khalidtigani@gmail.com
يا لتصاريف القدر, أخيراً مجلس شورى المؤتمر الوطني يوصي ببذل المزيد من "الجهود في مكافحة الفساد", نرجو ألا يكون ذلك من تأثير حمى الانتخابات. حسناً ليس مهماً كيف يتم ذلك, أو إن كان الجهاز التنفيذي الذي استشرى الفساد تحت بصره سيأخذ التوصية بحقها, المهم حقاً هنا هذا الاعتراف المتأخر جداً من أعلى سلطة للحزب الحاكم بأن "هناك فساداً يجب مكافحته".
أهمية هذا الاعتراف في وثيقة رسمية أنه ينهي حالة إنكار طويل, وفي أحسن الأحوال تعاطي حكومي خجول ومتلجلج في اتخاذ إجراءات حاسمة لمكافحة الفساد المستشري. صحيح أن مسألة الاعتراف هذه تحصيل حاصل بالنسبة للرأي العام المستقر في وعيه صورة ذهنية سالبة للغاية في شأن نزاهة الحكم واستقامة محسوبيه, لم يختلقها من عدم ولم تسر بذكرها الركبان وأحاديث المجالس من فراغ, بل لأن هناك من الشواهد والدلائل المحسوسة ما يغني عن اختلاق قصص عن فساد مزعوم, و"قد أبت الدنانير إلا ان تطل برأسها".
ويا وزير العدل, الذي يبدو أن نفس حملته المفاجئة قصير للغاية, السؤال الصحيح من أين لكم هذا؟, وليس أين إقرارات الذمة التي تذكرتموها فجأة بعد ربع قرن, على طريقة "التصفير" التي اشتهر به الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح.
ظل أهل السلطة شديدي الحساسية تجاه إثارة أي موضوع حول الفساد, وما أن يثار حتى يعاجلونك "هات الدليل", في خفة تنم عن ورع ديني غائب ومرؤة وطنية مفقودة, إذ يبدو أن ما يزعج هؤلاء حقاً هو الخشية من جود دليل دامغ يكشف ما يجري, أكثر من الحرص على تأكيد نزاهة الحكم بممارسة مصدقة للشعارات المرفوعة.
والاستقامة الأخلاقية قبل الأدلة القانونية هي ما ينبغي أن يجعل السلطان الحريص على طهارة حكمه يسارع لإزالة أية شبهة فساد تحوم.
وعلى كثرة ما سودت الصحف من تحقيقات ساقت من الأدلة ما يكفي لهدم جبال الفساد الرواس إذا توفرت نية حقيقية وإرادة فعلية لمكافحة الفساد, كما أن في تقارير المراجع العام التي امتلأت بتجاوزات فاضحة ما يكفي, لكن المنهج السائر عند الطبقة الحاكمة هي البحث عن سبل التستر تحت ذريعة الحفاظ على هيبة الحكم, وعدم توفير ذخيرة لخصوم الحكم لرميه من تلقاء إدانة محسوبين على النظام, وفي ذلك أية في الخطل وفساد الطوية والسياسة معاً, اللهم إلا إذا كان الغرض من ذلك الخشية من فتح صندوق بنادورا, وتساقط حجارة الدومينو, فتظهر سوءة الفساد بصورة تتسع على الراتق, وخشية بروز السؤال الكبير من يحاسب من؟!.
من عجب أن قصة الفساد في عهد الحكم الحالي ليست حديثة عهد, فقبل عشرين عاماً وسلطة الإنقاذ لا تزال في سنواتها الأولى انتبه طائفة من "الإسلاميين" مبكراً إلى بدايات الانحراف حيث رفعوا أول مذكرة احتجاجية في سبتمبر عام 1993, وللمفارقة كان من بين أهم بنودها الإصلاحية مكافحة الفساد الذي بدأ منذ ذلك الوقت يطل برأسه, وكان ردة فعل القيادة على فعلتهم أن تم تفريقهم شذر مذر, ومنذ ذلك الحين أخذ الفساد يتمدد ويتوسع وتتعدد مظاهره متجاوزاً حالات فردية ليصبح فساداً مؤسسياً سائداً محمياً ومقنناً بحصانات وامتيازات وتحيزات لا حدود لها. "وحليل زمن البسرق ملاية ومخدة .. وذاك الذي يسرق خروف السماية" وما في داعي نتم الباقي.......!!!
يشكك الرأي العام في جدية مكافحة الفساد ليس افتئاتاً, ولكن لأن العدالة لا تطبق ولا أحد يراها تطبق, فالاعتراف وإبداء حسن النية لا يكفيان, والمكافحة التي تكتفي باصطياد الفئران الصغيرة المغلوبة على أمرها, وتترك القطط السمان لا يمكن تصنيفها إلا في دائرة تصفية الحسابات الداخلية واالبحث عن كباش فداء, أو محاولة يائسة لذر الرماد في العيون.
مأزق العهد الإنقاذي, أن الرأي العام يحاكمه تحت طائلة الشعارات التطهرية التي ألزم بها نفسه وهو يحاول كسب قلوب الناس برفع شعارات دينية توفر مكاسب سياسية عابرة, غير أن ثمن ذلك باهظ جداً فقدان المصداقية فوراً حال انكشاف المستور وعندما يفترق المثال والواقع المعاش, إذ أن تبني القيم الإسلامية الحقة تستلزم استقامة أخلاقية صارمة وممارسة نظيفة لا تشوبها أية شائبة, وهو ما يتطلب أن يحاسب المرء نفسه قبل ان يحاسب, فمن الغفلة والجرأة على الله أن يظن أحدهم إنه إن استطاع أن يستغفل الخلق, فلن يستطيع بالتأكيد أن يستغفل الخالق.
بصراحة ليس أسوأ من الفساد إلا التلاعب والتظاهر بمكافحته.