ليس من شاهد كمن سمع … بقلم: د. عمر بادي

 


 

د. عمر بادي
24 February, 2009

 


ombaday@yahoo.com
أثناء إجازتي الأخيرة في السودان في الشهر الماضي , كنت أسكن في حي جديد في حلفاية الملوك , و بحكم أن غالبية البنايات من حولي لم تكن مكتملة , فإنها كانت تعج كالعادة بأسر و أعداد من الإخوة من جنوب السودان .بحكم الجوار تعرفت علي بعضهم و كنا نتبادل التحايا متي إلتقينا . كنت كمن يعيش في منطقة ما في جنوب السودان بحكم تلك الجيرة ! أستمع و أشاهد الأطفال يلعبون في الطرقات و يتحدثون بلغاتهم المحلية و بالعربية إذا كانوا من قبائل مختلفة , و أري الكبار رائحين غادين , و في الأمسيات يتجمعون في بيت مجاور و يتسامرون و يحتسون مشروباتهم المخمرة و أحيانا ترتفع أصواتهم في مشادات كلامية تعقبها ضحكات أحسها نابعة من الأعماق , ثم تحين بعد ذلك فقرة الغناء فتتضارب العصي و الإيقاعات و ترتفع الزغاريد النسوية , و هكذا يستمر عرضهم الي ان أنام , و في الصباح ألتقيهم أمام الدكان الذي بجوار بيتي يتناولون في مجموعات مختلطة الأعراق إفطار الفول و ال( بوش ) , بينما تجلس قربهم إحدي فتيات الجنوب و أمامها ( عدة ) الشاي و القهوة و الكركدي ... مع تكرار إلتقائي بهم صرت أتجاذب معهم ( الونسة ) و السؤال عن الأحوال و عن الجنوب و العودة الطوعية . كانوا يقولون إجابات متقاربة , تتمحور في أن فرص العمل الحر في الشمال أكثر , و كذا فرص تعليم أبنائهم , و أن الجنوب في الأرياف خارج المدن    ( لسه عليه شوية ) ! هذا فعلا هو الحاصل في أرض الواقع .
في الأطراف الشرقية لمدينة الخرطوم بحري و كذا في وسطها في مواقف البصات كان الحضور الجنوبي كما هو قبل أعوام مضت . أيضا في الخرطوم في السوق الأفرنجي و علي البرندات إحتشد التجار من أبناء الجنوب يعرضون تجارتهم للمشترين من الجنوبيين و الشماليين . طيب , أين العودة الطوعية ؟ و أين ما يردده دعاة الإنفصال و حارقو بخور النعرات و الأحقاد و الفتن ؟ أين ما يردده مثقفو الجنوب ضاربو طبول الإنفصال لحاجات في أنفسهم ؟ و أين دور ( الشيالين ) من الشماليين الذين يرددون ما يقوله هؤلاء المثقفون و كأنهم طابور أكثر من خامس ؟ لطالما ناشدت الكتاب أمثال هؤلاء أن يقولوا خيرا في منعطفنا الخطير هذا أو ليصمتوا , دون العودة الي الماضي بأغراض آنية و مستقبلية , و ضربت لهم الأمثال بنيلسون مانديلا العظيم بعد إنتخابه رئيسا لجنوب أفريقيا و نظرته الي الوطن الموحد الذي تتساوي فيه معاني المواطنة , بعد ثلاثمائة عام عاني فيها الأفارقة الأمرين من سياسة الأبارتيد البغيضة و قضي فيها مانديلا سبعة و عشرين عاما من عمره خلف القضبان . لا أتوقع أن يكون أحد أكثر حقدا علي البيض من مانديلا , لكنه أثبت العكس و إستحق أن يكون رمزا عالميا و مثالا يحتذي . علي نفس الطريق سار باراك أوباما و مؤيدوه و لم نسمع في حملته الإنتخابية أي نعرات عنصرية , و حتي بعد فوزه لم يردد أحد شيئا من أحقاد الماضي في عهود العبودية , بل تجاوزوا كلهم ذلك و سالت دموعهم من فرحة الإنتصار التي تكللت بها نضالاتهم الطويلة عبر السنين . لقد تعدي الأمر ضيق العنصرية الي رحابة العدالة الإنسانية . لا ننسي في هذا مثالنا الناصع في الدكتور جون قرنق عند قدومه الي الخرطوم بعد إتفاقية نيفاشا و إستقبال كل الخرطوم له بالملايين في المطار , لم يكونوا كلهم يمثلون الحركة الشعبية أو مواطني الجنوب , لأن جون قرنق كان وحدويا و كان طرحه عن السودان الجديد كما يراه و لم يكن عنصريا مشبعا بالأحقاد !
أستغرب أن يقول أحد المثقفين أن مؤيدي الإنفصال يمثلون 90% من سكان الجنوب , و لا يفتأ ذلك المثقف ذو المنصب الكبير و لا يمل من ترديد ظلم الجلابة للجنوبيين زرعا للفتنة و لحاجة في نفسه , و لا يفتأ طابوره الخامس من العودة تاريخيا لظلم الشماليين للجنوبيين منذ معاهدة ( البقط ) بين عبد الله بن أبي السرح و ملك النوبة منذ أكثر من ألف سنة , و التي كانوا بموجبها يدفعون أعدادا من الرجال سنويا الي الدولة الإسلامية في مصر , و كان النوبيون يأتون بهؤلاء العبيد من الجنوب! تخيلوا هذا , و من كان يسكن منطقة عاصمتنا القومية آنذاك ؟ بل من كان يسكن السودان الشمالي ؟ و الإجابة أنه كان يسكنه السود , أما هؤلاء العبيد كما نعتهم فقد كانوا أسري كما كان العرف آنذاك , و كانوا يأخذونهم الي مصر كجنود في الجيوش و ليس كعبيد . في ذلك الوقت لم يكن الجنوبيون خاصة النيليين منهم موجودين , لأنهم قد أتوا لاحقا مهاجرين من أثيوبيا و من الشمال كما يقولون .
ما الغرض من زرع الأحقاد في عقول القراء ؟ كل الكتابات عن ظلم الجلابة للجنوبيين تتمحور في فترات سابقة , بمعني أنها حديث عن الماضي , إن صح , لكنهم يريدون الضرب عليه لحاجة في أنفسهم . لماذا لا يتجاوزون الماضي إن صحت إدعاءاتهم ؟ لماذا لا يفكرون في الحاضر و يقدمون أطروحات للمستقبل ؟ بكل وضوح أقول إنهم ينشرون ثقافة الكراهية ! التجار في الجنوب في ذلك الوقت لم يكونوا كلهم من الشماليين الجلابة , بل كان معظمهم من اليونانيين و الإيطاليين و كانوا يمتلكون البقالات الكبيرة التي بها أقسام للخمور المستوردة و للملحات كالأجبان و الزيتون لزوم    ( المزة ), و كان التجار الشماليون يتاجرون في السلع التي يحتاجها المواطنون و كانوا يخرجون الزكاة و يوزعونها علي فقراء الجنوبيين و لكن لا أحد من الطابور الخامس يهاجم هؤلاء التجار الأوربيين الجشعين و الذين كونوا الشركات الكبري بعد ذلك .
العزلة هي التي أبعدت الجنوبيين عن إخوانهم في الشمال , و إن تكن للحرب محمدة فهي في نزوح الجنوبيين الي الشمال جراء ويلاتها , و عندما إحتكوا بالشماليين تعايشوا معهم و إندمجوا و صاروا كمن سبقوهم من قاطني الديوم الذين أضحوا شماليين . إن نزوع الإخوة الجنوبيين الي الشمال كان في مجموعات صغيرة منذ عقود مضت و يتمثل في الذين إحتكوا بالشماليين في الجنوب و قدموا معهم الي الشمال لما وجدوا فيهم من صفات حميدة .
لقد نصت إتفاقية نيفاشا علي أن تصدر الهيئة التشريعية القومية قانون إستفتاء الجنوب , و أن تنشيء هيئة رئاسة الجمهورية مفوضية لذلك . سوف يكون الإستفتاء في عام 2011 , و حسب الإتفاقية أن يعمل الطرفان الموقعان في نيفاشا لتكون الوحدة جاذبة . لكن ما يحدث حاليا غير ذلك , خاصة من صقور الحركة الشعبية الإنفصاليين . إنهم يكرسون جهدهم لزرع الأحقاد بدل المحبة , و يسعون الي تعريف المواطنة للجنوبيين بالذين يقطنون منهم في الإقليم الجنوبي , مبعدين بذلك الجنوبيين في الشمال و في دول المهجر و دول اللجؤ المجاورة . إن تعريف المواطنة يجب أن يكون كما هو في كل دول العالم , يعتمد علي الخلفية العشائرية و التزاوج و الإقامة و التجنس .هذا  التعريف يضم كل أبناء الجنوب أينما كانوا , و هؤلاء يمثلون الطبقة المستنيرة بحكم خروجهم عن طوق العزلة و إختلاطهم بالشعوب الأخري , خاصة الشماليين , فعرفوا حقيقة الشعب السوداني الفريد في أخلاقه و تعامله , و الذي يشهد له الأعداء بذلك قبل الأصدقاء . إنهم سوف يكونون رصيدا للوحدة المرتقبة, و سوف يري المثقفون الجنوبيون الإنفصاليون و أشياعهم من الطابور الخامس من الشماليين الي أي منقلب سينقلبون ! 

 

آراء