لماذا يصحو مارد الهضبة، ويغفو مارد السهل؟ -8- … بقلم: د. النور حمد
7 June, 2010
elnourh@gmail.com
الجروح التي تحدثها الحروب بين الأمم جروح لا تندمل بسهولة. فهي تبقى عالقةً في النفوس لزمان طويل، وكثيراً ما تصبح آثارها جزءا من المزاج الشعبي العام، خاصة عندما يكون الدين عنصراً رئيساً في الحرب المعنية. كتب سيساي أسيفا في مقالته: "القرن الإفريقي: الخلفية التاريخية، والمنظور، والمبادرات الإقليمية"، التي تم نشرها في صحيفة "أديس تربيون"، التي تصدر في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، في عددها الصادر في 30 مايو 2003، عن لجوء المسلمين إلى الحبشة في بداية الدعوة الإسلامية في القرن السابع الميلادي. وأشار أسيفا إلى أن استضافة الحبشة للاجئين المسلمين جعلت النبي محمداً يوصي باستثناء الحبشة من حروب الجهاد الإسلامية. ويضيف أسيفا قائلاً، إلا أن هناك استثناءات خرقت تلك القاعدة، كغزو أحمد بن إبراهيم الغازي (المعروف بالأعسر، أو الأشول)، الذي تم دحره في العام 1543م. أما التهديد الإسلامي الثاني الذي تعرضت له أثيوبيا، على حد قول أسيفا، فقد كان هجوم المهدويين في العام 1888م، على عاصمة أثيوبيا السابقة قُنْدَرْ، الذي تم دحره في معركة المتمة، على الحدود الإثيوبية السودانية. الشاهد أن ذاكرتنا العربية الإسلامية، وذاكرتنا السودانية، إضافة إلى الذاكرة الإثيوبية، تلونت جميعها بلون الحروب ذات الصبغة الدينية التي جرت، وبلون المطامع التي أعربت عن نفسها عملياً، في أكثر من منعطف تاريخي. وفيما يخص صلتنا بالجارة إثيوبيا، فإن هناك شوائب من الاستصغار العرقي والديني، لوَّنت جملة الأمر بلونٍ قاتم. ولن يمحو ذلك اللون القاتم وآثاره السالبة من ذاكرتنا وذاكرة الإثيوبيين، سوى وعيٍ جديد، تعتنقه نخبٌ، نابهةٌ، جديدةٌ، تعرف كيف تمحو عن عقلها، ووجدانها، أصباغ الحروب والمطاحنات السابقات، بالانعتاق من أسر الشوفينيات التاريخانية، لتنظر، من ثم، إلى معطيات الحاضر، ووعود المستقبل، بعقل صافٍ، وقلبٍ سليم.
لقد أشرت في أكثر من مرة إلى التحورات السالبة التي طالت بنية وعينا بسبب المؤثرات الخارجية كالغزو المصري التركي، وتمكينه للمؤسسة الدينية الرسمية، وإضعافه للتدين الصوفي السوداني. يقول الدكتور منصور خالد في كتابه (جنوب السودان في المخيلة العربية: الصورة الزائفة والقمع التاريخي،) الصادرة طبعته الثانية في العام 2009، عن دار العلوم في القاهرة، ودار مدارك في الخرطوم: ((سنار كانت مرفأً للسماح والتآلف بين الأديان، ولم يمنع الإسلام سلاطينها من أن يحسنوا وفادة البعوث البابوية التي كانت تحل في مملكتهم في طريقها إلى الحبشة، بل ذهب واحد منهم (بادى الأحمر) إلى احتضان إحدى هذه البعوث وإبقاء قائدها الأب باسكوالي ليمارس الطب في ديوانه، وهو على نصرانيته. وعلى حذوه سار سلاطين سنار الذين استخدموا الكتبة الأقباط في دواوينهم دون أن يقسروا قبطياً واحداً على التخلي عن دينه)). في نفس حقبة سلطنة الفونج (1504م ـ 1821م) التي كانت فيها سنار معبرا آمناً للبعثات البابوية إلى الحبشة المسيحية، كما تفضل بالإشارة إلى ذلك الدكتور منصور خالد، نجد أن أحمد بن إبراهيم الغازي، (الأعسر، أو الأشول ـ 1506 ـ 1543) قد ظل مشتبكاً مع أهل الحبشة في حرب دينية، استمرت لعشر سنوات، استطاع خلالها أن يبسط سلطانه على كل الهضبة، حتى حدود السودان جهة كسلا. ويسمى كثير من المؤرخين المسلمين حملات أحمد بن إبراهيم الغازي لبلاد الحبشة بـ (الغزو العظيم)! ويروي فتحي غيث في كتابه "الإسلام والحبشة عبر التاريخ" (بدون تاريخ ـ غير أني استخلصت مما ورد في مقدمة الكتاب أنه قد كتب في منتصف أربعينات القرن الماضي)، متحدثا عن جانب من غزوات الأعسر داخل الهضبة الحبشية، قائلاً: ((وتقدمت جيوش الإمام واستولت على أكسوم وحرقتها بعد أن غنمت ما كانت تحويه كنائسها من كنوز)). وسأتعرض لحروب "الأشول" بشيءٍ من الاستفاضة، حين تتحول هذه المقالات إلى كتاب، كما وعدت. فلقد أردت أن أخلص مما ذكرته أعلاه، أننا بحاجة إلى أن نتخلص من نعرة الحق في السيطرة على بلاد الآخرين، باسم الإسلام، وأن نكيف تصورنا لعلاقتنا بإثيوبيا بناءً على تاريخينا نحن، وعلى تكويننا الروحي والوجداني، الخاص بنا، بعيداً عن المؤثرات التي لا تندرج ضمن تاريخنا، إلا في خانة الاستلاب الفكري، والثقافي، والوجداني.
الجرح المهدوي:
ما قام به أحمد بن إبراهيم الغازي، المعروف بـ (الأعسر، أو الأشول)، نحو إثيوبيا، هو عين ما حاولت القيام به الدولة المهدية في السودان، في نهايات ثمانينات القرن التاسع عشر، وبداية تسعيناته. ومن حسن الطالع أن الكتابات السودانية المتأخرة، بدأت تنظر إلى تاريخنا المهدوي نظرةً نقدية، بعد أن ظل مجرد منولوجٍ تمجيديٍ ممل. وأحسب أن تلك النزعة التمجيدية انبنت على ظنٍّ خاطئ، مفاده، أن الوطنية تقتضي أن نعلي من شأن تاريخنا، ونتغافل عن الجوانب غير المشرقة فيه. ولا أخالني بحاجة إلى تدبيج الحجج والمرافعات لتبيين أن هذا الظن، ظنٌ باطل. بل إن الصواب لعلى العكس من ذلك تماماً! ولابد من الإشارة هنا إلى المؤرخ النابه، الدكتور محمد سعيد القدال، الذي اتسمت كتاباته في أمر المهدية، بالنقد والتحليل، والنظرة إلى الحوادث التاريخية في الإطار الكلي المحيط، أو ما يُسمى بالإنجليزية بالـ context. ولقد أشرت إلى الـ context هنا، لأن قادة الدولة المهدية كانوا أصحاب عقيدة باطنية، مرتكزةً على أن المهدية "منصورة" لا محالة، ولذلك لم يكونوا يهتمون بمعرفة الإطار التاريخي الكلي الذي كان يحيط بهم. فقد كانوا يعولون كثيرا على الرؤى المنامية في قراراتهم. حتى أن حملة استرداد السودان عرفت هذا الجانب الغيبي المسيطر على عقول قادة الدولة المهدية، بناءً على ما أوصله إليهم سلاطين باشا، عقب هربه من قبضة الخليفة عبد الله التعايشي. فاستخدم قلم مخابرات حملة استرداد السودان ذلك السلاح النفسي ضد الدولة المهدية. فقد سرب قلم مخابرات الحملة إلى الخليفة عبد الله التعايشي، بعض الرؤى المنامية "المفبركة" عن طريق الجواسيس. وقد أسهمت تلك الرؤى، كما يقول بعض المؤرخين، ومنهم عصمت حسن زلفو، في تحديد زمان، ومكان معركة كرري. فلقد كان الإنجليز يخشون أن تداهم جيوش المهدويين بواخرهم عند شلال السبلوقة. وكان ذلك هو ما أشار به على الخليفة، القائد العسكري، المهدوي، العبقري، عثمان دقنة. فقد كان يرى أن يتم الهجوم على البواخر حين عبورها شلال السبلوقة، حيث الجنادل والمياه الضحلة. فهناك يمكن أن تندفع الأعداد الهائلة من الأنصار لتلتحم بجنود الحملة داخل سفنهم، مما يحرمهم من مزايا عسكرية كثيرة. ولكن الخليفة آثر الانتظار في أمدرمان ومواجهتهم في سفح جبل كرري المكشوف، بناءً على ما سمعه في مجالسه من رؤى منامية، سربتها إليه مخابرات الحملة. ومفاد تلك الرؤى: أن جيش الكفار سوف يُهزم شمالي أمدرمان. ويؤيد ما اشرت إليه عاليه، ما أورده الدكتور محمد إبراهيم أبو شوك، الذي يرى أيضا، أن الخليفة عبد الله التعايشي رفض اقتراح قادته، ومنهم ابنه عثمان شيخ الدين، برفع العلم الفرنسي على حدود الدولة المهدية، ليصبح السودان بموجب ذلك محميةً فرنسية، الأمر الذي ربما يدرأ زحف البريطانيين عليه. غير أن الخليفة رفض المقترح بناءً على أن المهدية منتصرة في خاتمة المطاف، وأن البشائر الرائجة بين الناس تؤيد ذلك. يقول الدكتور أبو شوك، في كتابه، (السودان، السلطة والتراث)، الصادر في العام 2008، من مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي،: ((فلا جدال أن هذا البعد الغيبي في الصراع السياسي يعكس طرفاً من الهوس الديني الذي كانت تعاني منه الدولة المهدية في صراعها مع خصومها المحليين، وفي صياغتها لسياستها الخارجية، والإستراتيجية مع دول الجوار المسلمة من طرف، والدول الاستعمارية ... من طرف ثانٍ)).
في مقابل ذلك التعويل المهدوي الكثيف على الغيب، نجد أن قادة الأحباش كانوا على قدر كبير من معرفة أمور السياسة، وكانوا أيضاً، على قدرٍ كبيرٍ من البراغماتية. ولذلك، فإنهم حين عرفوا بأطماع الأوربيين في الإقليم كله، حاولوا أنت يثنوا المهدويين عن الاحتراب المستمر معهم، ومن ثم التفرغ لمواجهة الأجانب الدخلاء على المنطقة، كلٌ على حده. ويروى الدكتور محمد سعيد القدال، في كتابه (المهدية والحبشة)، الصادر في العام 1992، عن دار الجيل ببيروت، ما دار بين الملك الحبشي يوحنا، وبين القائد المهدوي في منطقة القلابات، آنذاك، حمدان أبوعنجة، في العام 1888م، وكيف أن الملك الأثيوبي يوحنا حاول جاهدا أن يقنع المهدويين بوقف الحرب، والتفرغ لمواجهة الغازين من أتراك وأوربيين. وقد ذكر يوحنا أن الحرب بين أهل الحبشة وأهل السودان حرب بلا جدوى، وليس لها مردود سوى هلاك المساكين. بل إن تلك الحرب توقف تبادل المنافع بين الشعبين. وقد اقتطف القدال جزءا من رسالة يوحنا هذه في كتابه المذكور أعلاه. وقد أورد نفس تلك الجزئية، التي سوف أثبتها هنا بعد قليل، الأستاذ كمال الجزولي، ولكن بتوسع أكبر. وتدعو رسالة يوحنا، في جملتها، إلى السلم بين الجارين. كما أنها تعدد مزايا هذا السلم بين الدولتين الجارتين. جاء في تلك الرسالة: ((.. يتردَّد التجار من أهل بلادنا على المتاجر في بلادكم، وكذلك تجار بلادكم تتردَّد على غوندر لأجل المعايش والمكاسب لأهلكم، ولأهلنا. فإذا صار كذلك فهو غاية المنفعة لنا ولكم، لأنكم أنتم ونحن في الأصول السابقة أولاد جدٍّ واحد، فإذا قاتلنا بعضنا فماذا نستفيد؟)). وقد علق الأستاذ كمال الجزولي على تلك الرسالة في كتابه (انتلجنسيا نبات الظل: باب في نقد العقل الجمعي)، الصادر في العام 2008، عن دار مدارك للنشر، في الخرطوم، بقوله: ((لو أن الأمر بيدي لأضفتها إلى ديباجة ميثاق منظمة الوحدة الإفريقية (الاتحاد الإفريقي في ما بعد)، ولنقشتها على الجدران الرخامية للقاعة الكبرى في مقر المنظمة بأديس أبابا، ولجعلتها درسا مقرراً في التربية الوطنية لأبناء الهوتو والتوتسي، والأمهرا والتقراي، والعرب والأمازيق، والمسيرية والدينكا، ولكل سلالات العقل الرعوي الذي لم يُرتق بعد، منذ سام، وحام، ويافث)).
حين نجيء لنرى كيف كان رد حمدان على مقترحات الملك يوحنا، التي اتسمت بكثير من الود، ومن المعقولية، والعملية، يتضح لنا الفارق الهائل بين العقليتين؛ الحبشية والمهدوية. فقد جاء في رد حمدان أبوعنجة، على رسالة الملك يوحنا تلك، كما جاء في كتاب القدال (المهدية والحبشة)، المشار إليه عاليه: (( وأما طلبك للصلح منا، وأنت باقٍ على كفرك، فبعيد بعد المشرقين، ودليلٌ على ضعف عقلك، وفراغ ذهنك، فيا لك من سفيه، ويا لك من جاهل. أتريد منا صلحاً ومؤاخاةً ولم تدخل في الدين الحق، وكتاب الله ناهٍ عن ذلك؟ فإن رمت الصلح فقل مخلصاً من قلبك: "أشهد ألا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله ... وإلا فإنا نقاتلكم، ونخرِّب دياركم، ونُيَتِّم ... أطفالكم، ونغنم أموالكم))!!
لقد ظللنا، نحن الذين ورثنا التركة المهدية بخيرها، وبشرها، ننظر إلى المهدية كفترة حكم وطنية سودانية قامت بطرد الدخيل من البلاد، وأعطت السودان هذه المساحة البالغة السعة، كما وضعت بسنوات جهادها التي قاربت العشرين، الملامح الأولى لقومية القطر المسمى السودان. وكل ذلك صحيح لا مراء فيه. غير أننا لم ننظر بتوسعٍ بعد، إلى جانب التطرف فيها. ولم نعرض بعد بالرصد الدقيق والتحليل للفظائع التي ارتكبتها في حق مواطنيها. ولم نحلل التقلبات التي ألمت بها فحولت قوتها العسكرية الجهادية من نصيرة للمظلومين، إلى مجرد عصابات للنهب والسلب والتنكيل بالضعاف، في نهايات أمرها. كما لم نعرض أيضاً، وبالاستفاضة العلمية المدققة، إلى انصرافها عن رؤية الواقع على هدى العقل، وإغراقها في التعويل على الغيبيات. ولعل تقصيرنا في هذا المنحى، هو الذي قاد إلى أن تتكرر التجربة المهدوية في تاريخنا السياسي المعاصر، مرة أخرى. وإن المرء ليحمد للراحل الدكتور محمد سعيد القدال، وللدكتور منصور خالد، وللأستاذ كمال الجزولي، وللدكتور أحمد إبراهيم أبو شوك، وغيرهم ممن تناولوا المزاج السودانوي والحقبة المهدوية، ما تفضلوا علينا به من بدايات طيبة في مضمار تصنيع جرعات علاجية، نرجو لها أن تسهم في مشوار شفائنا من مرض النظرة الشوفينية "الباتريوتية" patriotic الغرة إلى التاريخ.
ما أشبه الليلة بالبارحة!
في مقاله المشار إليه عاليه، لم ينس سيساي أسيفا أن يعرج على عراب التجربة الإسلاموية في السودان، الدكتور حسن الترابي، وأحلامه التمكينية الباكرة، وأحلام قبيله من المستلبين دينياً بالمزاج الأجنبي، باجتياح القرن الإفريقي "إسلاميا". يقول أسيفا، مرتكزا على ما أوردته "آفريكا كونفيدنشيال"،Africa Confidential ، منسوباً إلى (تيكلى 1996Tekle, )، أن تقارير ترددت أن الدكتور حسن الترابي تنبأ وتمنى أن تدمر أثيوبيا المجاورة للسودان، نفسها بنفسها، في المستقبل المنظور، الأمر الذي سيمهد الطريق لتأسيس كيانات سياسية إسلامية تمتد من السودان إلى المحيط الهندي. ولقد دلت الأحداث التي انتظمت القرن الإفريقي عبر عقد التسعينات، كيف أن أهل الهضبة في كلٍّ من إثيوبيا وإرتريا أعدوا عدتهم لمواجهة غوائل النظام السوداني الجديد، الذي لم يُخْفِ تأدلجه، ونواياه التوسعية الإسلاموية. ولا غرابة إذن أن آوت إثيوبيا الحركة الشعبية لتحرير السودان، وآوت إرتريا تحالف العميد عبد العزيز خالد، كما دعمت جبهة الشرق. ولولا هذه الضغوط الكثيفة المؤثرة، التي أضطرت الجارتان اضطراراً إلى ممارستها لما عرف إسلامويونا حجمهم الحقيقي، ولكنا عدنا، كرة أخرى، إلى مربع حمدان أبو عنجة، الذي خلفناه وراءنا منذ ما يزيد عن المائة وعشرين عاماً. وما من شكٍ أن السنوات الأخيرة قد شهدت الكثير من التطور لدى قادتنا في يتعلق بالتعامل العقلاني مع جارتينا الشرقيتين، إثيوبيا وإرتريا. غير أن هذا التطور لم يصل بعد إلى درجة الثبات، لأنه إنما جاء كمجرد رد فعل لنتائج المدافعات، والمصاولات، والمداورات، وعلى ما يتبعها من حسابات الكسب والخسارة الآنية. فهو لم يتجذر بعد في أرضية الرؤية الإستراتيجية الشاملة، والمعرفة العميقة بالإطار العام للحظة الكوكبية الراهنة، وما ينبغي أن يكون عليه أمر خياراتنا، وفق ما أشرت إليه سابقا بالـ context. (يتواصل).