لعنة تقسيم السودان تطارد عرابّي “نيفاشا”

 


 

 




أن تختلف التقديرات السياسية حول الموقف من قضية ما أمر طبيعي لا سيما عندما تكون المنطلقات مختلفة أو كانت تعبيراً عن قوى سياسية متباينة في الرؤى والأهداف, إلا أن ما لا يمكن فهمه ولا إيجاد تفسير مقبول له أن يختلف التقييم إلى درجة التضاد بين "أهل البيت الحاكم" حول أهم حدث شهده السودان في السبعين عاماً الماضية منذ بروز قضية جنوب السودان إلى الوعي السياسي العام في مؤتمر جوبا الشهير في العام 1947 الذي ناقش لأول مرة مستقبل العلاقات بين شطري السودان.
لم تكن اتفاقية السلام الشامل التي جرت هندسة فصولها النهائية في منتجع "نيفاشا" الكيني حدثاً عابراً في تاريخ السوداني السياسي الحديث, بل كانت بلا شك الحدث الأكثر أهمية بلا منازع من خلال الواقع الجيوسياسي الجديد كلياً الذي أنتجته التحولات الاستراتيجية المولودة من رحم تطبيق وتنفيذ خلاصة تعهدات الاتفاقية حرفياً, وللمفارقة التي تجاهلت في الوقت نفسه المقدمات الموضوعية والاشتراطات التي أكدّ عليها الإطار التأسيسي للتسوية المتفق عليه في برتوكول مجاكوس.
وما من شك أن قرار "الحكم الإنقاذي" بالانخراط في عملية تفاوضية برعاية دولية تقودها الولايات المتحدة, مع كل الخلفيات المعلومة في العلاقة الغامضة بين الطرفين, كان قراراً يوازي في خطورته قرار "الحركة الإسلامية" بالإقدام على الاتقلاب عسكرياً, وكلاهما قرار لا يمكن تصور أن إتخاذه تمّ هكذا خبط عشواء بدون وعي كامل بتبعاته وتداعياته العميقة على السودان, فلئن كان قرار الانقلاب قطع الطريق على استقرار واستدامة النظام الديمقراطي بدعوى الحفاظ على وحدة التراب الوطني والهوية العربية والإسلامية في مواجهة زحف مشروع السودان الجديد بزعامة الدكتور جون قرنق, فقد قادت تسوية نيفاشا مع "الخطر المدعى" لما هو أخطر من ذلك بكثير تقسيم السودان وإفقاده ووحدته الترابية وإغراقه في أتون حروب أهلية ممتدة إلى الجنوب الجديد, ولأن العبرة بالنتائج فلا "الانقلاب" ولا "تسوية نيفاشا" حققت المبررات التي سيقت بين أيديهما, بل على العكس من ذلك تماماً أفضت إلى نتائج كارثية على البلاد والعباد, وما المأزق الوطني الراهن إلا من حصاد ذلك.
والسؤال المطروح "تسوية نيفاشا" ابنة من في النظام "الإسلامي" على خلفية تقاذف الكرة حول من يتحمل المسؤولية في إبرامها ورعايتها حتى ولدت "سفاحاً" أو لعنة يكاد الجميع يتبرأ منها ويرمي بها غيره متخلصاً من عارها وقد رأى الجميع حصاد نتاجها وثمارها المرّة. يقول المثل السائر أن للنصر ألف أب, وللهزيمة أب واحد, أو ربما تبقى مجهولة النسب. يذكر الناس جيداً ولحسن الحظ فإن ذلك ليس تاريخاً موغلاً في القدم يحتاج إلى استحضار بل واقع حاضر عايشه الجميع تلك الأهازيج وأكاليل الغار التي زيّنت جبين المفاوضين الحكوميين, وجرى الترويج لها سياسياً وفي الإعلام الرسمي وتلك التي تدور في فلكه وهي تصور مفاوضات السلام الماراثونية واتفاقية الناجمة عنها وكأنها نصر بلا حرب ل"نظام الحكم", وصل حد المبالغة حين وصف قادة السلطة تسوية نيفاشا بأنها بمثابة "الاستقلال الثاني" للسودان.
وفجأة تبدّلت كل تلك الافراح وتداعت سرادقات الاحتفالات ليبدأ حفل البحث عن كبش فداء يعلق على رقبته جرس الإخفاق الذي جلب الأتراح جراء الاتفاقية التي تحولت من نعمة كان يُظن أنها ستؤدي إلى تأكيد "الوحدة الطوعية" للسودان, فإذا بها تنتهي إلى تمزيقه شر ممزق, وفوق ذلك تورث ما تبقى منه جرثومة التشرذم والحروب الأهلية التي تمت إعادة إنتاجها, وتمخضّت تلك التضحية الجسيمة لا لتكون فداءاً وثمناً غالياً وضرورياً للسلام, بل ذهبت هباءاً لتصبح عربوناً للمزيد من التشرذم والتفكك والدخول في صدمة اقتصادية وزلزال سياسي لا تزال توابعه تترى على السودان الذي لم يشهد عافية منذ أن طاله التقسيم, وها هو الجنوب يلحق هو الآخر بشطره تمزقاً وصراعاً دموياً على السلطة.
لا يكفي التعاطي مع هذا الحدث الأخطر في تاريخ السودان وكأنه تحصيل حاصل, أو قضاء لم يكن منه مفر ولا محيد, بل هو نتاج مباشر لخيارات سياسية وقرارات ساسة خاطئة يجب أن يكون هناك من ينبري لتحمل مسؤوليتها وأن يدفع ثمن ما جرته من ويلات على السودان, ما يؤسف له أن ما نشهده هو محاولة الجميع في الطرف الحكومي التبرؤ من المسؤولية او البحث عن مبررات تبعد ذلك عن أنفسهم وإلقاء الكرة في ملعب الآخرين, ولأننا في خضم حدث تاريخي مزلزل لا يمكن المرور عليه هكذا مرور الكرام, قد كان لافتاً توارد تصريحات لمسؤولين كبار في الحكم في الآونة الأخيرة بشأن "اتفاقية نيفاشا" تحاول قذف الكرة بعيداً عنها إلى أطراف أخرى تجنباً لتحمل نصيبها من المسؤولية فيما حدث.
كان السؤال الحاضر دائماً في محاولة دراسة وتحليل اتفاقية السلام الإجابة على مسالة جوهرية إن كانت عملاً وطنياً خالصاً بمعنى أنها مفاوضات تمت بإرادة سياسية حرة راعت المصالح الوطنية الحقيقية, وأن الدور الخارجي الذي رافقها لم يكن أكثر من مسهّل لعملية التفاوض, أم أن الاتفاقية ليست سوى منتوج خريطة طريق أمريكية جرى تصميمها في مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية بواشنطن في تقريره الشهير الصادر في مطلع العام 2001 بعنوان "سياسة الولايات المتحدة لإنهاء الحرب في السودان" والذي تضمن بوضوح صيغة نظامين في دولة واحدة لفترة انتقالية تنتهي بإجراء استفتاء لتقرير مصير الجنوب.
فقد ظلت قيادة فريق التفاوض الحكومي تستهجن دائماً التحليلات والكتابات الصحافية التي كانت تعظّم من شأن الدور الأجنبي في عملية التفاوض ونتائجها, وتحاول التأكيد على أنها عملية وطنية محضّة وأنه لا ينبغي الاستهانة أو التشكيك في وطنية وكفاءة مفاوضي الحكومة.
ما قلب الطاولة ظهراً على عقب في شأن إثبات بنّوة "تسوية نيفاشا" ونسبها إن كانت لأب من صلب الوطن أو كانت مولوداً بذرت نطفته من جهات أجنبية, تصاعد التصريحات الرسمية بوقوف نظرية المؤامرة الخارجية وراء اتفاقية السلام ونتاجها المر "فصل الجنوب", وهو تصريح ليس من عواهن القول بل أدلى به السيد رئيس الجمهورية بشخصه حين حمّل أطرافاً خارجية مسؤولية فصل الجنوب وتشجيعه على ذلك, مبدياً عدم الندم على التقسيم حين ذكر أن هذه الجهات الأجنبية عادت مبدية الندم على انفصال الجنوب بعد ألمّت به غوائل الحرب الأهلية على أيدي أبنائه من قادة الحركة الشعبية المنقسمين على أنفسهم.
لم يكن تصريح الرئيس هو الوحيد, فقد عاد وزير الخارجية مؤكداً وجود مؤامرة خارجية وراء فصل الجنوب, ملقياً اللوم في فقدان وحدته على عدم دعم الدول العربية وتركه وحيداً بلا ظهير على الرغم من أن السودان ظل ينبه و"يؤكد دائماً أنه يتعرض لمؤامرة من أطرافه الجنوبية لم تتأكد إلا بحدوث انفصال الجنوب".
ومن المؤكد أن هذا تفسير خطير للغاية ومربك لكل التبريرات التي حاولت التخفيف من المردود الناجم عن الاتفاقية وقاد إلى تقسيم السودان, وخطورته أنه يأتي من قمة هرم السلطة, ولعل السؤال المنطقي المترتب على ذلك هل كانت تعلم قيادة الدولة منذ البداية أن عملية السلام برمتها كانت "مؤامرة أجنبية" إذن فما الذي دعاها للانخراط في ركاب هذه المؤامرة ولماذا سمحت بأن يكون النظام الحاكم أداة وطرفاً في تنفيذها؟. وإن كانت لا تعلم فالمصيبة أعظم إذن لكان هناك ضرورة للمحاسبة وللمساءلة عن كيف تُساق البلاد إلى هذا المصير البائس دون أن يكون هناك من يتوجب عليه دفع الثمن؟.
ولعل ضغوط هذه التصريح بوجود "أصابع أجنبية" وراء "عملية نيفاشا" ومن داخل البيت الحاكم هي التي دعت الأستاذ علي عثمان, عرّاب المفاوضات من الجانب الحكومي أن ينبري للدفاع عن موقفه الشخصي بإلقاء المسؤولية على عاهل الجميع حكومة ومعارضة, فقد رد على سؤال في حوار مع صحيفة "المستقلة" إن كان نادماً على نيفاشا وما إذا كانت بنظره نعمة أم نقمة بقوله "قضية نيفاشا هذه مسالة يحكي عنها التاريخ, ولا أحس بندامة, بالعكس إنني فعلت ما ينبغي على أي شخص آخر أن يفعله, ثم إني وقعت على حق تقرير المصير بالنسبة لجنوب السودان, وهذا قرار متفق عليه, ولم أوقع على قرار بفصل الجنوب, ويوم أن قبلت الساحة السياسية السودانية حق تقرير المصير, أصبح الانفصال وارداً, ولم أكن أنا الشخص الذي اتخذ قرار تقرير المصير".
وعلى الرغم من قوله إنه لا يريد التبرؤ من "نيفاشا" في وجه الانتقادات الحادة التي وجهت إليها من الأطراف المختلفة, إلا أنه شدّد على التقليل من دوره الشخصي قائلاً "نيفاشا تمت بمسؤولية وموافقة الجميع, ولا أريد أن أتحدث عنها وكأنها عار أريد أن أنفيه" واعتبرها تطور تاريخي طبيعي في تاريخ معالجة قضية الجنوب "بدوافع وعوامل بعضها داخلي وآخر خارجي" شاركت فيه كل القوى السياسية "واتحمل مسؤوليته في إطار موقعي من المسؤولية في إطار نظام كامل يتحمل مسؤوليته عن هذا".
بالطبع ليس سراً أنه في ظل الصراع الداخلي على السلطة في أوساط النخبة الحاكمة استخدم الكثيرون من منافسي علي عثمان أو خصومه على حد سواء حبال "الفشل" أو النتائج المرّة الثمرات لفتلها ولفها حول عنقه وتحميله وحده مسؤولية ما جرته عملية نيفاشا بكل تبعاتها وتداعياتها. والواقع أن جزءاً من عرقلة التنفيذ النزيه لإطار التسوية الأساسي الذي اشترط تحقيق التحول الديمقراطي كضمانة للحفاظ على أولوية وحدة البلاد جرى الالتفاف عليها من قبل طرفي الاتفاقية, كما كان ضحية الصراع والتنافس السياسي الداخلي لا سيما في البيت الإنقاذي الحاكم.
من المؤكد أن الأجوبة الاعتذارية التي قدمها علي عثمان في دفاعه عن نفسه في الموقف من "نيفاشا" بالتمترس خلف القول بأنه لم يمكن له سوى أجر المناولة في إبرام اتفاقية يتحمل مسؤوليتها المجتمع السياسي بأسره, فيه الكثير من التبسيط والتقليل من شأن دوره وحدود مسؤوليته ومسؤولية "الحركة الإسلامية" لا يتسق والحيثيات الموضوعية المعلومة للكافة, حتى وإن كان السبب في ذلك إتقاء تنصل رفاقه في النظام الحاكم من مسوؤلية ما جرى وإلقاء المسؤولية على عاتقه وحده, ليس ذلك وحسب بل والحديث صراحة عن "مؤامرة خارجية" لا يمكن أن تكون إن صحّت حدثت في فراغ.
ولو كان الجدل حول الموضوع بين النظام وخصومه لكان مفهوماً, ولكن أن نجد أنفسنا تحت تفسيرين متناقضين داخل أروقة النظام الحاكم لحدث واحد فذلك يلقي بالكثير من الشكوك حول مجمل ما جرى وحقيقته, والاكتفاء بإحالة الملف للتاريخ ليقول كلمته كما ذهب إلى ذلك الأستاذ علي عثمان, فلن يسعفه أو يعفيه من المسؤولية في كشف الحقائق والوقائع المجردة لما حدث, خاصة وأنه أصبح إن رغب في ذلك أم لا "اللاعب الرئيس" المحاصر بظنون من معسكر إخوته أكثر من خصومه.
///////////

 

آراء