مانشستر تحتضن مؤتمراً متميزاً لشباب الأطباء السودانيين
د. أمجد إبراهيم سلمان (استشاري طب الأسرة)
17 May, 2022
17 May, 2022
في مقالٍ سابق في مارس 2022 عن مؤتمر الرعاية الصحية الأولية في دولة الامارات العربية المتحدة بعنوان " خرجنا منهم مليئين بالجمال حتى غازلنا الناس في الشوارع" تحدثت بإسهاب عن ذلك المؤتمر و زملائنا من أطباء الأسرة السودانيين في تلك البلاد و الذين أكرموا وفادتنا حيث كان تصادف حضوري للمؤتمر وجود وفد من المنظمة السودانية البريطانية للرعاية الصحية الأولية (سيبكا) مكوناً من د. حسام محسن السكرتير العام للمنظمة و د. مروة جبريل سكرتيرة العلاقات الخارجية ، و حدثت لقاءات ثنائية مثمرة بين المجموعتين و قد قدمت لي دعوة للمشاركة في مؤتمر (سيبكا) المزمع عقده في 14 من مايو الجاري في مدينة مانشستر بالمملكة المتحدة كمتحدث في ورشة الفرص العملية لطبيب الأسرة بعد استكمال التدريب.
وصلت للمدينة في الصباح الباكر من يوم الجمعة 13 مايو رغماً عن أنف الدلالات السالبة لهذا اليوم في الثقافة الأنجلوساكسونية ، و كان لدي زيارة أسرية مهمة لرؤية أخي أيمن و أسرته الأثيرة في مدينة كارديف و التي حالت ظروف الكورونا من زيارتهم خلال الأعوام الماضية رغم قدوم ضيف عزيز لأسرتنا و هو الطفل زين و الذي شارف على إكمال عامه الأول و لم تكتحل أعيننا بمرآه الجميل ، للأسف استغرقت رحلة الذهاب و الإياب ثمانية ساعات كاملة بالقطار تخللها لقاء لمدة 45 دقيقة كانت بالكاد كافية لتناول كوب من القهوة ، لكن كما قال الشاعر حميد " إيه الدنيا غير لمة ناس في خير أو ساعة حزن" ، و قفلت في رحلة العودة إلى مدينة مانشستر التي رأيتها بانطباع مختلف تماما عن زيارتي لها في العام 2017 ، حيث بدت لي أكثر ألقاً و بهاءً و جمالاً عن سابق عهدي بها ، أم لعله الجو الصحو الذي صاحب هذه الزيارة الخاطفة ، و عندما سألت شابة أنيقة يبدو أنها متجهة إلى أمسية مانشسترية صاخبة هل وصلنا المحطة الرئيسية استرسلت في اجابتها و سألتني من أين قدمت و عندما ذكرت لها أن طائرتي هبطت صباح اليوم من الدوحة أرسلت ضحكة مشاكسة و قالت "يبدو أنك حملت لنا هذه الشمس من صحرائك تلك" ، في إشارة إلى أغنية "إحمل أجوائك معك" الإنجليزية المعروفة فقلت في سرّي (مصطفى سعيد أتاريه ما خاتي عليكن).
في مساء الجمعة قدم مضيفي د. حسام و بمعيته زميله في لجنة (سيبكا) و دفعته في جامعة الخرطوم د. أحمد كرّار (مسؤول المكتب الإعلامي في المنظمة) إلى فندق المؤتمر الواقع في مركز المدينة النابض بالحياة في تلك الأمسية الدافئة نسبياً، تناولنا عشاءً هندياً أرسلنا شعوريا إلى تخوم تلك البلاد بينما تحدثنا عن تفاصيل يوم الغد الحافل و التفاصيل المُكّمِلة لمحاضرات المؤتمر. و الذي علمت أنه يقام بالتنسيق بين منظمة (سيبكا) و منظمة شباب الأطباء السودانيين في المملكة المتحدة (سجدا) ، في واقع الأمر مجرد فكرة التنسيق أعطتني إحساساً إيجابياً فذلك يعني أن جسوراً مشتركة قد أقيمت ستعود بخير كبير على كل الأطراف و على الوطن في نهاية المطاف.
بدأ المؤتمر باكراً ، حيث تقسّم الحضور على قاعتين متجاورتين ، شهدت كلتاهما جلسات المؤتمرين المنفصلة ، مع جلسة مشتركة قدمت فيها محاضرتين حول تحديات اللغة و العمل للأطباء المهاجرين في بريطانيا قدمتها السيدة راتشيل ديكستر خبيرة التواصل ، و جلسة عن الإنطباعات الذاتية عن الممارسة الطبية قدمها بإقتدار د. أحمد كرّار و سأعود لاحقاً لسرد بعض التفاصيل المهمة عن هاتين المحاضرتين.
بداية التسجيل كانت دقيقة حيث نصب شعارا المنظمتين و بوجود المتطوعين من الشباب الذين تشع من عيونهم حيوية العقول و عنفوان الروح ، لسبب ما كانت شعور بعضهم مرسلة كراستات شباب الوطن الأشاوس و كأني بهم يرسلون رسالة تضامن مع رصفائهم في السودان رغم بعد المسافة و كأن شاعرنا محجوب شريف قد عناهم بأبياته الخالدة:
عيونهم برقهن لمّاح
سؤالهم رد
وثّابين أوان الجد
دفاعا ًعن حياض السلم والإفصاح
من التفاصيل الجميلة تحضير غرفة خاصة للأطفال مع تسجيلهم بصورة دقيقة و إلباسهم أساور معاصم مميزة بأسمائهم و تسليمهم لصالة مجاورة مع رعاة أطفال محترفين ، ما عكس اهتمام المنظمتين بضرورة إتاحة كل السبل العملية لمشاركة الطبيبات اللائي صرن العمود الفقري للكوادر الطبية ليس في السودان فقط بل و حول العالم ، حيث تجاوز عدد الطبيبات في مقاعد الدراسة حاجز ال 50% منذ زمن بعيد مما أطلق في وقت مضى مقترحات جريئة أثناء دراستي في هولندا أن يكون هناك تمييز إيجابي لزيادة عدد الذكور في كليات الطب ، أشبه بما نراه في السياسة العالمية حول تمكين النساء بصياغة حد أدنى لهن في البرلمانات و الحكومات حول العالم و يبدو أننا سنشهد تحولات كبيرة و تغيرات تركيبة الأطقم الصحية بولوج الرجال بأعداد كبيرة للتمريض مثلا إلى غيرها من متغيرات العصر.
إفتتح المؤتمر د. حسام محسن نيابة عن د. نصيف منصور (رئيس منظمة سيبكا) و هو الأب الروحي لأطباء الأسرة في بريطانيا و النقيب السابق لنقابة أطباء المملكة المتحدة ، و قام د. حسام بالترحيب بالضيوف الذين قارب عددهم الخمسين طبيبة و طبيباً ، توزعوا بين خريجين قدامى و جُدُد و أطباء تحت التدريب من السنة الأولى إلى الثالثة ، و وضح محدثنا ترتيب جلسات المؤتمر و توزيع القاعات و البرنامج الإجتماعي المسائي ، بعد ذلك تسلّم رئاسة الجلسة بإقتدار د. مصطفي مختار وهو مسئول التدريب في اللجنة التنفيذية ، و علمت لاحقاً أنه من خريجي جامعة الخرطوم أيضاً و يتقلد عدة وظائف في تدريب أطباء الأسرة من الشباب و يعمل أيضا كممتحن للأطباء المتدربين ، و رئيس برنامج تدريب أطباء الأسرة في منطقة (الويست ميدلاند) ، و خلال متابعتي له خلال بقية الجلسات ، خاصة جلسة القيادة تلمست أنه طبيب موهوب معرفياً و لغوياً ، وعلمت من زملائه أنه شاعر مرهف أيضاً ، يجيد انتقاء التعابير السهلة و العميقة لإيصال المعنى و يضرب الأمثلة من الحياة العملية بسهولة و يُسر ، قدمت المحاضرة الأولى موفدتان من المجلس الطبي البريطاني السيدة نكي روبينز و السيدة راشيل بيل حيث قامتا بتقديم محاضرة تفاعلية حول تطوير استراتيجية المجلس إزاء الأطباء الجدد ، و كيف أن الاستراتيجية الثالثة المعمول بها حاليا تم إجازتها قبل عشرة سنوات و حول أهمية معرفة المعوقات و التحديات التي تواجه الأطباء الجدد في بريطانيا ، الملفت كان الطريقة المبتكرة للمحاضرة حيث تم توصيل الحضور عبر كود خاص في الشاشة إلى المحاضرة بحيث تقدم أسئلة للحضور يقوم الحضور بتقديم إجابات فورية عليها و لأنهم موصلين عبر هواتفهم المحمولة مع الشاشة الرئيسية فإن معظم الإجابات و المقترحات تظهر أمامنا كمتابعين للمحاضرة ، أكدت السيدة روبينز أنهم في المجلس حريصون على قراءة كل المقترحات المقدمة و أكدوا أنها ستسجل كسابقاتها من الورش كي يساهم الأطباء الجدد بصورة فعالة في تطوير الاستراتيجية القادمة.
بعد ذلك بدأت الجلسة الثانية المشتركة بين أطباء (سيبكا) و (سجدا) و كان عدد الأطباء مجتمعين حوالي 135 شخصاً و تأملت في تلك العقول النيرة و هي تغادر السودان في هجرة نهائية ، و تحسّرت على هذا الفقد خاصة إذا أخذنا في الاعتبار أن طبيب الأسرة مثلاً يعتني بحوالي 2300 مريض في المتوسط ما يعني أن حوالي 310 ألف مريض ظلوا من غير أطباء في السودان ، و عزائي الوحيد في هذه المقارنة أن اكتساب العلم من قبل هؤلاء الشباب سيعود بالخير الكبير على التعليم الطبي و السودان في نهاية المطاف.
قدمت المحاضرة المشتركة السيدة راتشيل ديكستر و كانت بعنوان تحديات التواصل لخريجي الجامعات الأجنبية في بريطانيا ، حيث ذكرت أنها و بعد خبرة طويلة في التدريب على التواصل استمرت لاثنتي عشرة سنة ، توصلت أن السبب الأساسي لتعقيدات التواصل هي البريطانيون أنفسهم ، و أنها قد صممت تطبيقأً للهاتف المحمول لتطوير مهارات التواصل للأطباء مع المرضى و التعقيدات التي تصاحب ذلك في مجتمعات مختلفة عن المجتمعات التي اكتسب فيها الطبيب معارفه الأساسية ، و مضت بذكاء لتوضح أن إشكالات التواصل مع المجتمع البريطاني ناتجة عن العقلية الجماعية المعقدة للمجتمع البريطاني ، ووضحت خصائص التواصل عبر التعابير عن المرض و الألم و الحزن ، حيث يميل البريطانيون لاستخدام الصيغ الإيحائية في التواصل و يجنحون لعدم المباشرة في الحديث لأنهم يعتقدون أن ذلك نوع من قلة الذوق في المعاملات العامة ، لذا فإذا جنح الطبيب المهاجر حديثا إلى إصدار أوامر مباشرة لمرؤوسيه فإنه قد يعد متعجرفاً و ستتعقد علاقته مع فريقه في مكان عمله ، و من الأمثلة الملفتة تعبيرات البريطانيين على التقليل من الألم فإذا ذكر أحد المرضى أن لديه القليل من الألم فإن ذلك قد يعني أن يعاني من ألم حقيقي لكن التعبير يوحي بغير ذلك.
بعد ذلك أتحفنا د. أحمد كرّار بمحاضرة قيمة عن أهمية كتابة الانطباعات عن الممارسة الطبية خاصة الأخطاء التي تحدث ، لأن توثيق التجارب و التأمل فيها و العودة إليها هي المحفّز الأكبر للتعلّم و تطوير الأداء ، و استعرض د. أحمد بحرفية عالية عدة أساليب و طرائق لكتابة تقييم التجارب و منها دائرة جيبس ، وغيرها ، و بين أن هذه النماذج في تطور مستمر و تغيير دائم ، و أن واضعي ضوابط هذه النظم تعمدوا أن تكون مفتوحة على عدة أساليب لتشجيع الأطباء على الممارسة و بدلاً من تقييم التجارب التوثيقية لشباب الأطباء بأنها مخطئة في الصياغة فإن جوهر تقييم التجارب الطبية مبني على توثيقها و تحليلها و النقاش حولها لأن التجربة التي لا تورث حكمة تكرر نفسها كما قيل في الأثر.
بعد استراحة غداء قصيرة تبادل الحضور فيها النقاشات و كانت فرصة جيدة لبناء جسور معرفة و تبادل أرقام الهواتف كما يحدث في مثل هذه الفعاليات و التي لا يمكن مقارنتها إطلاقاً بأي مؤتمرات تعقد عبر الوسائط الالكترونية و التي ينعدم فيها البعد الإنساني ، قاتل الله الكورونا بقدر ما حجمتنا من حضور مثل هذه الفعاليات المعرفية ، بدأت الجلسة الثانية من المؤتمر بتقديم الدكتورة فانيسا باروت و هي طبيبة أسرة ذات خبرة طويلة و أستاذة تدريس في هذا المجال و نائبة رئيس مؤسسة هيين ، و أطل علينا مرة أخرى د. أحمد كرّار بوجهه الطلق كي يدير هذه المحاضرة القيّمة التي كانت حول الأخطاء الطبية و حتمية التعرض لها خلال ممارسة الطب في بريطانيا و طب الأسرة بصورة خاصة ، كدأب المحاضرين ذوي الدَرِبة ، خلقت د. فانيسا فوراً تواصلاً مع الحضور بحيث عرضت خريطة لإفريقيا ووضحت أنها ولدت في زيمبابوي و تخرجت من جامعة كيب تاون في دولة جنوب إفريقيا ، وذكرت أنها إفريقية الهوى و الروح رغم أنها أوروبية الجينات و المظهر ، فاجأتنا د. فانيسا أنّ الأطباء المهاجرون أكثر عرضة للشكاوى الطبية ، و الرجال يتحصلون على نسبة أكبر من الشكاوى من النساء ، و من هم أكبر من 50 عاماً يتم شكوتهم أكثر ممن هم أصغر سناً ، و أطباء الأسرة أكثر تعرضا للشكاوى من غيرهم من التخصصات ، بعدها طمأنت الحضور بأن ذلك أمر طبيعي مرتبط بذهنية مجتمعية و أنه بالتحضير الجيد يمكن تجاوز معظم الشكاوى و التحضير الجيد لها ، و مضت قدماً حيث نوّهت لأهمية اختيار الألفاظ بصورة دقيقة عند الدعوة لتحقيقات الشكاوى و عدم الجنوح للتبرير و الدفاع عن النفس على شاكلة (.. لكن الوقت كان ضيقاً ، و المريض لم يفهمني بصورة جيدة) لأن وقع هذه التبريرات على المستمعين يوحي بأن الطبيب يمكنه تكرار هذه الأخطاء لأنه لا يعترف بها ، و تذكّرت حينها أستاذي في السنة الثالثة للتخصص د. فريتس فان إكستر الذي كان أيضا عضواً في لجنة الشكاوى الطبية في لاهاي حيث كان يقول دائما ".. في لجاننا التقييمية ، نحن واعون أن الأخطاء واردة جداً في ممارسة معقدة مثل العمل الطبي لكننا نتخوف جداً من الطبيب الذي يتعنت في الإقرار بالخطاء لأن ذلك يعني أن هناك فرصة كبيرة لأن يكرره لأنه لم يتعلم منه و لم يقر به" ، بعدها قدمت السيدة فانيسا تكتيك التعامل مع الشكاوى الطبية المكون من سبعة مراحل و سررنا جداً عندما وضعت الحروف الأولية لتلك المراحل بترتيب نتج عنه كلمة "سودان أوكي" نالت استحسان الزملاء.
المحاضرة التالية كانت عن القيادة و الإدارة و تحدث فيها بعمق الدكتور مصطفى مختار و الذي اختار أسلوب تفاعلي في محاضرته الثرّة و قسّم الحضور لمجموعات و طرح عليهم عدد من الأسئلة ، و قمنا بأداء بعض التدريبات حول فن الاستماع و الأخذ بالرأي الآخر ، و ببراعة وضع الدكتور مصطفى المرآة أمام الجميع كي يبدو الملك عارياً كما يقولون ، تلمسنا تعقيدات المسألة و تباين قدرات الاستماع بين الأطباء حتى في مجموعات صغيرة ، و الفرق في تناول المواضيع بين الطبيبات و الأطباء ، و مضى لتناول مفهوم الزعيم و القائد ، و هل تعيين شخص ما في موضوع مسئولية يعني بالضرورة أنه يتمتع بالكاريزما القيادية اللازمة كي يلهم الناس كي يؤدي عملاً ما ، و بيّن دور الزعماء الروحيين في تغيير حيوات الناس حول العالم ، و شرح علاقة ذلك بالممارسة الطبية في المستشفيات الضخمة بحيث أن يكون لعدد كبير من الأطباء دور كبير و يسمع لرأيه في الاجتماعات حتى و إن لم يكن في مسئولية إدارية كبيرة داخل المؤسسة المعينة ، حيث يلجأ له صغار الأطباء و حتى الإداريين لحل مشاكل شخصية أو تمرير سياسات قاسية داخل المؤسسة المعينة.
المحاضرة الأخيرة كانت بعنوان طبيب الأسرة و آفاق العمل المستقبلي و قدمها د. حسام محسن بتلقائيته المحببة و بروحه المرحة رغم مسئولياته الكبيرة كسكرتير عام لمنظمة سيبكا ، و كانت عبارة عن ورشة تفاعلية تحدثت فيها مع د. طارق أبو القاسم و د. محمد سالم ، و د. أمجد عبد المجيد عن آفاق دخول سوق العمل و ما هي أفضل الطرائق لخوض غماره ، أبتدر د. طارق المحاضرة عن الفرق بين عمل المرتب و عمل المناوبات المتفرقة (لوكم) و أعقبه د. أمجد عبد المجيد الذي قدّم محاضرة عن مزايا و مثالب العمل بمرتب ثابت، كما وضح كلاهما ما هي ميزات كل وسيلة عمل عن الأخرى ، بعد ذلك قدم الدكتور محمد سالم شرحاً مفصلاً عن مزايا العمل كطبيب أسرة مالك للعيادة (كشريك) ، و هو أسلوب متبع في بريطانيا بحيث يكون هناك عدد من 3-4 أطباء يملكون العيادة و يقومون بالإشراف الإداري عليها بجانب عملهم فيها ، و فيها يعمل الأطباء الذين تحدث عنهم د. طارق سواء بمرتب شهري أو كمناوبات مؤقتة (لوكم) عند مرض أحد الأطباء الثابتين مثلاً. اختتمت المحاضرة بورشة حول آفاق العمل في الخليج و عن تجربة عمل طبيب الأسرة الذي تدرب في أوروبا و يأتي للعمل في قطر التي أعمل بها منذ 9 سنوات ، و الوضع هنا يشبه لحد بعيد الإمارات و السعودية لحد ما ، و قمت باستعراض الهرم السكاني في دولة قطر كنموذج و تركيبتها السكانية الفريدة بحيث أن عدد 2.8 مليون شخص يوجد من بينهم 635 ألف إمرأة و حوالي 2.2 مليون رجل و ذلك بسبب وجود أعداد كبيرة من العمال في مشاريع البنية التحتية لكأس العالم و هؤلاء يأتون من دون زوجاتهم أو يكونوا غير متزوجين أصلاً ، و انعكاس ذلك على الممارسة الطبية و العدد القليل لكبار السن نسبة لأن معظم الموجودين في الدولة هم من الوافدين الذين يعودون إلى بلادهم عند التقاعد ما يجعل طب كبار السن قليلاً نسبياً بالمقارنة مع بريطانيا التي يشكل فيها كبار السن الغالبية العظمى من المرضى ، و أخيراً و ليس آخراً قمت بشرح أفضل الطرق للاستعداد للعمل في قطر مثلا من ضرورة استمرارية العمل في وظيفة ثابتة بعد التخرج ، و تعميق المعرفة العملية بداء السكري و أدويته المتعددة ، و أهمية عمل بحثين علميين للتعيين بوظيفة الإستشاري و مميزات تلك الدرجة الوظيفية عن درجة الأخصائي إلى غيرها من التفاصيل.
أختتمت اليوم الدكتورة إشراقة بورشة خفيفة عن الطاقة الإيجابية و جعلها الهادي لنا في ممارساتنا لحياتنا اليومية و كيف أن ذلك ينعكس ايجابياً على عملنا و علاقاتنا بأسرنا و أطفالنا. و تخللت تلك الجلسة نصائح حول التخلص من التوتر و تناول أعقد التحديات بذهن مفتوح و قام بمساعدتها في ذلك زوجها الدكتور أسعد الذي يتمتع بجانب أنه طبيب أسرة محنك بخبرة عميقة في الطب النفسي.
بعد استراحة نصف اليوم كان الختام حفل غنائي بديع بفرقة سودانية متمكنة تم تنظيمه بمجهود مشترك بين المنظمتين استمر حتى منتصف الليل ، من المفاجآت الكبيرة لقائي مع الدكتور إياد الطيب عبد الفرّاج و هو أخصائي قلب في مراحل التدريب النهائية و يعمل في لجنة سجدا التنفيذية لخمسة سنوات متواصلة حيث كان يوم المؤتمر هو آخر يوم له في هذا التطوع النبيل ، أسرتينا تربطهم علاقة امتدت لخمسين عاماً حيث كان والدانا مبتعثان لتدريس اللغة الإنجليزية في ليبيا في السبعينيات و مضى وقت طويل منذ آخر لقاء لنا في ليبيا و أعتقد أنه كان في العام 1992 و لكي لا أظلمه فإياد يصغرني بحوالي 12 عاما على الأقل ، و أيضاً أتيحت لي فرصة مقابلة د. مها عبدالله طبيبة الأسرة التي تعمل بنشاط شديد في منظمة سجدا و التي قابلتها مع زميلاتنا في قطر د. ميساء الأمين و د. مواهب أحمد عباس في مؤتمر لطب الأسرة في ليفربول في العام 2017 و أهتمت بنا آنذاك غاية الاهتمام لذا لم أستغرب من وجودها الجميل فمن جُبِل على العطاء لا يعيش بدونه.
وددت من نقل تفاصيل هذا المؤتمر أنّ التعاون المهني يفتح آفاقاً ضخمة للمهنيين مهما إختلفت تخصصاتهم ، و تنظيم المهاجرين لأنفسهم في مؤسسات مهنية يتيح تجسير المعرفة و تسهيل قدوم العديد من الكوادر الطبية السودانية المؤهلة لكل المجالات المتاحة ، و إذا ما أخذنا في الإعتبار مثلاً أن النقص الذي تعانيه بريطانيا في أطباء الأسرة فقط يبلغ 6000 طبيب و هو عدد كل أطباء الأسرة في دولة مثل بلجيكا مثلاً فتتبين لنا الفرص الكبيرة لشباب الأطباء في السودان للقدوم و التعلم في أرقى النظم الصحية العالمية من ناحية التدريب مع تقديرنا الكامل لأوجه قصور النظام الصحي البريطاني لأسباب كثيرة و معظمها إدارية و اقتصادية ، و أن التنظيم يجب أن يصحبه جهد جماعي فيه إلتزام كبير بالاشتراكات الشهرية للأعضاء و تصور الضغوط الكبيرة على من يتصدون لهذا العمل الذي يجب يساهم فيه الجميع لضمان استمراريته ، و لا يمكن ختام موضوع كهذا بدون إرسال التهنئة للزملاء في أيرلندا و هم يعقدون مؤتمرهم الثالث بمستوى رفيع و بمشاركة أطباء يشار إليهم بالبنان من داخل و خارج السودان ، و نتمنى أن يواصل الأطباء التنسيق فيما بينهم إلى أن يكونوا الأجسام المدنية التي تعبر عنهم جميعاً خاصة نقابة أطباء السودان.
بقلم أمجد إبراهيم سلمان
مانشستر 15 مايو 2022
Whatsapp 0031642427913
amjadnl@gmail.com
بعض الوصلات المهمة
Sudanese British Primary care association (SBPCA)
https://sbpca.org.uk
https://www.facebook.com/Sudanese-British-Primary-Care-Association-SBPCA-106996471390865/
Twitter : @SBPCA2
Sudanese Junior Doctors Association (SJDA)
https://www.sjda.uk
وصلت للمدينة في الصباح الباكر من يوم الجمعة 13 مايو رغماً عن أنف الدلالات السالبة لهذا اليوم في الثقافة الأنجلوساكسونية ، و كان لدي زيارة أسرية مهمة لرؤية أخي أيمن و أسرته الأثيرة في مدينة كارديف و التي حالت ظروف الكورونا من زيارتهم خلال الأعوام الماضية رغم قدوم ضيف عزيز لأسرتنا و هو الطفل زين و الذي شارف على إكمال عامه الأول و لم تكتحل أعيننا بمرآه الجميل ، للأسف استغرقت رحلة الذهاب و الإياب ثمانية ساعات كاملة بالقطار تخللها لقاء لمدة 45 دقيقة كانت بالكاد كافية لتناول كوب من القهوة ، لكن كما قال الشاعر حميد " إيه الدنيا غير لمة ناس في خير أو ساعة حزن" ، و قفلت في رحلة العودة إلى مدينة مانشستر التي رأيتها بانطباع مختلف تماما عن زيارتي لها في العام 2017 ، حيث بدت لي أكثر ألقاً و بهاءً و جمالاً عن سابق عهدي بها ، أم لعله الجو الصحو الذي صاحب هذه الزيارة الخاطفة ، و عندما سألت شابة أنيقة يبدو أنها متجهة إلى أمسية مانشسترية صاخبة هل وصلنا المحطة الرئيسية استرسلت في اجابتها و سألتني من أين قدمت و عندما ذكرت لها أن طائرتي هبطت صباح اليوم من الدوحة أرسلت ضحكة مشاكسة و قالت "يبدو أنك حملت لنا هذه الشمس من صحرائك تلك" ، في إشارة إلى أغنية "إحمل أجوائك معك" الإنجليزية المعروفة فقلت في سرّي (مصطفى سعيد أتاريه ما خاتي عليكن).
في مساء الجمعة قدم مضيفي د. حسام و بمعيته زميله في لجنة (سيبكا) و دفعته في جامعة الخرطوم د. أحمد كرّار (مسؤول المكتب الإعلامي في المنظمة) إلى فندق المؤتمر الواقع في مركز المدينة النابض بالحياة في تلك الأمسية الدافئة نسبياً، تناولنا عشاءً هندياً أرسلنا شعوريا إلى تخوم تلك البلاد بينما تحدثنا عن تفاصيل يوم الغد الحافل و التفاصيل المُكّمِلة لمحاضرات المؤتمر. و الذي علمت أنه يقام بالتنسيق بين منظمة (سيبكا) و منظمة شباب الأطباء السودانيين في المملكة المتحدة (سجدا) ، في واقع الأمر مجرد فكرة التنسيق أعطتني إحساساً إيجابياً فذلك يعني أن جسوراً مشتركة قد أقيمت ستعود بخير كبير على كل الأطراف و على الوطن في نهاية المطاف.
بدأ المؤتمر باكراً ، حيث تقسّم الحضور على قاعتين متجاورتين ، شهدت كلتاهما جلسات المؤتمرين المنفصلة ، مع جلسة مشتركة قدمت فيها محاضرتين حول تحديات اللغة و العمل للأطباء المهاجرين في بريطانيا قدمتها السيدة راتشيل ديكستر خبيرة التواصل ، و جلسة عن الإنطباعات الذاتية عن الممارسة الطبية قدمها بإقتدار د. أحمد كرّار و سأعود لاحقاً لسرد بعض التفاصيل المهمة عن هاتين المحاضرتين.
بداية التسجيل كانت دقيقة حيث نصب شعارا المنظمتين و بوجود المتطوعين من الشباب الذين تشع من عيونهم حيوية العقول و عنفوان الروح ، لسبب ما كانت شعور بعضهم مرسلة كراستات شباب الوطن الأشاوس و كأني بهم يرسلون رسالة تضامن مع رصفائهم في السودان رغم بعد المسافة و كأن شاعرنا محجوب شريف قد عناهم بأبياته الخالدة:
عيونهم برقهن لمّاح
سؤالهم رد
وثّابين أوان الجد
دفاعا ًعن حياض السلم والإفصاح
من التفاصيل الجميلة تحضير غرفة خاصة للأطفال مع تسجيلهم بصورة دقيقة و إلباسهم أساور معاصم مميزة بأسمائهم و تسليمهم لصالة مجاورة مع رعاة أطفال محترفين ، ما عكس اهتمام المنظمتين بضرورة إتاحة كل السبل العملية لمشاركة الطبيبات اللائي صرن العمود الفقري للكوادر الطبية ليس في السودان فقط بل و حول العالم ، حيث تجاوز عدد الطبيبات في مقاعد الدراسة حاجز ال 50% منذ زمن بعيد مما أطلق في وقت مضى مقترحات جريئة أثناء دراستي في هولندا أن يكون هناك تمييز إيجابي لزيادة عدد الذكور في كليات الطب ، أشبه بما نراه في السياسة العالمية حول تمكين النساء بصياغة حد أدنى لهن في البرلمانات و الحكومات حول العالم و يبدو أننا سنشهد تحولات كبيرة و تغيرات تركيبة الأطقم الصحية بولوج الرجال بأعداد كبيرة للتمريض مثلا إلى غيرها من متغيرات العصر.
إفتتح المؤتمر د. حسام محسن نيابة عن د. نصيف منصور (رئيس منظمة سيبكا) و هو الأب الروحي لأطباء الأسرة في بريطانيا و النقيب السابق لنقابة أطباء المملكة المتحدة ، و قام د. حسام بالترحيب بالضيوف الذين قارب عددهم الخمسين طبيبة و طبيباً ، توزعوا بين خريجين قدامى و جُدُد و أطباء تحت التدريب من السنة الأولى إلى الثالثة ، و وضح محدثنا ترتيب جلسات المؤتمر و توزيع القاعات و البرنامج الإجتماعي المسائي ، بعد ذلك تسلّم رئاسة الجلسة بإقتدار د. مصطفي مختار وهو مسئول التدريب في اللجنة التنفيذية ، و علمت لاحقاً أنه من خريجي جامعة الخرطوم أيضاً و يتقلد عدة وظائف في تدريب أطباء الأسرة من الشباب و يعمل أيضا كممتحن للأطباء المتدربين ، و رئيس برنامج تدريب أطباء الأسرة في منطقة (الويست ميدلاند) ، و خلال متابعتي له خلال بقية الجلسات ، خاصة جلسة القيادة تلمست أنه طبيب موهوب معرفياً و لغوياً ، وعلمت من زملائه أنه شاعر مرهف أيضاً ، يجيد انتقاء التعابير السهلة و العميقة لإيصال المعنى و يضرب الأمثلة من الحياة العملية بسهولة و يُسر ، قدمت المحاضرة الأولى موفدتان من المجلس الطبي البريطاني السيدة نكي روبينز و السيدة راشيل بيل حيث قامتا بتقديم محاضرة تفاعلية حول تطوير استراتيجية المجلس إزاء الأطباء الجدد ، و كيف أن الاستراتيجية الثالثة المعمول بها حاليا تم إجازتها قبل عشرة سنوات و حول أهمية معرفة المعوقات و التحديات التي تواجه الأطباء الجدد في بريطانيا ، الملفت كان الطريقة المبتكرة للمحاضرة حيث تم توصيل الحضور عبر كود خاص في الشاشة إلى المحاضرة بحيث تقدم أسئلة للحضور يقوم الحضور بتقديم إجابات فورية عليها و لأنهم موصلين عبر هواتفهم المحمولة مع الشاشة الرئيسية فإن معظم الإجابات و المقترحات تظهر أمامنا كمتابعين للمحاضرة ، أكدت السيدة روبينز أنهم في المجلس حريصون على قراءة كل المقترحات المقدمة و أكدوا أنها ستسجل كسابقاتها من الورش كي يساهم الأطباء الجدد بصورة فعالة في تطوير الاستراتيجية القادمة.
بعد ذلك بدأت الجلسة الثانية المشتركة بين أطباء (سيبكا) و (سجدا) و كان عدد الأطباء مجتمعين حوالي 135 شخصاً و تأملت في تلك العقول النيرة و هي تغادر السودان في هجرة نهائية ، و تحسّرت على هذا الفقد خاصة إذا أخذنا في الاعتبار أن طبيب الأسرة مثلاً يعتني بحوالي 2300 مريض في المتوسط ما يعني أن حوالي 310 ألف مريض ظلوا من غير أطباء في السودان ، و عزائي الوحيد في هذه المقارنة أن اكتساب العلم من قبل هؤلاء الشباب سيعود بالخير الكبير على التعليم الطبي و السودان في نهاية المطاف.
قدمت المحاضرة المشتركة السيدة راتشيل ديكستر و كانت بعنوان تحديات التواصل لخريجي الجامعات الأجنبية في بريطانيا ، حيث ذكرت أنها و بعد خبرة طويلة في التدريب على التواصل استمرت لاثنتي عشرة سنة ، توصلت أن السبب الأساسي لتعقيدات التواصل هي البريطانيون أنفسهم ، و أنها قد صممت تطبيقأً للهاتف المحمول لتطوير مهارات التواصل للأطباء مع المرضى و التعقيدات التي تصاحب ذلك في مجتمعات مختلفة عن المجتمعات التي اكتسب فيها الطبيب معارفه الأساسية ، و مضت بذكاء لتوضح أن إشكالات التواصل مع المجتمع البريطاني ناتجة عن العقلية الجماعية المعقدة للمجتمع البريطاني ، ووضحت خصائص التواصل عبر التعابير عن المرض و الألم و الحزن ، حيث يميل البريطانيون لاستخدام الصيغ الإيحائية في التواصل و يجنحون لعدم المباشرة في الحديث لأنهم يعتقدون أن ذلك نوع من قلة الذوق في المعاملات العامة ، لذا فإذا جنح الطبيب المهاجر حديثا إلى إصدار أوامر مباشرة لمرؤوسيه فإنه قد يعد متعجرفاً و ستتعقد علاقته مع فريقه في مكان عمله ، و من الأمثلة الملفتة تعبيرات البريطانيين على التقليل من الألم فإذا ذكر أحد المرضى أن لديه القليل من الألم فإن ذلك قد يعني أن يعاني من ألم حقيقي لكن التعبير يوحي بغير ذلك.
بعد ذلك أتحفنا د. أحمد كرّار بمحاضرة قيمة عن أهمية كتابة الانطباعات عن الممارسة الطبية خاصة الأخطاء التي تحدث ، لأن توثيق التجارب و التأمل فيها و العودة إليها هي المحفّز الأكبر للتعلّم و تطوير الأداء ، و استعرض د. أحمد بحرفية عالية عدة أساليب و طرائق لكتابة تقييم التجارب و منها دائرة جيبس ، وغيرها ، و بين أن هذه النماذج في تطور مستمر و تغيير دائم ، و أن واضعي ضوابط هذه النظم تعمدوا أن تكون مفتوحة على عدة أساليب لتشجيع الأطباء على الممارسة و بدلاً من تقييم التجارب التوثيقية لشباب الأطباء بأنها مخطئة في الصياغة فإن جوهر تقييم التجارب الطبية مبني على توثيقها و تحليلها و النقاش حولها لأن التجربة التي لا تورث حكمة تكرر نفسها كما قيل في الأثر.
بعد استراحة غداء قصيرة تبادل الحضور فيها النقاشات و كانت فرصة جيدة لبناء جسور معرفة و تبادل أرقام الهواتف كما يحدث في مثل هذه الفعاليات و التي لا يمكن مقارنتها إطلاقاً بأي مؤتمرات تعقد عبر الوسائط الالكترونية و التي ينعدم فيها البعد الإنساني ، قاتل الله الكورونا بقدر ما حجمتنا من حضور مثل هذه الفعاليات المعرفية ، بدأت الجلسة الثانية من المؤتمر بتقديم الدكتورة فانيسا باروت و هي طبيبة أسرة ذات خبرة طويلة و أستاذة تدريس في هذا المجال و نائبة رئيس مؤسسة هيين ، و أطل علينا مرة أخرى د. أحمد كرّار بوجهه الطلق كي يدير هذه المحاضرة القيّمة التي كانت حول الأخطاء الطبية و حتمية التعرض لها خلال ممارسة الطب في بريطانيا و طب الأسرة بصورة خاصة ، كدأب المحاضرين ذوي الدَرِبة ، خلقت د. فانيسا فوراً تواصلاً مع الحضور بحيث عرضت خريطة لإفريقيا ووضحت أنها ولدت في زيمبابوي و تخرجت من جامعة كيب تاون في دولة جنوب إفريقيا ، وذكرت أنها إفريقية الهوى و الروح رغم أنها أوروبية الجينات و المظهر ، فاجأتنا د. فانيسا أنّ الأطباء المهاجرون أكثر عرضة للشكاوى الطبية ، و الرجال يتحصلون على نسبة أكبر من الشكاوى من النساء ، و من هم أكبر من 50 عاماً يتم شكوتهم أكثر ممن هم أصغر سناً ، و أطباء الأسرة أكثر تعرضا للشكاوى من غيرهم من التخصصات ، بعدها طمأنت الحضور بأن ذلك أمر طبيعي مرتبط بذهنية مجتمعية و أنه بالتحضير الجيد يمكن تجاوز معظم الشكاوى و التحضير الجيد لها ، و مضت قدماً حيث نوّهت لأهمية اختيار الألفاظ بصورة دقيقة عند الدعوة لتحقيقات الشكاوى و عدم الجنوح للتبرير و الدفاع عن النفس على شاكلة (.. لكن الوقت كان ضيقاً ، و المريض لم يفهمني بصورة جيدة) لأن وقع هذه التبريرات على المستمعين يوحي بأن الطبيب يمكنه تكرار هذه الأخطاء لأنه لا يعترف بها ، و تذكّرت حينها أستاذي في السنة الثالثة للتخصص د. فريتس فان إكستر الذي كان أيضا عضواً في لجنة الشكاوى الطبية في لاهاي حيث كان يقول دائما ".. في لجاننا التقييمية ، نحن واعون أن الأخطاء واردة جداً في ممارسة معقدة مثل العمل الطبي لكننا نتخوف جداً من الطبيب الذي يتعنت في الإقرار بالخطاء لأن ذلك يعني أن هناك فرصة كبيرة لأن يكرره لأنه لم يتعلم منه و لم يقر به" ، بعدها قدمت السيدة فانيسا تكتيك التعامل مع الشكاوى الطبية المكون من سبعة مراحل و سررنا جداً عندما وضعت الحروف الأولية لتلك المراحل بترتيب نتج عنه كلمة "سودان أوكي" نالت استحسان الزملاء.
المحاضرة التالية كانت عن القيادة و الإدارة و تحدث فيها بعمق الدكتور مصطفى مختار و الذي اختار أسلوب تفاعلي في محاضرته الثرّة و قسّم الحضور لمجموعات و طرح عليهم عدد من الأسئلة ، و قمنا بأداء بعض التدريبات حول فن الاستماع و الأخذ بالرأي الآخر ، و ببراعة وضع الدكتور مصطفى المرآة أمام الجميع كي يبدو الملك عارياً كما يقولون ، تلمسنا تعقيدات المسألة و تباين قدرات الاستماع بين الأطباء حتى في مجموعات صغيرة ، و الفرق في تناول المواضيع بين الطبيبات و الأطباء ، و مضى لتناول مفهوم الزعيم و القائد ، و هل تعيين شخص ما في موضوع مسئولية يعني بالضرورة أنه يتمتع بالكاريزما القيادية اللازمة كي يلهم الناس كي يؤدي عملاً ما ، و بيّن دور الزعماء الروحيين في تغيير حيوات الناس حول العالم ، و شرح علاقة ذلك بالممارسة الطبية في المستشفيات الضخمة بحيث أن يكون لعدد كبير من الأطباء دور كبير و يسمع لرأيه في الاجتماعات حتى و إن لم يكن في مسئولية إدارية كبيرة داخل المؤسسة المعينة ، حيث يلجأ له صغار الأطباء و حتى الإداريين لحل مشاكل شخصية أو تمرير سياسات قاسية داخل المؤسسة المعينة.
المحاضرة الأخيرة كانت بعنوان طبيب الأسرة و آفاق العمل المستقبلي و قدمها د. حسام محسن بتلقائيته المحببة و بروحه المرحة رغم مسئولياته الكبيرة كسكرتير عام لمنظمة سيبكا ، و كانت عبارة عن ورشة تفاعلية تحدثت فيها مع د. طارق أبو القاسم و د. محمد سالم ، و د. أمجد عبد المجيد عن آفاق دخول سوق العمل و ما هي أفضل الطرائق لخوض غماره ، أبتدر د. طارق المحاضرة عن الفرق بين عمل المرتب و عمل المناوبات المتفرقة (لوكم) و أعقبه د. أمجد عبد المجيد الذي قدّم محاضرة عن مزايا و مثالب العمل بمرتب ثابت، كما وضح كلاهما ما هي ميزات كل وسيلة عمل عن الأخرى ، بعد ذلك قدم الدكتور محمد سالم شرحاً مفصلاً عن مزايا العمل كطبيب أسرة مالك للعيادة (كشريك) ، و هو أسلوب متبع في بريطانيا بحيث يكون هناك عدد من 3-4 أطباء يملكون العيادة و يقومون بالإشراف الإداري عليها بجانب عملهم فيها ، و فيها يعمل الأطباء الذين تحدث عنهم د. طارق سواء بمرتب شهري أو كمناوبات مؤقتة (لوكم) عند مرض أحد الأطباء الثابتين مثلاً. اختتمت المحاضرة بورشة حول آفاق العمل في الخليج و عن تجربة عمل طبيب الأسرة الذي تدرب في أوروبا و يأتي للعمل في قطر التي أعمل بها منذ 9 سنوات ، و الوضع هنا يشبه لحد بعيد الإمارات و السعودية لحد ما ، و قمت باستعراض الهرم السكاني في دولة قطر كنموذج و تركيبتها السكانية الفريدة بحيث أن عدد 2.8 مليون شخص يوجد من بينهم 635 ألف إمرأة و حوالي 2.2 مليون رجل و ذلك بسبب وجود أعداد كبيرة من العمال في مشاريع البنية التحتية لكأس العالم و هؤلاء يأتون من دون زوجاتهم أو يكونوا غير متزوجين أصلاً ، و انعكاس ذلك على الممارسة الطبية و العدد القليل لكبار السن نسبة لأن معظم الموجودين في الدولة هم من الوافدين الذين يعودون إلى بلادهم عند التقاعد ما يجعل طب كبار السن قليلاً نسبياً بالمقارنة مع بريطانيا التي يشكل فيها كبار السن الغالبية العظمى من المرضى ، و أخيراً و ليس آخراً قمت بشرح أفضل الطرق للاستعداد للعمل في قطر مثلا من ضرورة استمرارية العمل في وظيفة ثابتة بعد التخرج ، و تعميق المعرفة العملية بداء السكري و أدويته المتعددة ، و أهمية عمل بحثين علميين للتعيين بوظيفة الإستشاري و مميزات تلك الدرجة الوظيفية عن درجة الأخصائي إلى غيرها من التفاصيل.
أختتمت اليوم الدكتورة إشراقة بورشة خفيفة عن الطاقة الإيجابية و جعلها الهادي لنا في ممارساتنا لحياتنا اليومية و كيف أن ذلك ينعكس ايجابياً على عملنا و علاقاتنا بأسرنا و أطفالنا. و تخللت تلك الجلسة نصائح حول التخلص من التوتر و تناول أعقد التحديات بذهن مفتوح و قام بمساعدتها في ذلك زوجها الدكتور أسعد الذي يتمتع بجانب أنه طبيب أسرة محنك بخبرة عميقة في الطب النفسي.
بعد استراحة نصف اليوم كان الختام حفل غنائي بديع بفرقة سودانية متمكنة تم تنظيمه بمجهود مشترك بين المنظمتين استمر حتى منتصف الليل ، من المفاجآت الكبيرة لقائي مع الدكتور إياد الطيب عبد الفرّاج و هو أخصائي قلب في مراحل التدريب النهائية و يعمل في لجنة سجدا التنفيذية لخمسة سنوات متواصلة حيث كان يوم المؤتمر هو آخر يوم له في هذا التطوع النبيل ، أسرتينا تربطهم علاقة امتدت لخمسين عاماً حيث كان والدانا مبتعثان لتدريس اللغة الإنجليزية في ليبيا في السبعينيات و مضى وقت طويل منذ آخر لقاء لنا في ليبيا و أعتقد أنه كان في العام 1992 و لكي لا أظلمه فإياد يصغرني بحوالي 12 عاما على الأقل ، و أيضاً أتيحت لي فرصة مقابلة د. مها عبدالله طبيبة الأسرة التي تعمل بنشاط شديد في منظمة سجدا و التي قابلتها مع زميلاتنا في قطر د. ميساء الأمين و د. مواهب أحمد عباس في مؤتمر لطب الأسرة في ليفربول في العام 2017 و أهتمت بنا آنذاك غاية الاهتمام لذا لم أستغرب من وجودها الجميل فمن جُبِل على العطاء لا يعيش بدونه.
وددت من نقل تفاصيل هذا المؤتمر أنّ التعاون المهني يفتح آفاقاً ضخمة للمهنيين مهما إختلفت تخصصاتهم ، و تنظيم المهاجرين لأنفسهم في مؤسسات مهنية يتيح تجسير المعرفة و تسهيل قدوم العديد من الكوادر الطبية السودانية المؤهلة لكل المجالات المتاحة ، و إذا ما أخذنا في الإعتبار مثلاً أن النقص الذي تعانيه بريطانيا في أطباء الأسرة فقط يبلغ 6000 طبيب و هو عدد كل أطباء الأسرة في دولة مثل بلجيكا مثلاً فتتبين لنا الفرص الكبيرة لشباب الأطباء في السودان للقدوم و التعلم في أرقى النظم الصحية العالمية من ناحية التدريب مع تقديرنا الكامل لأوجه قصور النظام الصحي البريطاني لأسباب كثيرة و معظمها إدارية و اقتصادية ، و أن التنظيم يجب أن يصحبه جهد جماعي فيه إلتزام كبير بالاشتراكات الشهرية للأعضاء و تصور الضغوط الكبيرة على من يتصدون لهذا العمل الذي يجب يساهم فيه الجميع لضمان استمراريته ، و لا يمكن ختام موضوع كهذا بدون إرسال التهنئة للزملاء في أيرلندا و هم يعقدون مؤتمرهم الثالث بمستوى رفيع و بمشاركة أطباء يشار إليهم بالبنان من داخل و خارج السودان ، و نتمنى أن يواصل الأطباء التنسيق فيما بينهم إلى أن يكونوا الأجسام المدنية التي تعبر عنهم جميعاً خاصة نقابة أطباء السودان.
بقلم أمجد إبراهيم سلمان
مانشستر 15 مايو 2022
Whatsapp 0031642427913
amjadnl@gmail.com
بعض الوصلات المهمة
Sudanese British Primary care association (SBPCA)
https://sbpca.org.uk
https://www.facebook.com/Sudanese-British-Primary-Care-Association-SBPCA-106996471390865/
Twitter : @SBPCA2
Sudanese Junior Doctors Association (SJDA)
https://www.sjda.uk