(ما دوامة) ..!!

 


 

 

في فجر مثل هذا اليوم من العام 1969.. بثت إذاعة أمدرمان الموسيقى العسكرية (المارشات) ليعلن العقيد أركان حرب جعفر محمد النميري انهيار العهد الحزبي الثاني.. وبداية الدخول في نفق حكم قابض ..وقال البيان رقم واحد بالحرف..(ان بلادنا الحبيبة لم تنعم باستقرار منذ إعلان إستقلالها فى العام 1956)..وكان مضى على الإستقلال حوالى (13) عاماً فقط..
واستمر نظام مايو في الحكم (16) سنة كاملة.. نجح خلالها في تدمير الإقتصاد السوداني بضربة (حرة مباشرة) عن طريق قرارات التأميم والمصادرة الشهيرة.. التي أفجعت الإستثمار وأحالت المشاريع الناجحة إلى أطلال.. ثم عصف بالنظام الاداري فأطاح بالإدارة الأهلية .. وأوقد نيران الفتن السياسية التي ظلت دائمة الاشتعال ..إلى أن سقط تلقائيا في صبيحة يوم 6 أبريل من العام 1985..
ومع ذلك فأكثر ما يدعو إلى الأعتبار في سيرة نظام مايو.. أيامه الأخيرة التي سقط بعدها..فبمرور السنوات وتطوال الجلوس على كرسي الحكم..و(تكلس) الشعور السلطوي.. فقد الحاكمون غريزة الإحساس بالشعب.. ونسى الناس الآن كل خطابات الرئيس النميري الكثيرة لكنهم يتذكرون آخر خطبة عصماء قبل سفره الي أمريكا في مساء يوم الثلاثاء 26 مارس 1985 .. قال النميري..(علينا ان نقتصر في كل شيء من يأكل ثلاث وجبات يأكل وجبتين ومن يأكل وجبتين يأكل وجبة واحدة ومن يأكل وجبة واحدة يأكل نصف وجبة..)
كان ذلك البرهان الأكيد ليس على انهيار نظام مايو فحسب.. بل انهيار الجهاز العصبي كلياً بين الحاكم والشعب.. عندما يصبح الحديث الخطير عن (تجويع) الشعب كله.. مجرد كلمات يلقيها الرئيس بقلب خال من الأسى ثم يسافر إلى أمريكا..
وفي الدول ذات التقاليد الراسخة والتي تحدد فترة حكم الرئيس بسنوات معينة غير قابلة للزيادة حتى ولو كان الرئيس (عبقري زمانه) .. المقصود تجديد الإحساس بالشعب.. فمثلاً أمريكا بكل صولجان ورفاهية الدولة فيها.. الرئيس يحكم أربعة سنوات فقط ثم يحتاج للرجوع إلى شعبه لطلب فترة رئاسية أخرى.. فإذا جاد عليه بها الشعب.. أدرك أنها أربعة أخيرة غير قابلة لتمديد يرجع بعدها مواطناً عادياً.. وبمثل هذا النظام يظل الرئيس طوال وجوده في البيت الأبيض محاصرا بكوابح الإحساس بأنه (عابر سبيل).. غير مخلد.. وأنه من الشعب وإليه عائد..
النفس البشرية تواقة للسلطة.. ومهما كانت عفيفة عن المغانم .. إلا أنها في النهاية ممهورة بسنة الله التي أودعها نفس الإنسان.. والمنهج الوحيد الذي يضمن كبح نزوات السلطة أن لا يكون في ظن صاحبها أنه مخلد فيها.. يدرك أن الدستور والقانون لا يمنحه اإلا فترة انتقالية عابرة.. يرتد بعدها مواطناً في زمرة المحكومين..
وهذا هو معنى الديموقراطية.. في الدولة أو الحزب ..!!

 

آراء