لماذا يصحو مارد الهضبة، ويغفو مارد السهل؟!
-17-
elnourh@gmail.com
نجاح في الخارج وفشل في الداخل!!
يتساءل بعض الناس كثيراً عن سبب نجاح بعض السودانيين في الخارج، خاصة في الدول الغربية، ويُدهشون لسرعة تأقلمهم مع الأطر المتقدمة، وانسجامهم مع تفاصيلها، ووفائهم بمتطلباتها، ومنافستهم، في الأداء، لأهل تلك البلدان، التي يحلون فيها، كمهاجرين. حتى أن بعضهم ليبدو وكأنه قد وُلد في تلك البيئات، وترعرع فيها، وتشرب قيم العمل فيها!! فكثير من السودانيون حصلوا على درجات علمية عالية، في الدول الغربية، وتسنموا الكثير من الوظائف الرفيعة في التدريس، والبحث، والإدارة، وغيرها. كما تسنم كثير من السودانيين وظائف مرموقة في المنظمات الدولية. ولذلك، يتساءل كثيرون، لماذا يتسم السودانيون بالذكاء، والقدرة على الإنجاز، وبأنهم يمكن أن يُعتمد عليهم في أداء الواجبات والمهام، خارج بلدهم، في حين يعاني بلدهم نفسه من مشاكل هيكلية عويصة، أقعدته، ومن تردٍ مضطردٍ، لا يشي بتوقفٍ قريب؟!! وبطبيعة الحال، لا يمكن أن يعزو المرء تلك الظاهرة لسبب واحد، فظاهرة نجاح السودانيين في الخارج، وفشلهم في خلق دولة عصرية في بلدهم، تقف وراءه أسباب عدة. ولكن مما يهمني إظهاره، وتسليط الضوء عليه، في هذه السلسلة من المقالات، هو المناخ المقيد، والمهدر، للطاقات المتجذر في الإرث الثقافي المتراكم الذي شكل مناخ العمل، وقيم العمل، داخل القطر. ويبدو لي أن سبب نجاح تأقلم السودانيين مع قيم العمل الحديثة في البيئات المتقدمة التي يفدون إليها، يعود إلى السودانيين حين ينتقلون إلى تلك البيئات الجديدة، يجدون أنفسهم في مجالٍ مغايرٍ، يتسم بالتحفيز، وبالخلو من القيود التي رسخها المتشكل الاجتماعي العشائري في بيئة العمل السودانية. في البيئة الجديدة التي يفد إليها السودانيون، تكون قيم العمل work ethics قيماً عصرية. ينطبق ذلك في الأساس على الدول الصناعية الكبرى، وبشكل أقل كثيراً، على بعض الدول الخليجية التي أخذت تتبنى، من حيث الهيكل، نظماً، وقيماً للعمل تحاول حذو النموذج الغربي. فالدول الصناعية عبرت من الرعي، إلى الزراعة، ثم إلى التصنيع. وعبرت بذلك من الإقطاع إلى الرأسمالية، كما عبرت من سلطة الكهنوت الكنسي، إلى دولة الدستور، والمواطنة، والحقوق المتساوية. ولذلك، حين ينتقل المهاجر من بلدان كالسودان، تعاني من وطأة القبضة العشائرية وسيطرتها على وعي الأفراد، يجد المرء نفسه مواجهاً ٍببيئةٍ لا تأبه بما رسمه هو لنفسه من صورةٍ مفخَّمةٍ. البيئة الصناعية الحديثة، لا تحفل بالأنا العشائرية المتضخمة، ولا تلقي بالاً لأنفة الوافد من البيات العشائرية، وترفعه عن العمل، خاصة العمل اليدوي. فقيم البيئات العشائرية، لا تصلح عملةً للتداول في الأطر الحداثوية. ولذلك، يصبح أمام الفرد الوافد إلى بيئات الدول الصناعية الكبرى، سبيلان لا ثالث لهما: فإما أن ينسى ذاته المتضخمة، وأنفته، وكبرياءه البدوي، وفكرته النرجسية عن نفسه، فيقهر كل أولئك، وينسجم مع متطلبات البيئة الجديدة، وإما أن يواجه متاعب لا قبل له بها. وعلى رأس تلك المتاعب، الانضمام إلى جيوش فاقدي المأوى، الذين يهيمون على وجوههم في الشوارع، يفترشون الأرصفة الباردة، ويلتحفون السماء التي لا يكف صقيعها ومطرها عن الهطول!
صدمة البيئة المغايرة:
عندما أتحدث عن الصدمة التي تحدث للوافد من البيئات العشائرية إلى البيئات الحديثة، لا أتحدث حديثا نظرياً، وإنما أتحدث من واقع تجربة هجرتي إلى الولايات المتحدة الأمريكية في بدايات عقد التسعينات من القرن الماضي، ومعاناتي الشخصية في التخلي عن الصورة التي رسمتها لنفسي، وغذتها تربيتي العشائرية، ومعها مناهج التعليم، وربما وسائط الإعلام، التي ظلت تتضافر لترسم للفرد السوداني ما يليق به، وما لا يليق من صنوف العمل. كنت أقدم شهاداتي التي حصلت عليها في السودان، ظاناً أنهم سيحتفون بها، مثلما أنا محتفٍ بها!! غير أنني فُجعت، أنهم كانوا ينظرون إليها، ويمنحوني ابتسامةٍ غامضةٍ تحتمل كل أنواع التفسيرات الممكنة، ويردفون ذلك بأن يعتذروا لي عن عدم وجود عمل. وللإنصاف، لابد لي من أن أثبت هنا، أنهم كانوا يفعلون ذلك معي بطريقة غايةٍ في التهذيب. باختصارٍ شديد، لم يكن أحد يحفل بشهاداتي تلك! بل إن بعضهم لم يستطع أن يفهم ما احتوته تلك الشهادات. فحين تخرجنا من الجامعات في السودان، لم يكن نظام الكورسات شائعاً حينها. وكانت شهاداتنا لا تعكس بالضبط الذي تلقيناه من علم، أو الذي اكتسبناه من مهارات. كما كان أساتذتنا الجهابذة، مغرمين، غراماً شديداً، بمنح الدرجات المتوسطة والمتدنية!!
باختصار شديد، كانت نقودي التي ذهبت بها إلى أمريكا تتناقص، وأنا بلا عمل، أرفض الوظائف البسيطة التي كانت تعرض لي، منتظراً الوظيفة التي تناسب مؤهلاتي. ولو كنت صادقاً مع نفسي، لاعترفت أن مؤهلاتي لم تكن، في حقيقة أمرها، أكثر من حروف، وأرقام، على ورقة! حين تنفد نقودك، وتعجز عن دفع إيجار الشقة، فإنك سوف تجد نفسك، وأسرتك، إن كانت لك أسرة، كما هي حالي، هائماً على وجهك في الشارع، في لمح البصر. ومع تناقص النقود، والاقتراب من حافة هاوية الإفلاس، ما كان أمامي سوى قبول العمل في وظيفة سائق في متجر للبيزا، تنحصر مهمتي في غسل الصحون، وتنظيف المحل، حين لا تكون هناك طلبات من الزبائن، وتوصيل الطلبات إلى البيوت حين تبدأ الطلبات. لقد ذهبت شهادتي الجامعية، وسنوات التدريس الثمانية عشر التي أمضيتها في المدارس المختلفة في السودان، وفي سلطنة عمان، أدراج الرياح، أو down the drain، كما يحلو للأمريكيين التعبير، في مثل هذه الأحوال. قبلت وظيفة البيزا مكرهاً، وانتابني إحساس ممض بالخجل من جراء التمريغ الذي حدثت لكبريائي العشائري. ولو علمت عشيرتي في ود الترابي بأن "أستاذ النور" عمل في توزيع البيزا على المنازل، وفي غسل الصحون، وتنظيف الواجهة الزجاجية للمحل، لأقاموا عليَّ مأتماً وعويلا. ولا أريد أن أفصل في الحديث عن معاناتي النفسية التي عانيتها، وأنا أحاول أن اقنع نفسي بقبول ما جرى لي، فقد كانت التجربة، في جملتها، معاناةً كبيرة. غير أن تجربة العمل نفسها أسهمت في إخراجي، من وعيي العشائري بذاتي، وجعلتني أقرب إلى تفهم الأطر الحداثوية. خاصة حين وجدت أحد المتقاعدين من وظيفة مرموقة يعمل معي جنباً إلى جنب، ولا يعاني المشاعر التي أعانيها!! فقد قال لي إنه يكره أن يبقى في البيت طيلة اليوم بلا عمل، وأن الساعات التي يعملها في متجر البيزا تخرجه من ذلك الإحساس الممض بالفراغ، كما أنها تجعله يحرك جسده، وهو بحاجة إلى ذلك في تلك السن، كما أنها تدر عليه دخلا إضافياً، يرفد راتبه التقاعدي.
الشاهد أن بيئة العمل الحديثة تجبر الوافد على الخروج من الذهنية العشائرية، والعجرفة، والصلف، والاستنكاف عن العمل في الوظائف البسيطة. فلقد أعدُّونا، وهيأونا منذ نعومة أظافرنا، لنكون "أفندية"، ولا شيء غير "أفندية"؛ نمسك بالأقلام، ونجلس على المكاتب، ونزهو بتعليمنا الذي يركز على تخريج أصحاب ياقات بيضاء، خارج الإطار القيمي الذي خرَّج أصحاب الياقات البيضاء، في سيرورات الدول الصناعية!! فنحن قد حولنا الياقات البيضاء إلى مجرد بريستديج فارغ من أي محتوى نافع. فالأفندي، صاحب البدلة والكرافتة، الممسك بالقلم الفاخر، الجالس على المكتب عندنا، ليس في حقيقة أمره سوى راعٍ من رعاة العشيرة. ولا عيب في الرعي، بطبيعة الحال، فالرعي مهنة شريفة، وهو نشاط مارسه سيد البشر في صباه، وإنما العيب في ما ينطوي عليه ذلك الأفندي من تضخم الذات العشائري، ومن المسلك العشائري، ومن الاستسلام للمحسوبية العشائرية، ولكل الروح العشائري المناقض لقيم الحداثة، والهادم لها بجهد لا يني. الشاهد، أن البيئات الحداثية التي تعتمد المنافسة، وتعتمد المُحَاسبية accountability تجبر الفرد الذي يفد إليها على إعادة إنتاج نفسه، من جديد، وفي لمح البصر!! فالبيئة الجديدة، العصرية، المنضبطة، التي تركت وراءها تقاليد القبيلة والعشيرة، تصبح هي بيئته الجديدة، التي لا مندوحة له من الوفاء بمتطلباتها، باعتناق قيمها، وإعلائها، ومد قامته، ومطها، للوفاء بكل توقعاتها. ويجعلني ذلك أعود للمقارنة بين الهضبة والسهل، وأثر التواصلية الحضارية، كما في حالتهم، والانقطاع الحضاري، كما في حالتنا، على تشكيل الشخصية. ولو قارنا عدد أهل الهضبة الذين امتلكوا أعمالا تجارية في الولايات المتحدة، بأهل السهل الذين امتلكوا أعمالا تجارية هناك، لانقطعت المقارنة تماماً.
تذويب الفرد في ذات الجماعة:
في حين تركز البيئات الحداثية على إبراز فردية الفرد، وعلى وضعه أمام واجباته، وتحرص على محاسبته على التقصير، نجد أن البيئة العشائرية تسعى بكل الوسائل على إذابة الفرد في ذات الجماعة، والتماس الأعذار له، وإعفائه من مسؤولياته. وحين تقوم البيئة العشائرية بذلك، فهي تنتقص تماهي ذلك الفرد مع قيم الحداثة. تلف البيئة العشائرية الفرد الذي يعيش فيها بخيوط متشابكة من القيود الاجتماعية، والواجبات "التطييبية"، الروتينية، المبددة للوقت وللجهد. ولقد سبق أن أشرت إلى ذلك في خاتمة كتابي: (مهارب المبدعين: قراءة في السير والنصوص السودانية)، الصادر عن دارك مدارك في الخرطوم والقاهرة في العام 2010. فقد أوردت في مسالة تبديد العلاقات الاجتماعية لوقت الفرد، ما ذكره الشاعر الراحل، صلاح أحمد إبراهيم. في حوار أجراه معه الأستاذ، معاوية جمال الدين. وتم نشره في مجلة كتابات سودانية، التي يصدرها مركز الدراسات السودانية، في العدد أربعين، ص 42. قال معاوية لصلاح أنه ـ أي معاوية ـ ومعه آخرون، يعتقدون أنه كان في وسع صلاح أن يعطي أكثر مما أعطى، ولكنه لم يفعل، فما السبب؟ فرد عليه صلاح قائلا: ((المجاملات الاجتماعية تستهلك وقتا غالياً. هذا لا ينطبق على صلاح وحده. المبدعون في السودان يقاسون ذلك الشيء فإما (الفاتحة) أو العمل الذي بين يديك .. الزائر ـ مجيئه في الوقت الذي يحلو له، ويبقى لديك المدة التي يراها، وأنت ليس لك أن تقول له معذرةً، ولكن لدي عمل، فذلك سوء أدب. في الخارج ليس هناك شيء من هذا، وعلاقات المرء الاجتماعية محدودة بالقدر الضروري، وليست بمثل هذه الملامية، كان الله في عوننا جميعا)).
ما ذكره صلاح في رده على معاوية يوضح كيف أن شبكة الواجبات الاجتماعية إنما نُسجت أصلاً لتطويع الفرد ومحق ذاته في ذات الجماعة، ليصبح قصارى همه هو تسقط الرضا الاجتماعي، والانمحاق في الكيان الجمعي للجماعة، بحيث لا تبقى لفرديته باقية. هذه المظلة الماحقة لا تستثني أحدا، ولا تفرق بين وقت أحد وآخر، ولا بين طاقة فرد وآخر. إنها تخلق من الجميع "متوسطا" حسابياً فيه يتساوى الجميع. هذا، في حين أن الإبداع فردي، والإنجاز فردي، والتفوق فردي، والاختراقات الكبيرة التي غيرت وجه الحياة، كلها، إنما أتت من اجتراحات فردية. ولذلك، فمجرد أن يخرج السوداني من بلاده، يصبح شخصاً آخر. وما ذاك إلا لأن حمولاً ثقيلة تنزل عن كاهله. إنها تنزل عن كاهله بمجرد خروجه!! وحين يعقب نزول تلك الحمول الثقيلة التأهيل والتدريب العصريين، وتنضم إلي ذلك متطلبات ومحفزات البيئة الجديدة، الضابطة، يصبح الأداء مختلفاً تماماً.
إرثان متشاكسان:
للسودان، من وجهة نظري، ارثين اثنين: إرث موجب، أساسه قيم الإنسان المتحضر، المستقر، الذي عمر وادي النيل منذ آلاف السنين. وقوام هذا الإرث، الشخصية التي مخضتها، في الحقب الأقدم، الديانات النوبية القديمة، ثم الديانة المسيحية، ثم التصوف الإسلامي. هذا الإرث هو الذي خلق السمات التي نعتد بها، والتي يرى الآخرون أننا نتميز بها. اتسم السودانيون بالأمانة، وبأنهم يُمكن أن يكونوا محل ثقة. ولقد سبق أن أوردت في بدايات هذه السلسلة تزكية النبي صلى الله عليه وسلم للشخصية النوبية القديمة. هذا الإرث لا يزال موجوداً، وهو الذي يميزنا عن غيرنا. غير أننا نسنا هذا الإرث، وأخذنا نعزو سماتنا الإيجابية لأسباب أخرى.حين وفد المتصوفة إلى السودان، بنوا مناهجهم، ومقاصد منهاجهم، على القيم الموجبة من الإرثين النوبي والمسيحي، وأضافوا إليه إضافات شديدة الأهمية، ناسب احتياجات مجتمعاتهم في تلك الأزمنة. غير أن هذا الإرث بأضلاعه الثلاثة هذه، أضحى إرثاً مغطىً عليه بإرثٍ آخرَ، سالبٍ، وهو إرثٌ طرأ لاحقاً، فهو حديثٌ نسبياً. هذا الإرث الثاني إرث ذو ضلعين تمثلهما البداوة الوافدة، والفقه المدرسي الوافد. هذا الإرث الطارئ الذي غطى على الإرث الأول، مغرق في الشكلانية، وفي الاستمرارية عن طريق الإنكار للنقائص. ولقد طغى هذا الإرث الثاني، ثنائي الأضلاع، وطفا على سطح حياتنا، وغطي على الإرث الأول، وهمشه، ولكنه لم يقض عليه تماماً. وقد بلغ من سيطرة الإرث الثاني الطارئ هذا أن أفقد التصوف جوهره، وجعل المتصوف يباري الفقيه في الزلفى إلى السلطان!!
حين يخرج السوداني اليوم من البلاد يتعطل فيه الإرث البدوي القبلي العشائري الفقهي، وتنطلق منه الطاقات المتجذرة في الإرث الروحاني الأول. وهذا، من وجهة نظري، يمثل جانباً من السر في نجاح السودانيين الذين تلقوا تعليماً جيداً، خارج حدود بلدهم، ووجدوا فرصة العيش في بيئات تقدس العمل، والانضباط، والحيدة!! ولذلك، لابد لنا من أن نميز بين هذين الارثين، وأن نعمل على تغليب الإرث الأول القديم، على الإرث الثاني الطارئ العارض. فالشخصية السودانية بخير، حين تنطلق تصرفاتها، من معدنها الأصلي الذي لم يصل التآكل إلى مركزه. فقد غطت على قلب المعدن الأصيل شوائب عارضة. فجذوة الانطلاق في نفوس السودانيين لا تزال حية، ولكن غطى عليها رمادٌ كثيف. هذا الرماد الكثيف تمثله قيم البداوة والعشائرية السالبة، مضافا إليها الفقه المدرسي الشكلاني، الذي يحفل بالمظهر الفارغ، ويتجانف عن الجوهر الثمين. فلو بعثرت رياح الفكر العاصف، الناقد، عنها هذا الرماد، فإنها سوف تتضرم من جديد. وعندها يحدث الانطلاق، الذي لا توقف بعده.
لقد اعتنقت ما تسمى بالحركة الإسلامية السودانية ـ وهي حركة مستلبةٌ، متجذرةٌ في السالب والمقيِّد الآتي من الخارج ـ الفقه المدرسي الشكلاني. وحين تشظت تلك الحركة، وفقدت قوة دفعها الأولى، وانبهمت أمامها المسالك، لم تجد أمامها غير العشائرية، لترتد إليها. ولذلك فإن التآكل الذي أصاب الأخلاق، وقيم العمل، وأصاب التمدين، أو الـ civility، في العشرين سنة الأخيرة، في السودان، غير مسبوق في تاريخ السودان على الإطلاق. ومع هذا التردي المروع، ازدادت حالة الإنكار، فوصلت هي الأخرى معدلاتٍ غير مسبوقة! كما ازدادت، أيضاً الشكلانية والمظهرية، لتغطي على الإحساس المفجع بالفشل. طغا الخطاب الديني الفارغ من أي محتوى حقيقي نافع، وكثرت مظاهر التدين الفارغة من أي مردود إيجابي، وانحدرت اللغة اليومية لتسقط في مستنقعٍ زنخٍ من الببغائية. وهكذا تراجعت العقول والفهوم، وانحدرت الحالة في جملتها إلى دركٍ سحيقٍ من الشكلانية الفقهية، ومن "النفخة" العشائرية، وهكذا اتسعت الشقة بيننا وبين واقع العصر اتساعاً موبقاً. ولذلك فإن ما سمي بـ "المشروع الحضاري" تحول إلى ردة حضارية بالغة الفظاعة. (يتواصل).