بعد أن ارتكبوا المجزرة؛ لماذا مسحوا اللوحات الإبداعية الجميلة

 


 

 

 

مفهومٌ أن ينكِر الجميع المسؤولية عن مجزرة الاعتصام.. وكأني بحَمَلَة البنادق حطُّوا بجُنحِ الليلِ من كوكب المريخ وهبطوا في ميدان القيادة ثم صبُّوا الرصاص في صدور الشباب الأعزل المسالم الذي كان يتكِّئ على عشرات التصريحات تمنحهم الأمان وتُقسِم لهم أن الاعتصام لن يمسَّه سوءٌ ولو استمر حتى عيد الأضحى المبارك.

مفهومٌ تمامًا حالة الإنكار هذه، فـ” الشينة منكورة “.. لكن الذي لم أفهمه أبدا؛ قرار إزالة كل آثار الثورة والثوَّار في ساحة الاعتصام، بالله عليكم، مَنْ أمَرَ بهذا؟ وما يؤذيه في أن تظل ذكرى هذا الحدث التاريخيِّ منحوتة على جدارية الوطن؟

الجدران التي خلَّد فيها شباب الثورة لوحات مبدعة ترسم المستقبل الذي من أجله قدَّموا الشهداء والجرحى والمعتقلين والمشردين من الخدمة.. وأصبحت ساحة الاعتصام مزارا حتى لغير الناطقين بالثورة.. وبث الإعلام العالميُّ لوحات الاعتصام ليدلِّل على مستوى الوعي الذي أوقد نار الثورة وسار بشعلتها من شارعٍ إلى حارة إلى سوقٍ إلى ميدان حتى وصلت إلى “القيادة”..

بالله عليكم من ذا الذي يرى في كل هذه اللوحات والذكريات وخْزًا لضميره فأصدر قرارًا بمسح (آثار الاعتصام)؟

هذا الفعل التدميريُّ يقدِّم برهانا غيرَ قابلٍ للنفي، أن الهجوم الغادر فجرا على ساحة الاعتصام والنَّاحر لأكثرِ من مائة شهيد أعزلٍ وفي عزِّ رمضان.. لم يكن مجرد (خطأٍ) في تنفيذ إخلاء منطقة “كولمبيا” كما يدفع المجلس العسكري، بل هو عمل مخططٌ ضد الثورة.. مسْحُ الثوار من الوجود ثم إزالة آثارهم من ذاكرة التاريخ، أشبه بما فعلته نُظُمٌ دكتاتورية سابقة كانت مباشرة بعد إذاعة البيان رقم واحد، تآمر مديرا الإذاعة والتلفزيون بمنع بث أناشيد أكتوبر وما يُذكَر بها من موادَ إعلامية.. حتى رائعة الفنان محمد الأمين “الملحمة” اندثرت تحت وطأة تعليمات حجب روح وذكرى الثورات الجماهيرية السودانية.

في ألمانيا، بعد انهيار العقلية التي فصلتها إلى قسمين شرقي وغربي.. لم تحطِّمِ الجماهير (حائط برلين) كلَّه وتزِلْه من الوجود، فحتى الدكتاتورية تصبح جزءًا من التاريخ وتخلِّدها الشعوب لا حبًا فيها، بل بكل بساطعة لأنها (التاريخ).. وأذكر أن المرشدة السياحية التي كانت ترافِقُنا خلالها زيارتنا لمقر البرلمان في برلين أشارت إلى كتاباتٍ في الحائط تركها الجنود الروس عند احتلالهم للمبنى خلال الحرب العالمية الثانية، وفيها إساءات جارحة لألمانيا.. ومع ذلك لم تمتدَّ لها يدٌ بالإزالة والمسح.. قالت لنا المرشدة ” إنه تاريخ!!”.. والتاريخ يظل كما هو لا يجب أن تمسَّه يد.

في زيارتي لمبنى وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) لفت نظري لوحةٌ فيها أسماء جميع الضباط والجنود الأمريكان الذي قُتِلوا بهجوم طائرة الركاب في 11 سبتمبر 2001.. لاحظت أنهم سجلوا في اللوحة أسماء المهاجمين أنفسهم، أعضاء تنظيم القاعدة الذين استخدموا الطائرة لضرب المبنى، فسألتهم كيف تكرِّمون من قتلكم؟ كانت الإجابة، ” إنه التاريخ، نحن نخلِّد الأنفس الإنسانية التي ماتت هنا بغض النظر عن مَنْ قَتَلَ مَنْ..” ,، كتبوا الأسماء كلها بالترتيب الهجائي، إلا سيدة وجدوا جثتها تحتضن بقوَّة طفلتها، فكتبوا الاسمين معا متجاورين.. إنه التاريخ.

في النصب التذكاري الذي يخلِّد المسيرة التاريخية التي نظَّمها الزعيم مارتن لوثر كينج في واشنطون، رسموا في أرضية النصب موقع قدميه.. حينما قال عبارته الشهيرة “لدي حلم I have a dream”.

بالله عليكم.. من الذي يؤذيه أن يترك أثرًا يدلِّل على ثورة ديسمبر المجيدة؟

من الذي يحاول مسح تاريخنا المشرِّف الذي نفخر به؟

حتما سنعود.. ونرسمُها من جديد!!

إنه التاريخ!!

///////////////////

 

آراء