانيون، كونه لمجرد المطالبة بحقوق انسانية يتعرضون للموت والاصابات وغيرها من الجرائم التي يندي لها الجبين. ويكفي عنوان للمحنة، ان الغادر البرهان والجاهل حميدتي، اصبحا اقوي شخصيتين في البلاد، ويتحكمان في مصيرها! وهو ما يبدو محصلة منطقية لنظام عصابات حكم بقوة البطش والكذب والخداع. اي الانقاذ ليست اكثر من نظام سادي يستلذ بتعذيب شعبه، وهو عذاب وعقاب وذل جماعي لا حدود له!
ولكن عزاءنا ان نصبر علي بصيرة (فوق راي) او كما عبر حميد في الضو وجهجهة التساب (نحن وقدرنا قدر قدر/نصبر صبر/نصبر علي البوخ الغريب/ نتحمل اصوات القعو/ لامن نلاقي الهمبريب/والليل غناوي نولعو).
وتحية رمضانية خاصة، للاستاذ شوقي عبد العظيم الذي يؤدب حلفاء الانقلاب قليلي الحياء علي قناة الجزيرة مباشر. ودمتم في رعاية الله.
////////////////////////
بسم الله الرحمن الرحيم
مشاهدة ساحة الاعتصام كما درجت قناة سودان بكرة علي عرضها، تضع المشاهد امام اقسي تناقض مشاعر الم بامة السودان. فمن ناحية جسدت ساحة الاعتصام عمق التلاحم والتراحم والتضامن بين السودانيين. واحتمال لم تتح فرصة حقيقية للحديث عن الشخصية السودانية واللحمة الوطنية، كما اتاحتها ساحة الاعتصام تحققا وواقعا، علي ايدي فتية آمنوا بالثورة والشعب والوطن. وهو ما كان ينبئ بمستقبل باهر للدولة السودانية يعوض عذاب وفشل السنين منذ الاستقلال.
ولكن نفس هؤلاء الاشاويس، بنبلهم وبسالتهم وطموحاتهم في بناء وطن يليق بمواطنيه، شكلوا اكبر تحدٍ لاستدامة نظام الطغيان، الذي بني وجوده علي الاستبداد والفساد والاستباحة لموارد البلاد. لنشهد واحدة من اسوأ المجازر في تاريخ الانسانية، خسة ودموية وروح تشفٍ وانتقام، للخلاص من الثوار ومن ثورتهم ولاجهاض طموحاتهم واحلامهم.
والحال ان مجزرة بهذه القساوة والجبن والبجاحة السنمائية، لا تعكس دموية اجهزة النظام العسكرية والامنية والشرطية والمليشياوية فحسب، وانما قُصد بها ارسال رسالة سياسية فحواها كل من ينازعهم السلطة، فان مصيره الاغتيال والتنكيل دون رحمة.
وعموما ما حدث في ساحة الاعتصام يلخص، مطامع ومخاوف وممارسات واساليب حكم الاسلامويين منذ انقلابهم المشؤوم، وقبله بادخالهم العنف وتزوير الانتخابات الي ساحة الجامعات. وفي اعادة سيئة لانتاج نموذج الملالي الايراني، الذين سرقوا الثورة الايرانية علي نظام الشاه الدكتاتوري، وحولوها لحكم عضوض. بدأ برفع شعار الدين لشرعنة السلطة، لينتهي بانحلال الدين في السلطة، لتصبح السلطة هي المعبود الذي ينتج دينه ورموز عبادته وطقوسه. اي حدثت عملية ازاحة شاملة لمنظومة التدين التقليدية المتوارثة شعبيا، لتحل محلها ديانة دنيوية (رهن الاستعمال والتوظيف) تستخدم مستحدثات العصر، كآليات ولغة سيطرة، لتكريس الهيمنة المطلقة.
والحال كذلك، ما جعل نظام الانقاذ يختلف عن كل الانظمة الانقلابية التي تسلطت علي البلاد وانهكت شعبها، انه ذو سمة شمولية مغلقة ومتحجرة. احدثت تغيير شامل في طبيعة الدولة ووظيفتها والمجتمع واحواله. لنصبح فعليا امام دولة الكيزان في مجتمع مضطهد. حيث تم تجيير موارد الدولة لرفاه الكيزان، وتجنيد اجهزتها ومليشياتها لحمايتهم. وهذا التجنيد يقوم في الاساس علي استباحة حقوق ووجود المواطنين، وهذا ما يفسر ان لغة العنف والسلاح والارهاب والتعذيب والتخوين، هي اللغة المعتمدة للتعامل مع المعارضين.
ونخلص من هذا السرد المختصر، ان الكيزان وفي واجهتهم المكون العسكري ليس في وارد ترك السلطة، ولو غرقت البلاد في بركة دماء وعم الخراب وتشرد اهلها (البشير صرح بذلك، ونوي القيام به، قبل ان يغدر به رفقائه طمعا في سلطته).
وبما ان القوات المسلحة بعد ان تم ادلجتها اصبحت شريك الاسلامويين في كل المصالح والجرائم، فذلك ببساطة يعني ان ليس هنالك فرصة لانحيازها للثورة عن صدق او سماحها للتغيير الجذري ان يتم. ولكن المعضلة انه دون انحياز ذات المؤسسة العسكرية للثورة والتغيير الجذري فلن يكتب لهما النجاح! ولذا اصبح طريق الثورة والتغيير الثوري شبه مسدود. إلا اذا لجأنا للتحايل وخداع الذات، من شاكلة ان المشكلة في القيادات وليس المؤسسة العسكرية. مع العلم ان تسلط المؤسسة ( فساد العقيدة ونزعة الوصاية) هو ما انتج قيادات متسلطة. والمفارقة ان تسلط المؤسسة العسكرية جعلها قابلة بل طيعة للتسلط من قبل قادتها، وتاليا التحكم في المؤسسة العسكرية وتوظيفها لمصلحتهم الشخصية! اي ما يحكمها علاقات القوة وليس قوة العلاقات. وهذا بدوره افرز علاقة مسممة (تبعية) خاصة مع الجارة المصرية القوية، التي فرضت سطوتها علي القادة الانقلابيين العسكريين، لتتحول علاقة الاستعلاء/الدونية بين المصريين والسودانيين، من حالة نفسية غير صحية، الي صرح مادي دائم تجسد في قيام السد العالي. الذي لا يعني غمر اراض سودانية بالمياه وطمر آثارها وحضارتها، ولكن قبل ذلك طمرها بالاستبداد والجهل والفساد الذي تكرسه الانقلابات العسكرية. اي تكريس الحكم والاستعلاء العسكري والحرمان والدونية المدنية، كعائق مادي (سد عالي) يحول بين الدولة والنهوض والتقدم. وتاليا الخضوع للتسلط والاستغلال المصري.
وما يهم ان هذا يعني احد امرين، اما ان تتغير اساليب عمل واولويات لجان المقاومة، وبما فيها ايجاد مدخل للتواصل مع القوات المسلحة للوصول الي تسوية واقعية تراعي مطامحها ومخاوفها، وفي ذات الوقت تضع استراتيجيتها علي المدي الطويل لتغيير القوات المسلحة، بتحريرها من اوهامها التي تضخم دورها ومكانتها وتاليا امتيازاتها، ومن ثمَّ ينفسح المجال امام التغيير الآمن. واما ان تصر لجان المقاومة علي المقاومة بذات الاساليب، وبذات كلفتها العالية، من دون وضع اعتبار لا لموازين القوي ولا هشاشة الدولة ولا تردي الحالة الاقتصادية والامنية، والاسوأ من ذلك من دون بصيص امل لاخضاع القوات المسلحة (لانه من دون تغييرها لن يحدث تغيير كما سلف). اي بصريح العبارة المسألة ليست مسألة شجاعة او شعارات وطموحات نبيلة لا تنقص لجان المقاومة، ولكن في خصوم بقدر ما يملكون من السلاح والمال والقرار، تنقصهم المروءة والمسؤولية والحساسية المجتمعية. وبقدر ما يرفعون شعارات الدين ينتهكون حرمات الوطن والمواطنين. وبقدر ما يصرخون بالظلم والتهميش يضمرون الحقد والرغبة في الحاق الاذي والضرر بالآخرين.
اما المعضلة التالية اذا ما افترضنا ان الثورة نجحت في ازاحة قادة الانقلاب بطريقة ما. فستجد نفسها ليس امام ذات المشاكل (الاقتصادية) والقضايا (الاجتماعية) المعقدة، وتركة الانقاذ المهولة من الخراب الشامل واهدار الموارد وتحلل القيم والاعراف، التي تحتاج معالجتها لوضوح الرؤية والبرنامج والزمن وتضافر كافة الجهود. ولكنها كذلك امام تعدد جيوش وحركات مسلحة وانتشار سلاح يهدد سلامة الدولة، ومؤامرات فلول وقدرتهم علي التلاعب بالاحتياجات المناطقية والمشاعر الدينية والضائقة الاقتصادية! وهم سلفا يملكون موارد مالية مهولة ويتغلغلون في كل مفاصل جهاز الدولة، الذي لا يمكن حذفه والاتيان بجهاز دولة جديد بجرة قلم! اي باختصار وخصوصا بعد الانقلاب، نحن لسنا حيال دولة تحتاج للبناء او سياسة تحتاج للحكمة او سلطة للترشيد، ولكننا بالاحري حيال كارثة نحتاج لايقافها ومعالجة تداعياتها راهنا. والحال كذلك، ليس هنالك خطر اكبر علي الثورة والثوار من تمسكهم بذات الوسائل والشعارات، رغم تبدل الاحوال والظروف والاولويات. والبسبب في ذلك غالبا يرجع لاستسهال تحدي الخصوم وطبيعة التعقيدات وتضخيم القدرات الذاتية.
وملخص هذه الجزئية، ليس هنالك تغيير يمكن ان يحدث دون مشروع طويل المدي، يستصحب تاريخ القوات المسلحة وعلاقتها بالسلطة، وما وفرته لها من امتيازات علي مستوي الحضور والتاثير في فضاء الدولة. اي دون شراء رضاءها لا يمكن ان نأمن شرها. ولذلك اكثر ما استغرب من الذين يعتبرون الاتفاق الاطاري هو شرعنة لقادة هذه المؤسسة او لوجود المؤسسة في السلطة! في حين انهم عندما يرغبون في السلطة ياخذونها كاملة ودون استئذان من احد، ببساطة لانهم الحامون لها (اي الكلفة لا تتعدي خيانة الامانة من غير الامناء)! وهم عمليا الآن يسيطرون عليها، وقادرون علي السيطرة عليها في كل زمان! وصحيح هم فاشلون في ادارة الدولة ولكن هذا لا يمنع ان طمعهم في السلطة لا حد ولا علاج له، وهو ما يمنع تعلمهم من الاخطاء وتكرار اعادتها كما هي. والحال كذلك، دون الوصول لمرحلة النضج الديمقراطي وترسيخ ثقافة ومؤسسات الخدمة والدولة المدنية، ليس هنالك ما يكبح جماح هذه القوات من السطو علي السلطة او فرض وصايتها علي المدنين. وبالطبع الوصول لهكذا مرحلة ليس بالامر الساهل، لدول اصلا صنيعة للاستعمار وثقافته ومخططاته. اي القوات المسلحة لم تتكون بطريقة طبيعية في دولة طبيعية، حتي تقوم بادورها الاحترافية. اي لم تولد دولتنا كاستجابة لتحديات تاريخية تلاءم تكوينها، كما حدث في بيئات منشأ الدولة الحديثة. واحتمال هذا واحد ليس من التحديات العديدة لبناء الدولة الحديثة في بيئات مختلفة، كمنطقتنا العربية والافريقية فقط، ولكنه شكل العامل الاساس في اعاقة بناءها.
ولكن اين تكمن الخطورة في تردي العلاقة مع العسكر؟ تكمن في فقدان الثقة وحالة الاستقطاب التي تنشأ بين القوي السياسية والثورية ومنظمات المجتمع المدني وبين القوات المسلحة، كما حدث بعد الانقلاب. وعندها يلجأ العسكر لشراء حاضنة تبرر انقلابهم ودول تعترف بشرعيتهم. لينفسح المجال واسعا لاستغلال العسكر من قبل الدول الطامعة لتمرير مصالحها عبر علاقة الابتزاز للعسكر الانقلابيين! وكذلك يستثمر الانتهازيون والتافهون في تملق العسكر ودعهم، لتمرير مصالحهم الشخصية علي حساب تردي الخدمات وقهر الشعب! كما يجد اعداء الثورة والتغيير ضالتهم في تزيين الاتقلاب للعسكر، لقطع الطريق علي قيام الدولة المدنية وتحقيق التحول الديمقراطي، الذي يفسح المجال امام الجميع للاستمتاع بخدمات الدولة وخضوع الحكام لارادة الشعب.
لكل ذلك، علي مستوي المشاعر يستحق العسكر والمؤسسة العسكرية الاحتقار، لما سببوه من جرائم في حق المواطنين ودمار في حق الدولة. ولكن من مصلحة التغيير ومشروع بناء الدولة المدنية وانجاز التحول الديمقراطي، وهو في طور المهد (بقدر ما هو سهل الاجهاض، بقدر حاجته للرعاية والحماية) عدم خسران القوات المسلحة، و(عصر ليمونة) لفتح قنوات التواصل معها، والسعي لايجاد منطقة وسط للتعامل معها، وحفظ مكان لها سواء في السلطة او الاقتصاد (صعوبة الفطام). وهذا ما يسعي الاتفاق الاطاري له. ولكن ما يجعل الاتفاق الاطاري نهب للمزايدة من جانب قوي الحرية والتغيير والتوسع في وعوده، والتغاضي عن علاته. هو الرغبة في تسويقه، والاهم لشراء رضا شباب الثورة الرافض للاتفاق. وهو رضا يستحق كل الجهود الصادقة لالحاقهم بالاتفاق، ليس بوصفه حل مرضٍ، ولكن بوصفه ادراك للبلاد من كارثة الانقلاب باقل كلفة، وكذلك ابعاد احتمالات الانزلاق لما يحمد عقباه، خاصة بعد وصول الانشقاق والاختلاف داخل القوي الحاملة للسلاح (صراع السلطة الصفري بين الجنرالات)! وكذلك لتخفيف الضائقة المعيشية التي اصبحت لا تحتمل، وهي بدورها قد تقود لثورة جياع (فوضي) لا تحمد تداعياتها!
ومؤكد ان لجان المقاومة لا يمكن لها قبول الاتفاق الاطاري، كتواصل مع العسكر وضمان للحفاظ علي جزء من مصالحهم، من دون حدوث تغيير في طريقة تعاطي لجان المقاومة مع المستجدات وقبولها تغيير وسائلها واولياتها. اي دون قدرة لجان المقاومة علي ان تتغيير لمواكبة المستجدات المتغيرة، ستعيد انتاج ذات اخطاء الاحزاب والنخب السياسية، وتاليا ضياع اكبر امل ومشاريع وقادة وافكار واساليب عمل جديدة، تقود منظومة التغيير المنشود.
ومن اكبر عيوب النخب والاحزاب السياسية التي اوردتنا الدوران في حلقة الفشل، هي تركيزها علي السياسة حصرا، والاسوا من ذلك تضييق السياسة لتختص بالسلطة فقط. وعليه امام لجان المقاومة فرصة توسيع دائرة الاهتمام والرؤية للتغيير، لتندرج السياسة في مجري ضمن التيار العريض للتغيير (وليس ابتلاعه كما يبتلع العسكر الدولة). وهذا الانحسار لدور السياسة لا يعني تهميشها بل علي العكس يعني تجويدها بعد حصرها في نطاق محدد مخصص لها.
اي التغيير يستحسن ان يستصحب كل انشطة المجتمع من القاعدة، وذلك ليس باسلوب القيادة النخبوي الاستعلائي الذي يصادر خياراتها و(غالبا يدرجها لخدمة مشروعه السياسي)، ولكن بمشاركتهم همومهم واشراكهم في علاجها، والقيام بواجب التبصير بالحقوق والواجبات بطريقة تتلاءم وامزجتهم وقدراتهم والاستفادة من خبراتهم واحترام مشاعرهم (عادتهم وتقاليدهم وطريقة تدينهم) والعمل علي تغيير السلبي منها بهدوء واقناع. اي التاثير علي طريقة التعليم المتبادل والاحساس المشترك.
في هذا السياق الاتفاق الاطاري الذي لا يتعدي كونه اتفاق مبادئ ووعود والتزامات لا تتوافر ثقة في العسكر للايفاء بها. وهذا غير تهديده من قبل اعداء الثورة والتغيير (الفلول تحالف الموز الانتهازيون والتافهون والفاسدون) الذين يستثمرون في الاستبداد ويعتاشون علي الفساد. وهو ما يجعله في حاجة ماسة للدعم من قوي الثورة الحقيقية، اذا ما تعاملت معه بوعي سياسي (كخطوة في مشوار الالف ميل) لتوسيع انشطتها وزيادة خبراتها في العمل الاداري والسياسي والمجتمعي، ولحسن الحظ الاتفاق يتيح لها كل ذلك.
وصحيح ان مطالب قوي الثورة في العدالة ومحاسبة قادة الانقلاب وانسحاب العسكر من المشهد السياسي والاقتصادي وغيرها من المطالب الموضوعية حق مشروع. ولكن المؤكد ان ليس هنالك امكانية لتحقيق هذه المطالب راهنا، مع ضمان بقاء الدولة علي حالها او عدم تعريض بقية المواطنين لمزيد من الاخطار الاقتصادية والامنية. ولكن ليس هنالك ما يمنع تحقيقها مستقبلا اذا ما احسنا التعامل مع الفرص المتاحة كالاتفاق الاطاري. خاصة اذا ما انصب تركيزنا علي بناء المؤسسات وتحسين الخدمات وتفادي التصادم مع العسكر او استفزازهم.
وصحيح ايضا، ان الكثيرين قد يرون مثل هذا الحديث تنازل عن شعارات الثورة ومجاملة للعسكر وتماهي مع خط الحرية والتغيير. ولكن اي تتبع لمسار الثورة يؤكد شئ واحد، ان نجاح الثورة بمنظورها النظري اي استبدال منظومة قائمة بمنظومة مغايرة، علي ارض الواقع، امر يصعب تحقيقه. وحتي اذا امكن تحقيقه في مكان ما ولتجربة ما، فهذا ما لا ينطبق علي منظومة متطرفة في الاستبداد والفساد كالانقاذ (مندغمة في الدولة) او علي ما احدثته من دمار يصعب علاجه او تغييره بسهولة (مهمة مركبة اصلاح وبناء). وهذا بدوره يقول شئ واحد، ان العلة ليست في الثورة او الثوار الذين قدموا ولم يستبقوا شيئا، ولكن في ان كل معينات انجاز شعارات الثورة تكاد تكون غير متوافرة، وهو ما جعل فعل الثورة يحاكي نطح الصخر، بكل ما يحدثه من جروح ويعكسه من روح اصرار وعزيمة.
وهذا يرجعنا مرة اخري للاتفاق الاطاري، الذي يمنح النضال الثوري جدوي اكبر، طالما اندرج في مشروع واضح وقابل للتطبيق. اي الدفاع عن مكاسب الاتفاق وترسيخها، ومن ثمَّ البناء عليها، للارتقاء لمرحلة اعلي وكسب اراضٍ جديدة في مشروع التغيير. وهكذا يبني التغيير علي ارضية صلبة، وليس مكاسب سريعة وعاجلة تستفز العسكر وتستنفر اعداء الثورة، ومن ثمَّ اعادة الانقلابات والدوران في الحلقة الشريرة.
وعموما حتي نتخلص من اعادة ذات الاخطاء، واذا قُدر للحكومة التشكل ونجت من تربص وغدر البرهان، ان تلتزم مكوناتها بما تم التوافق عليه، وتقدم نموذج محترم يليق بتضحيات الثوار، وذلك بمراعاة المصالح العليا للبلاد. وفي ذات الوقت نخدم انفسنا وبلادنا والانتقال، اذا ما خفضنا سقف التوقعات، ولم نكلف الحكومة فوق طاقتها، او نكثر من الاضرابات المطلبية والمطالب التعجيزية. حتي لا نفسح المجال للمتربصين لاسقاطها. وكذلك يخدم الثوار انفسهم والثورة اذا ما اشتركوا في حكومة الفترة القادمة لاستئناف الانتقال، او اقلاه (لا يطبزوا عينهم باصبعهم) بمساعدة اعداء الانتقال علي اسقاط الحكومة، لان ما يعقبها ليس نظام ديمقراطي كما يتوهمون، ولكن انقلاب اسوا واضل سبيلا من هذا الانقلاب الكارثي الذي اوردنا المهالك!
واخيرا
نسال الله الرحمة والمغفرة للشهداء وعاجل الشفاء للمصابين، وعودة ميمونة للغائبين. ويا لها من محنة محزنة يعيشها السودانيون، كونه لمجرد المطالبة بحقوق انسانية يتعرضون للموت والاصابات وغيرها من الجرائم التي يندي لها الجبين. ويكفي عنوان للمحنة، ان الغادر البرهان والجاهل حميدتي، اصبحا اقوي شخصيتين في البلاد، ويتحكمان في مصيرها! وهو ما يبدو محصلة منطقية لنظام عصابات حكم بقوة البطش والكذب والخداع. اي الانقاذ ليست اكثر من نظام سادي يستلذ بتعذيب شعبه، وهو عذاب وعقاب وذل جماعي لا حدود له!
ولكن عزاءنا ان نصبر علي بصيرة (فوق راي) او كما عبر حميد في الضو وجهجهة التساب (نحن وقدرنا قدر قدر/نصبر صبر/نصبر علي البوخ الغريب/ نتحمل اصوات القعو/ لامن نلاقي الهمبريب/والليل غناوي نولعو).
وتحية رمضانية خاصة، للاستاذ شوقي عبد العظيم الذي يؤدب حلفاء الانقلاب قليلي الحياء علي قناة الجزيرة مباشر. ودمتم في رعاية الله.
////////////////////////