ما بين لا لا لاند وانتينوف … بقلم : بدرالدين حسن علي

 


 

 

 

لا يشكل نجاح فيلم "لا لا لاند" كفيلم موسيقي معاصر في موسم الجوائز الحالي، دليلاً على جودة الفيلم الموسيقي كمنتج فريد من نوعه، بقدر ما هو دليل على تراجع جودة الإنتاجات السينمائية الأخرى هذا الموسم، حيث لا توجد كما يبدو أفلام أخرى قادرة على فرض نفسها على أكاديمية فنون وعلوم الصور المتحركة لانتزاع ترشيحات في فئات الجائزة السينمائية الأبرز.

إنها ذات الزوبعة التي أثيرت حول فيلم " إنترفيو " ، لدرجة أنهم وصفوه بأعظم فيلم في تاريخ السينما العالمية
وفي ذلك انعكاس آخر لا يقل أهمية يتمثل في قوة التلفزيون المعاصرة في انتزاع أفضل المشاريع الدرامية التي كانت شركات الإنتاج السينمائية تحتكرها لنفسها حتى وقت قريب.

ورغم بعض المشاهد المبهرة بصرياً فيه، لا يبدو فيلم "لا لا لاند" جديراً بالترشح إلى 14 جائزة "أوسكار" مختلفة، كرقم قياسي يتشاركه الفيلم الموسيقي الذي يخرجه داميان تشازل مع فيلمي "Titanic" و"All about Eve"، كما لا يستحق الضجة المثارة حولة في موسم الجوائز السينمائية الحالي التي اكتسحها من "غولدن غلوب" إلى "بافتا" التي نال فيها خمس جوائز دفعة واحدة قبل أيام، بما فيها جائزة أفضل فيلم وأفضل ممثلة.

السؤال المنطقي البارز هنا، هل باتت هوليوود غير قادرة اليوم على تقديم إنتاجات كثيرة قيمة تتنافس لجعل المشاهد في حيرة من أمره عند تفكيره بالفيلم الذي يريد تشجيعه في سباق موسم الجوائز كل عام والذي ينتهي بالتفاحة الكبيرة في حفل الأوسكار؟ الجواب على الأغلب هو نعم، خصوصاً أن شركات الإنتاج السينمائية باتت تركز على أفلام الأبطال الخارقين "سوبر هيروز" بدلاً من المشاريع المتنوعة الأخرى التي لا تكتفي بالترفيه والمؤثرات البصرية بل تقدم مضموناً عميقاً كما كان عليه الحال في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.

ويجب القول أن واحدة من أكبر مشاكل "لا لا لاند" أنه يحاول اجترار العصر الذهبي لهوليوود، بداية بكونه فيلماً موسيقياً كأفلام الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، إلى النوستالجيا التي يغرق فيها الفيلم حول لحظات السينما التاريخية في أنحاء لوس أنجلوس، بينما تبدو قصة الحب نفسها مملة و"كليشيه"، مع موسيقى غير قادرة على ملء الفراغ مع شبحي ريان غاسولينغ وإيما ستون من نجاحاتهما السابقة معاً، في أفلام مثل "كرايزي ستيوبد لوف".

من المثير للسخرية مقارنة فيلم "لا لا لاند" وجعله يتفوق في المكانة على أفلام مميزة، وتخديداً حين يصبح الحديث عن النمط السينمائي نفسه أي الأفلام الموسيقية. أفلام مثل "شيكاغو" الحاصل على جائزة أوسكار أفضل فيلم عام 2002 أو فيلم "مولان روج" الأيقوني للنجمة نيكول كيدمان، وفيلم "دانسر إن ذا دارك" الذي أكسب المخرج الدنمركي لارس فون تراير السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي عام 2000، كلها لم تنل 14 ترشيحاً للأوسكار مثل حالة "لا لا لاند"!.

ويوحي الفيلم مع كل الضجة المثارة حوله بإحتضار السينما التي باتت فناً عتيق الطراز، مع تسيّد الشبكات التلفزيونية لمشهد الإنتاجات الدرامية في السنوات الأخيرة، ويبدو أن الصراع الأبدي بين هوليوود ونيويورك كقطبين للإنتاج في الولايات المتحدة بدأ يميل لنيويورك، حيث تتركز كبرى شبكات التلفزيون التي تقدم إنتاجات مبتكرة على كافة الأصعدة، في حين بدأت تظهر شركات إنتاج لممثلين وممثلات سينمائيات تقدم إنتاجات تلفزيونية وتحول أنجح الروايات والقصص إلى سلاسل تلفزيونية، وهو ما شرحته النجمة نيكول كيدمان في حديثها قبل أيام مع صحيفة "نيويورك تايمز" عن شركتها التي تنتج بالشراكة مع شبكة "HBO" سلسلة "بيغ ليتل لايز".

تركيز شركات الإنتاج السينمائية على أفلام الأبطال الخارقين يُستدل اليه بالإحصائيات، حيث تضاعف عدد الأفلام المقتبسة عن مجلات الكوميكس بعد العام 2010 حوالي 12 مرة عما كان عليه في العام 1980، كما ارتفعت الإيرادات من هذا النوع من الأفلام بشكل خيالي من أقل من 400 مليون دولار لكافة الإنتاجات في أعوام الثمانينيات، إلى 1600 مليون دولار العام 2013 وحده!

اللافت هنا أن تقييم هذه الأفلام انخفض بشكل واضح إلى حوالي 50% من الآراء النقدية الإيجابية بعد عام 2010 عما كان عليه في التسعينيات والثمانينيات، كما تشير مواقع أميركية.

الميزانيات الضخمة المخصصة لأفلام الأبطال الخارقين، قلصت ميزانية إنتاجات الأفلام الأخرى، وساهمت في تخلي شركات الإنتاج عن التعاقد مع كبار النجوم في أعمال مشتركة، كما ساهمت في التخلي عن كثير من المشاريع التي تبناها التلفزيون في وقت لاحق بصورة مسلسلات ضاربة، مثل سلسلة "مستر روبوت" الشهيرة التي كان من المقرر صناعتها كفيلم سينمائي في البداية. كما أدى ذلك لتقليص ميزانية شراء حقوق الملكية الفكرية للقصص الحقيقية والروايات والقصص الأدبية التي لم تكن شركات التلفزيون قادرة على شرائها في فترة احتكارية السينما السابقة لها.

من جهة ثانية، تراجعت مكانة السينما، وتحول العصر الحالي إلى العصر الذهبي للتلفزيون. يعود ذلك الى أسباب تقنية، فلم تعد كاميرات التصوير وطرق العرض وتقطيع المشاهد تختلف بين السينما والتلفزيون، ذلك ان التكنولوجيا لعبت دوراً في نشر المساواة بين الفنين، ولم تعد قيمة الجمال وروعة التصوير محصورة بشاشة السينما، بل إن مسلسلات التلفزيون باتت تقدم نفس الجمالية والرمزية مع فلسفة عميقة وأفكار خلاقة. وتحديداً في أعمال الخيال العلمي التي تميل للديستوبيا وفي الكوميديا السوداء ، مع قدرة التلفزيون على دمج عدة أنماط "Genres" بصرية - فكرية في وقت واحد، لتسقط الفرضية القديمة بأن السينما فن أرفع وأكثر قيمة من "القمامة التلفزيونية" (TV Trash).

ويستطيع التلفزيون توفير بيئة عمل خصبة لكثيرين من الممثلين الذين لا يجدون الفرصة في "هوليوود"، وتحديداً من النساء كما تقول النجمة فايولا دايفز في تعليقها على العمل في سلسلة "How to get away with murder": "التلفزيون اليوم قادر على إعطاء البطولة لشخصية أنثوية ذات بشرة داكنة في الخمسين من عمرها بعكس السينما التي يبحث منتجوها عن الأعمار الأصغر والإنتاجات المبهرة تقنياً". وهذا اعتراف من داخل كواليس الإنتاج العالمية بأن التلفزيون استطاع الاستفادة مما ترميه سينما هوليوود أو تتجاهله عن قصد لجذب الجمهور العالمي، الذي بات الوصول له سهلاً مع خدمات البث الرقمي "Streaming".

ولا يجب غض النظر هنا عن تغير مواز في مزاج الجمهور نفسه، الذي أصبح يريد مشاهدة نجومه لمدة زمنية أطول في حلقات متتالية وليس لمدة ساعتين فقط، وفي منزله براحة من دون عناء التوجه للسينما أصلاً، في وقت توفر فيه الشاشات الذكية وتجهيزات الصوت المتطورة وتجربة السينما المنزلية، بديلاً مقنعاً عن الفكرة العتيقة بالجودة الأعلى لشاشة السينما الكبيرة.

وعليه، باتت الشبكات الكبرى تتنافس خلال الأعوام القليلة الماضية، على جذب أكبر النجوم العالميين في مشاريعهم التلفزيونية الجديدة، مثل نيكول كيدمان وريس ويذرسبون وأنتوني هوبكينز وفيولا دايفز وواينونا رايدر وماثيو ماكونوهي وجوليا روبرتس وجود لو وآخرين. كما توجد أنباء غير مؤكدة عن بطولة تلفزيونية مرتقبة للممثلة الشهيرة ميريل ستريب ومشاريع أخرى قيد التحضير لكل من جوليان مور وروبرت دي نيرو أيضاً.

ولا تقتصر تلك الأسماء على الممثلين بل تمتد لتشمل سينمائيين بارزين مثل وودي آلن الذي قدم مسلسل "Crazy ex-girlfriend" مع شبكة "أمازون" والإيطالي باولو سورنتينو الذي أخرج مسلسل "The young pope" والأخوين كوين اللذين أنتجا مسلسل "Fargo"، مع أنباء أن لارس فون تراير سيقدم مسلسلاً عن سيكولوجيا المجرم بعنوان "The House" من ثماني حلقات العام 2018. هذه الأنباء كانت ستصنف كأنباء كاذبة لو صدرت قبل العام 2010، حينما كان توجه السينمائيين للعمل في التلفزيون أقرب للعار في كواليس المهنة.

ضمن هذه المقارنة الكبرى بين السينما والتلفزيون، ربما يكون مسلسل "Crazy ex-girlfriend" الموسيقي - الكوميدي الذي قدمته "نيتفليكس" في الفترة الأخيرة، أفضل مثال لعقد مقارنة تلفزيونية - سينمائية مع "لا لا لاند"، فبينما تبدو الأغاني التي يقدمها "لا لا لاند" مجرد أغاني "بوب" مع رقصات تتكرر بنفس الإيقاع، تبدو كلمات الأغاني في المسلسل شديدة العبقرية من ناحية اللعب على الكلمات وتقديم خلفية عن الشخصيات مع سخرية من الحياة الاقنصادية في الولايات المتحدة وطبيعة النفس البشرية أيضاً، مع تنوع في الأنماط الموسيقية (بوب، روك، جاز، سول،..) ضمن كل حلقة بما يتناسب مع المشهد من أجل خلق الفكاهة.

مازال هناك بعض الأمل بأن يخسر "لا لا لاند" جائزة أفضل فيلم، إن صحّت النظرية التي تقول إن "هوليوود" تميل لتقديم رسائل سياسية في اختيارات الأفلام الفائزة بالأوسكار في موسم الانتخابات الأميركية كل أربع سنوات. وعليه قد يكون منح الأوسكار لفيلم "Lion" أفضل رد من "أكاديمية فنون وعلوم الصور المتحركة" للرئيس الأميركي دونالد ترامب، سواء بمعاداته العلنية لكبار النجوم مثل ميريل ستريب، أو سياساته العنصرية ضد اللاجئين والمهاجرين، حيث يرصد "Lion" قصة إنسانية حقيقية لطفل هندي تتبناه أسرة في أستراليا بعد ضياعه من منزله، ليعود ليجد عائلته الحقيقية بعد سنوات عبر تطبيق "غوغل إيرث"، مع هامش واسع للحديث عن سقوط القوميات والمساواة بين جميع البشر.


لعلّ ذكر السينما السودانية كان يُعتبر بمثابة المصطلح الضبابي، على اعتبار أنّ الأفلام القادمة من هذا البلد تُعدّ على أصابع اليد الواحدة. غير أنّ السنوات الأخيرة حملت في طيّاتها عدّة مفاجآت سارّة لبلد طالما عانى من آثار الحروب.

ومن أبرز الإبداعات التي ارتسمت في مدوّنة السينما في السودان، فيلم "على إيقاع الأنتنوف" للمخرج حجوج كوكا الذي حصد مجموعة من الجوائز آخرها جائزة أفضل فيلم وثائقي بمهرجان "ديربان" بجنوب إفريقيا خلال شهر يوليو الماضي.

السينما السودانية والميول الوثائقية ..

كان استنبات السينما في السودان، كغيره في أغلب البلدان العربية، من خلال الآخر الأجنبي، حيث كان المخرج السويسري دافيد أوّل من يصوّر في السودان فيلما توثيقيا لرحلة الصيد التي قام بها سنة 1910 هناك وقد تم عرض هذا الفيلم بحضور اللورد كتشنر سنة 1912 بالسودان. ولئن بقيت الإنتاجات الدعائية خاضعة للاستعمار البريطاني، فإنّ استقلال السودان سنة 1956 حمل في طياته تغييرا عميقا، حيث انطلقت الدولة كغيرها من المستعمرات في انتهاج سياسة التأميم وإنشاء الهياكل ومن ذلك مؤسسة السينما، كما وصل عدد دور السينما سنة 1970 إلى حوالي 55.

ولعلّ ما صنع الميزة للسينما السودانية هو اقتصارها في البدايات على إنتاج الأفلام القصيرة والوثائقية خاصة، مما جعل هذا المنحى المختلف يركّز سينما وثائقية بامتياز حيث يمكن أن نذكر فيلم "الطفولة المتشرّدة" للمخرج محمد إبراهيم الذي حاول سنة 1957 نقل وقائع الوضع الاجتماعي في تلك الفترة، وركّز على الانعكاسات التي أنتجها نزوح الأطفال من الريف صوب المدينة ومن ذلك ظاهرة التشرّد. كما تلت هذه التجربة تجارب أخرى من أبرزها فيلم "المنكوب" للمصوّر جاد الله جبارة، وما يمكن الإشارة إليه هو أنّ أغلب المحاولات الوثائقية كانت خادمة للسلطة حيث غابت عن أغلبها الحبكة السينمائية وهو ما يمكن تفسيره باعتبار غياب التكوين الأكاديمي من ناحية واقتصار التجارب على عصاميين التكوين وإفرازات الممارسة الميدانية.


غير أنّ نهاية فترة الستينيات حملت في طياتها حركية أكاديمية جعلت من ذلك مواسم للهجرة لدراسة السينما في أوروبا الشرقية خاصة ويمكن أن نذكر الطيب مهدي وسليمان نور وآخرون اختاروا الدراسة في القاهرة مثل حوريه حاكم وفيلمها " الظار "وأنور هاشم وفيلمه "رحلة عيون " وهويدا وفيلمها "أطفال المايقوما "وأيضا الدراسة في لندن مثل سامي الصاوي.. وكان التوجّه وثائقيا على اعتبار أنّ إرادة صنع سينما وثائقية مرتبطة بمشاغل الناس في ظلّ مشاكل اجتماعية عزّزها ارتفاع نسبة الأمية، وقد نجح المخرج سليمان نور في إنتاج فيلمين فرض بهما نجاحا دوليا وهما "ومع ذلك فالأرض تدور" و"أفريقيا"، في حين بقيت المحاولات السينمائية ضئيلة في ظلّ سياسة رقابة صارمة وغياب تأسيس واضح لمعالم مشروع سينمائي وطني وتأسيس لبنيات جادّة وتمويل صريح يهتمّ بالقطاع الثقافي عامة والسينمائي خاصة، خصوصا مع توفّر مادة قصصية محلية هامة ومواضيع وثائقية نادرة.

كنت محظوظا جدا لأني شاهدت فيلم "على إيقاع الأنتنوف" مرتين ، الأولى ضمن فعاليات مهرجان تورنتو السينمائي ، والثاني في العرض الخاص بدار الجالية السودانية في تورنتو، قمة التجريب الجمالي وولادة جيل جديد؟


badrali861@gmail.com

 

آراء