لماذا سَكَت التُرابِي عن الكلامِ المُباح؟!

 


 

فتحي الضو
30 August, 2014

 

faldaw@hotmail.com
(1)
ألا رحِم الله صديقي محجوب عثمان الذي رحَل عن دنيانا في العام 2010 كما ترحل النوارس إلى ما وراء البحار. كان شفيفاً وعفيفاً وصريحاً. ما انتظم عِقد لمجالسيه حتى صار ريحانتهم. حذق الجمع بين (الضرتين) السياسة والصحافة. ومن خلالهما كدح إلى وطنه كدحاً إلى أن لاقى ربه راضياً مرضياً. كان قد شرَّفني بكتابة مُقدمة كتابي الأول الموسوم بعنوان (مِحنة النُخبة السُّودانية) والذي صدر في القاهرة العام 1993 واقتبِس من تلك المُقدمة العبارة التالية «يُشبِه المُؤلف قناعات قادة الجبهة الإسلامية بنظرية الفرد روزنبرج فيلسوف النازية الشهير، والتي تقول: (إذا كانت القسوة لازمة فلماذا لا نستخدمها لإرادتنا الوطنية)» ويضيف محجوب «وهنا تستشعر ذاكرتي رأياً للدكتور التُرابي أطلقه ونحن في سجن كوبر خلال الأسابيع الأولى بعد انقلاب 30/6/1989 التي مكثها معتقلاً مع المعارضين كواحدة من وسائل التمويه يومذاك. قال الترابي ما معناه إن الشعب السوداني لا ولن يسلك الطريق القويم إلا بالقهر. وعندما اعترض أحدهم بأن القهر يُولِد الانفجار، كان رد السيد المرشد: دعك من هذا، فإن القهر يبدو شاذاً وغريباً في أيامه الأولى ولكن سرعان ما يعتاد عليه الناس» وختم محجوب تلك الفقرة بتساؤل مزلزل: «ألا يكمل هذا نظرية فيلسوف النازية ويدعمها ويطورها»؟! ولعمري ذلك سؤال جاوبته السنين وفجورها!
(2)
في صيف عام 2011 جلست إلى الدكتور حسن الترابي في منزله بالمنشية، كان ذلك أثناء زيارة للبلد الصابر أهله، وقد خططت لها الأقدار ونفذتها طائعاً مختاراً. وبحكم البعد الجغرافي أو إن شئت فقل القسري، لم يتسن لي رؤية تلك الدار من قبل، غير أني سمعت عنها قصصاً أشبه بالأساطير. يقولون كادت أن تكون محجاً للحواريين، وإنها كانت تعج بالغاديين والرائحين عندما كان شيخهم يأمُر فيُطاع. بل قيل إن البعض كان يستبقي نفسه فيها حتى مطلع الفجر ولا يغادرونها إلا وهم مكرهون. ولهذا استغربت يومذاك عندما رأيتها تكاد تكون خاويةً على عروشها، ولفت نظري كذلك أن الساحة التي أمامها تخلو من أي دابة، وكانت - بحسب ما قيل لي – يعز أن تجد فيها موطئ قدم ناهيك أن تجد مكاناً لدواب كثرت أنواعها. دلفت للدار وقلت في سري أدخلوها بسلامٍ آمنين. وجدت الترابي يجلس في الصالون وحده، بل للدقة كان يجلس على مقربة منه شاب تبدو على سيمائه الطيبة والوقار، عرفت فيما بعد أن اسمه تاج الدين بانقا وهو يشغل وظيفة سكرتيره الخاص، وهي ذات الوظيفة التي كان يشغلها صديقنا المَحبُوب عبد السلام في العشرية الأولى كما وصفها في كتابه الذائع الصيت. أخذت موقعي بالقرب من الترابي وجلس إلى جانبي السيد كمال عمر وهو الذي رتب اللقاء أصلاً. وعمر هذا للذين لا يعلمون، لم يكن من الذين بزغ نجمهم في فجر السنين العشر وما تلاها، ولكنه في العشرية الثانية وما جَلاّها، اقترب من الترابي حتى أصبح عينه التي ترى وأذنه التي تسمع ولسانه الذي ينطق، ومن المفارقات أن التداعيات التي حدثت في مواقف المؤتمر الشعبي مؤخراً، وبدا فيها عمر يتقلب كتقلب المُحب على نار الجوى، كشفت للمراقبين أن فيه شيئاً من خُلق الترابي، ومن شابه شيخه ما ظلم!
(3)
امتد ذلك اللقاء لنحو ثلاث ساعات، وعلى الرغم من أنه جرى في رمضان حيث الطقس حار وجاف ونهاره غائظ كالعادة، إلا أن شهية المرشد للكلام - بحسب تعبير محجوب – كانت ساعتئذ أشبه بجهنم، كلما قلت كفى قال هل من مزيد. ولا أظن أن مثل تلك الرغبة كانت متاحة لمثلنا في العشرية الأولى، أي في عزَّ سطوته وجبروته. فيومذاك حتى حوارييه، لو أن أحدهم ظفر بِرد التحية فقط لطار قلبه من الفرح وانقلب إلى أهله مسروراً. لهذا لم يكن عصياً عليَّ أن اهتبل سانحة غضبه وضيقه وحنقه منهم لاستخرج بُغيتي من أسرار وأوطار، وبالطبع ما كان لها أن ترى النور لولا جور الزمان ومكائد الحِبان. وفي سياق مقالنا هذا قد لا يهم كثيراً كل ما قال، غير أنني كنت ألحظ مدى تغير تقاسيم وجهه واصطكاك أسنانه عندما يتحدث عن عقوق الحواريين ويترفع عن ذكر اسمائهم، بل لحظت أيضاً أنه كلما ازدادت دواخله غضباً كان يضغط على طاولة صغيرة أمامه بإبهامه حتى يخال للمرء إنه سيثقبها أو سيُدمي أصبعه. ثم من باب التنفيس أو الترويح عن الضيق كان فمه يفتر عن تلك الابتسامة الغامضة التي تتضاءل قدرات أبرع الممثلين المسرحيين في أن يأتوا بمثلها. يومذاك فقط أيقنت تماماً بعد أكثر من عقد من الزمن، أن ما سُمي بالمفاصلة بين القصر والمنشية ليست مسرحية كما أشيع عنها، ولكنها حقد وكراهية وثارات مؤجلة!
(4)
قبل أن يبادر أحد ويتهمني بالسذاجة، أقول لست وحدي. إذ أن قرائن الأحوال ووقائع الأحداث في الفترة التي أعقبت المفاصلة شهدت فجوراً في الخصومة من الجانبين لم يسمع الناس بمثلها إلا في قصور خلفاء الدولة الأموية. رئيس ابتذل الحكم، فضرب مثلاً ونسي نفسه. وقف ذات يوم أمام حشد من الناس ومدَّ يده إلى عنقه وقال على رؤوس الأشهاد «الشيخ يستاهل الضبح» أي الذبح بمثلما يفعل تنظيم (داعش) بضحاياه هذه الأيام. والشيخ الذي أخذ من الجِمال (بكسر الجيم) أهم صفاتها، راح يقتص من حوارييه ويجلدهم بألسنة حداد ويتحرق شوقاً لليوم الموعود. رآه الناس يوماً في ندوة مبثوثة في وسائل التواصل الاجتماعي، ينقل عن الرئيس الذي توعده (بالضبح) حديثاً لا يملك المرء حين سماعه إلا أن يستغشى ثيابه ويولي الأدبار هرباً. ثم تدور دائرة الأيام وبينما الناس في انتظار المعركة الفاصلة أو المؤجلة، يُعاد ترتيب المسرح بطريقة جديدة قبل إنزال الستارة. ثمَّ تستوجب المسرحية تغيراً مفاجئاً في المشاهد. يبتدع الرئيس «الضرورة» ما سُمي بـ (خطاب الوثبة) ويطرح خواراً سُمي بالحوار، ثم يتقابلا، الرئيس والمرؤوس أو الشيخ وحواره السابق، أقبلا على بعضهما ويكادان يطيران من الفرح. ثم تعانقا عناق من تحرى لقاء بعد طول فراق محا فيه الليل كلام النهار. تلك بدأت للبعض كطلاسم ولكن وراء الأكمة ما وراءها يا سادتي! فمهلاً إذ أن ما حدث وراء كواليس المسرح أمره عجباً!
(5)
ذلك هو السؤال الذي سبرنا أغواره من مصادرنا العليمة، وخرجنا بمعلومات ثرة نضع خطوطها العريضة بين يدي القارئ ربما أزالت بعضاً مما التبس في ذهنه من طلاسم. قالت المصادر: كانت قطر قد راهنت كثيراً على صعود موجة الإسلام السياسي في دول ثورات الربيع العربي، وعلى وجه الخصوص مصر وليبيا وتونس. وفجأة على غير ما تمنَّت واشتهت، بل وعملت لذلك طويلاً بدوافع يعلمها المراقبون، وبالذات الصراعات الخفية مع المملكة العربية السعودية. بدأت الأرض تميد تحت طموحاتها وانتاشتها سهام الكراهية والشحناء والبغضاء. فقرر صناع القرار في الدولة الصغيرة عمل إسناد Pack up لطموحاتهم أو تمنياتهم – سيان - فكان نظام الخرطوم محط أنظارهم، لا سيِّما، وأنه النظام الوحيد في الإقليم أو قل في العالمين العربي والأفريقي الذي كان يشاركهم السراء في تمدد مشروع الإسلام السياسي في الدول المذكورة، مثلما أصبح الوحيد الذي يشاركهم الضراء بعد أن لاحت علامات تعثره. زاد من الاختيار أن للدوحة يداً سلفت على الخرطوم في المبتدأ، علاوة على أن أزمات النظام وبالذات الأزمة الاقتصادية كانت قد استحكمت حلقاتها. ومن جانبها أيضاً اشترطت قطر على العصبة الحاكمة أن تبسط يدها للترابي ليعود إلى سالف عهده بوجهٍ جديد New Look كما يقولون، وهو ما وجد هوى في نفس الرئيس المشير للتخلص من المتربصين به في عصبته!  
(6)
طلبت الدوحة من الترابي زيارتها - وهو الذي لم تنقطع صلته بها منذ المفاصلة - حيث عرضوا عليه ابتداءً مشروع مصالحة مع تلاميذه أو حوارييه السابقين. من ناحيته زاد الترابي - الذي جاءه الثأر يجرجر أذياله - من جرعة طموحاته، واقترح عليهم أن يطلبوا من الرئيس البشير الإقامة بين ظهرانيهم في الدوحة. فقالوا له سبق وأن عرضوا عليه ذلك بإيعاز من الإدارة الأمريكية، وبضمان إيجاد مخرج له من المحكمة الجنائية، بل كشف القطريون على أن ما درج على تسميته بـ (الوديعة القطرية) هي في الأساس اقتراح أمريكي لمزيد من الترغيب، ولكنه رفض بدواعي احتمالات صراع المتربصين بالسلطة من عصبته. عندئذ طرح الترابي اقتراحاً آخر تلقفه القطريون وقضى بالضغط على النظام لإزاحة كل الوجوه القديمة من واجهته، وبالأخص التسعة الذين يتحكمون في صناعة القرار (ملحوظة: لم يفصح المصدر عن اسمائهم) غير أن الترابي قرأ على محدثيه الآية «وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون» وقال إن ذلك سيكون ضمان للمصالحة التي يقترحونها وإنقاذاً للمشروع أيضاً. بالطبع حدث ما اقترح، ولكن بآليات معلومة لم يألوا القطريون جهداً في بسطها. وبالتالي مضى الترابي في المشروع توخياً للخطوة التالية!
(7)
انتهت إفادات المصدر، أما إفادتي الخاصة التي قد تصيب وقد تخطيء، تقول إن الترابي سيمضي في المشروع غير عابئ بالوطن ومآلاته، وقد تأبط ثأره الشخصي الذي سبق وأن حددنا شواهده في بداية المقال. الترابي الذي علَّم حوارييه الميكافيلية، لن يهدأ له بال إلا بعد أن يغمد خنجره في جسد الذين أذلوه، ولن تغمض له عين إلا بإعادة تحقيق حلمه القديم بحكم كل السودان ولو بالوسيلة التي نقلها عنه الراحل محجوب عثمان. يظن البعض وهماً أن الترابي مسؤول عن العشرية الأولى وحدها وأنه تطهر بعد أن لفظه حواريوه كما تلفظ النواة، لكن الترابي في تقديري يظل المسؤول الأول عن أخطاء وخطايا ربع قرن من الحكم الفاسد. وهو بهذا المعيار يعد الأسوأ في التاريخ السياسي السوداني الحديث. كنت قد خصصت له في كتابي المذكور أعلاه فصلاً يحاول فض مغاليق شخصيته، وكان بعنوان (طموح مهره الدم) الأمر الذي نرى أنه تحقق بمقدار. بيد أنني أرى في الأفق وميض السكاكين الطويلة تلمع في الظلام.. في انتظار ليلة ليلاء اتسعت دوائر حاضريها وزاد احتمال تكاثر ضحاياها. يومذاك لن يعرف الناس من القاتل ومن المقتول، من الضحية ومن الجلاد. فقط سيدرك البعض بعد فوات الأوان أن وطناً كاملاً زحف نحو الهاوية.. فمن ذا الذي يُخبِر الثعلب؟
حاشية: سئل أحد الظرفاء... هل يلد الثعلب أم يبيض؟ أجاب، والله ده مكَّار ممكن يعملهم الاثنين!
(8)
في أعقاب هروبه من السودان إلى إرتيريا بما أسماه (عملية تهتدون) في ديسمبر من العام 1996. جلست إلى السيد الصادق المهدي في حوار مُطوَّل. سألته في إحدى المحاور عن الدكتور حسن الترابي الذي كان يومذاك الحاكم بأمره، بل إن المهدي كان قد أعزى كل ما حدث له من سجن وتهديد بالقتل وإهانات شخصية كانت بأوامر من المرشد. وفي الواقع لم يكن ذلك بالأمر الغريب، فقد ظلت العلاقة بينهما ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب منذ أن باعدت بينهما دروب السياسة بعد طول صداقة. وقد لخص المهدي مؤخراً وصف ما بينهما بقوله في حوار صحافي مع جريدة السوداني «أنا افتكر في مشكلة كيمياء بيننا» بالتأكيد على هذه الكيمياء نعود لسؤالنا الذي طرحته على المهدي في الحوار المذكور حول شخصية الترابي، فقال لي «أنا اسميه كانديد» وقلت له من هو كانديد هذا؟ فقال لي «كانديد بطل في رواية للكاتب الفرنسي الشهير فولتير، كان يُقبِّح الجميل ويُجمِّل القبيح» وقبل أن ترتد إلىَّ اجابته، أضاف: «لو أن هناك أحداً من الناس قُطِعت رجله، لقال الترابي خير وبركة فقد وفَّر ثمن فردة الجزمة»!!
آخر الكلام: لابد من الديمقراطية وإن طال السفر!
//////////

 

آراء