مجتمع المهاجرين من بحارة السودان (1) .. عرض وتلخيص : بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 





مجتمع المهاجرين من بحارة السودان (1)

مقتطفات من كتاب:Wanderings: Sudanese Migrants and Exiles in N. America

تأليف: دكتورة رقية مصطفي أبو شرف

عرض وتلخيص : بدر الدين حامد الهاشمي

تقديم: هذا عرض مختصر لجزء مما ورد في فصل في كتاب لدكتورة رقية مصطفى أبو شرف عن المهاجرين السودانيين الأوائل في أمريكا يتناول تاريخ هجرة البحارة السودانيين للعمل في خدمة البحرية الأمريكية والسفن التجارية. صدر الكتاب بعنوان: Wanderings: Sudanese Migrants and Exiles in N. America عن دار نشر جامعة كورنيل، ايثيكا، بالولايات المتحدة الأميركية عام 2002م.
دكتورة رقية أبو شرف حاصلة على الدكتوراه من جامعة كونيتكت الأميركية في علم الإنسان/ الإناسة (الأنثربولوجي)، وعملت لسنوات  في مجالي البحث والتدريس في عدة جامعات أمريكية ومراكز بحثية مرموقة منها جامعات هارفارد وبراون وويزلي وتفتس الأميركية، وجامعة دارام البريطانية وغيرها، وتعمل حاليا كأستاذ مشارك في جامعة جورج تاون الأميركية (فرع قطر). للدكتورة اهتمامات بحثية متنوعة تشمل مسائل العرق والهوية وحقوق الإنسان والمهاجرين والمغتربين عن أوطانهم، ودراسات النساء  والجندر (في أمريكا والخليج العربي والسودان). كنت قد ترجمت قبل سنوات شذرات لما نشر لها عن الحاج ساتي، أول مهاجر سوداني لأمريكا في هذا الكتاب. المترجم.
***********              ************      
بعد مرور ثمانين عاما على انتهاء خدمة أورطة سودانية في المكسيك، ومرور عقد من الزمان بعد عودة ساتي ماجد إلى مصر، بدأت هجرة مجموعة صغيرة من السودانيين استجابة لزيادة الطلب في أمريكا على البحارة خلال الحلاب العالمية الثانية. وصلت للموانئ الأميركية مجموعات من البحارة الذين كانوا يعملون في مختلف السفن البحرية العالمية، وتم تجنيدهم للعمل في البحرية الأميركية. وتحت ظروف مشابهة  تم تجنيد مزيد من البحارة في الخمسينات خلال الحرب الكورية.
في هذا الفصل نعرض إلى قصص هجرة بعض هؤلاء البحارة، والتي سمعتها منهم في سنوات التسعينات من القرن الماضي. يتميز المجتمع الإثني لهؤلاء البحارة المهاجرين بمرونة عالية ساهمت في إعلاء المبادئ المنظمة للغة والعادات والمعتقدات وروابط القرابة الأسرية التي أتوا بها لمهاجرهم من وطنهم الأصلي، وهذا هو "نمط الحياة"، أو ما يعرف بالفرنسية  genre de vie الذي مكن النوبة السودانيين تاريخيا من تعزيز هويتهم أينما هاجروا وحيثما حلوا.
وخلافا لمن هاجر لأمريكا الشمالية من المجموعات السودانية المختلفة الثقافات والتوجهات السياسية في السنوات القريبة الماضية، فإن البحارة المهاجرين كانوا من اثنية وهوية واحدة، ووجدوا عند قدومهم لمهجرهم في الولايات المتحدة ظروفا سياسية مواتية، وترحيبا استثنائيا. التحق المهاجرون السودانيون بالبحرية الأميركية في خلال الحرب العالمية الثانية، وأثناء الحرب الكورية، إذ كان هؤلاء مؤهلين لنيل الجنسية الأميركية فور التحاقهم بالخدمة العسكرية. إضافة لذلك، فقد كان هؤلاء يتمتعون بمستوى عيش جيد نسبيا، وفرصا عديدة في البحرية الأميركية للتدريب وتنمية المهارات في مختلف ضروب فنون العلوم والتقنية. تم تجنيس البحارة السودانيين العاملين في الجيش الأمريكي رسميا بعد تأكد وزارة الدفاع من سجل خدمة كل منهم. كانت أحكام النظام الأساسي للتجنيس تفيد بأنه: " يجب توفير الفرصة لنيل الجنسية الأميركية لكل فرد أجنبي .....، يقوم بالتعرض للمخاطر والخدمة العسكرية، وذلك قبل غيره، وبشروط أيسر".
تعرض بعض البحارة لإصابات وإعاقات مختلفة نتيجة للمعارك التي خاضوها، وفقد بعضهم حياته.
كانت فرصة الحصول على الجنسية الأمريكية هي الدافع الأساس لهؤلاء البحارة للهجرة الدائمة والاستقرار في أمريكا. كما أخبرني عدد كبير منهم. ومنذ أربعينات القرن الماضي  شكل قدامى البحارة في الجيش الأمريكي من المهاجرين مجتمعا سودانيا أمريكيا  في برويكلن (هي من أكثر مناطق نيويورك الإدارية مساحة وازدحاما بالسكان. المترجم).
من بعض تجارب البحارة
1/ خيري
خيري هو من أوائل البحارة الذين هاجروا للولايات المتحدة. أجريت معه مقابلة في "بروكلين"  في عام 1993م، وكان عمره آنذاك ثمانين عاما، قبل ثلاثة سنوات من وفاته عام 1996م. قدم خيري إلى الولايات المتحدة في عام 1943م على ظهر سفينة صغيرة اشترتها لاحقا بريطانيا وحولتها لمستشفى عسكري. قال لي خيري في تلك المقابلة:
"بعد أن آلت تلك السفينة البخارية إلى البريطانيين، خيرنا بين أن نبقى بصورة دائمة في الولايات المتحدة أو مغادرتها. كانت تجري في تلك الأيام عملية تجنيد للضباط والبحارة في سلاح البحرية. لم أكن أريد أن أهجر عملي، أو أن أعود للسودان. آثر بعض البحارة المغادرة، بينما بقي آخرون مثلي لبدء حياة جديدة وفرص عمل ممتازة في هذا البلد.  لطالما ارتحل الناس في مناطقنا... خاصة وأن فرص الالتحاق بأعمال ومهن جديدة كانت متاحة لنا في البحرية الأميركية. كانت مرتباتنا عالية ولدينا تأمين صحي... كانت بالنسبة لنا "فرصة العمر".  عملت في البحرية الأميركية خلال الحرب العالمية الثانية، وبقيت في الخدمة العسكرية لأكثر من خمسة أعوام. وبعد أن انتهت الحرب وحل السلام عملت في مهام وبعثات عديدة أهمها بين الولايات المتحدة وروسيا. لقد سهل لي عملي في البحرية أثناء الحرب العالمية الحصول على الجنسية الأميركية دون موانع أو عوائق.
حافظ كل من بقي منا في الولايات المتحدة على علاقات وثيقة مع زملائه السودانيين الآخرين، حتى من غير القاطنين ببروكلين، والتي كان يسكن بها غالبيتهم... كنا أول من كون بدايات مجتمع المهاجرين السودانيين هنا، كما كنا نرتاد واحد من أقدم المساجد هنا وهو "مسجد داؤود". مجتمعنا مكون من القادمين من دنقلا، ونتحدث ذات اللهجة. عندما أتينا هنا، نجحنا في العيش كمجتمع اثني واحد. من المهم هنا ذكر أنه مر وقت طويل قبل أن يبدأ مهاجرون جدد في الوصول هنا...
رغم أن العيش في بروكلين كان رغدا وسهلا، فإنه لم يخل من بعض المشاكل. لم يكن الأمريكيون يقبلون بالمهاجرين الآخرين. ظهر هذا السلوك تجاه الأجانب في كثير من النزاعات والتمييز العنصري. لا أزال أذكر بعض المواقف التي مرت علي: ذات مرة رفضت موظف التذاكر في إحدى دور السينما أن يقطع لي تذكرة دخول. وحتى بعد أن سمح لي بالدخول أخيرا، فقد تضايق كثير من الرواد البيض من دخول رجل اسود لمشاهدة الفيلم معهم، وقام بعضهم بتغيير مقعده. لكم أتوق للعودة لبلادي. رغم كل هذه السنوات فأنا هنا بجسدي فقط. لقد كنت طوال هذه السنوات الفائتة، وسأبقى دوما في السودان بعقلي وروحي... السودان في آمالي وفي أفكاري."
كانت تجربة "خيري" وتأقلمه على حياته الجديدة قائمة على أساس من انتماءاته العرقية والمهنية والدينية. تبين قصته التي وردت أعلاه أنه، ورغما عن بعض المضايقات التي تعرض إليها أولئك البحارة، إلا أنهم بذلوا جهودا ضخما في سبيل إنشاء موضع قدم لهم في نيويورك معتمدين أساسا على تقاليدهم النوبية الثقافية في شيوع روح التضامن والتكافل والالتزامات المتبادلة.  توضح قصة الرجل أيضا إحساس الأمن والثقة الذي كان يتمتع به البحارة كمحاربين قدامى، وكمواطنين أمريكيين. وأخيرا  توضح روايته وعيه العميق بالشتات  Diasporic consciousness  ورغبته في الأوبة للوطن، وإخلاصه ووفاءه لقريته حيث ولد. بعد وفاة خيري في بروكلين، أخبرني أصدقائه البحارة إنه كان مستحقا لمراسم دفن رسمية، إلا أنه كان قد ترك وصية مفادها أنه يرغب في أن يدفن في دنقلا.
2/ بابكر
أتى بابكر (والذي كان يبلغ من العمر 72 عاما في عام 1993م) من دنقلا. وصل في عام 1942م في ذات الظروف التي مرت بزميله في الهجرة خيري.
كنت أعمل في سفينة إغريقية منتسبة لما كان يعرف بوزارة الحرب البريطانية.  بعد وصولنا لأمريكا، عرض علينا خيار الانضمام للبحرية الأميركية لأن الأمريكان في تلك الأيام كانوا يقومون بتجنيد الناس، وكانوا في حاجة شديدة لمجندين للعمل (في البحرية). قررت البقاء في  أمريكا لأنني أتيتها عزبا. في الواقع كان أغلبنا عزابا، وكنا نتطلع لحياة جديدة في هذه البلد الواعد. قررنا البقاء بعد أن عرضت علينا فرصة البقاء. رجع عدد من زملائنا البحارة للسودان بعد أن قضوا عددا من السنين وحصلوا على الجنسية الأمريكية.  إلى يومنا هذا يحصل هؤلاء البحارة على معاشاتهم من السفارة الأميركية في الخرطوم. الآن يعيشون عيشة مريحة، فلهم أملاك ودخول ممتازة.
كل البحارة الذين استقروا في أمريكا هم ذوي أصل عرقي واحد. كلنا كنا دناقلة (أي من دنقلا)، لذا كان من المنطقي أن نحد من مدى علاقتنا مع المجتمعات الأخرى في بروكلين، عدا المصريين. ولأن لمصر علاقات تاريخية مشتركة مع السودان، فقد كونا سويا منظمة اسمهما "جمعية وادي النيل". لكن بعد نيل السودان لاستقلاله كونا جمعية منفصلة اسمها "الجمعية السودانية الأميركية". كانت لجمعيتنا سمعة حسنة، وتقاطر علينا كل السودانيين طلبا للعون والنصح. كانت لنا علاقات واسعة ورسمية مع 99 جنسية تنتسب إلى الاتحاد الوطني والعالمي لضباط البحرية.... كانت علاقتنا مع الأمريكيين السود ممتازة. وفي الواقع، بفضل تلك العلاقة،  تمكنا من عمل علاقات مع السود الآخرين في نيويورك، والذين أخبرونا عن رجل سوداني يفترض أنه هو أول رجل سوداني شمالي في التاريخ يهاجر لأمريكا.
يوضح ”بابكر" جيدا كيف ما زال  الأميركيون السود منذ عقد أو أكثر يتذكرون بإعزاز وتقدير ومحبة ذلك الرجل "ماجد".(ماجد ساتي هو أول سوداني يهاجر لأمريكا حيث أقام بها لربع قرن من الزمان وعمل في مجال الدعوة الإسلامية خاصة بين الأمريكيين من أصل أفريقي. لمزيد من المعلومات عن الرجل يمكن الاطلاع على كتاب الأستاذ عبد الحميد محمد أحمد المعنون " ساتي ماجد: الداعية الإسلامي السوداني بأمريكا 1904 - 1929" وفصل في كتاب الدكتورة رقية مصطفى شرف (المشار إليه في هذا المقال)، ومقال منفرد لدكتور أحمد أبو شوك  نشر في مجلة "الملتقى" في أغسطس 1993 بعنوان "ساتي ماجد السوداني الذي أصبح شيخاً للإسلام في أمريكا" ؛ وآخر بالإنجليزية بالاشتراك مع جون هنوك وشون أوفاهي في مجلة Sudanic Africa ، 8، 1997م. المترجم).
كان "ماجد" (كما كان يعرف) قد غادر أمريكا في الثلاثينات. كان الأمريكيون السود يعدونه مثالا نادرا للرجل الصادق والمخلص والفاضل والعطوف، ويشيدون بتسامحه وكرمه الفياض. جعلت صفاته تلك كثيرا من السود يقبلون على اعتناق الإسلام على يديه. ذكر لنا بعض الأمريكيين السود بأن ماجد كان شخصية محترمة في مجتمع هارلم، لدرجة أنهم ألحوا عليه أن يصير إماما لمسجدهم ففعل.  ولكن ما حدث بعد ذلك لماجد أثار حيرة وقلق وانزعاج كثير مما رووا قصته، ورفعوه مقامه لدرجة تشابه درجه النبوة. يعزو كثير من قاطني حي هارلم مغادرة ماجد غير المتوقعة لأمريكا للضغوط التي مارسها عليه المبشرون المسيحيون. قيل أيضا أنه كان مطالبا بإبراز شهادة من جامعة الأزهر بمصر تثبت أنه مؤهل للعمل كداعية إسلامي، وقد سافر فعلا للأزهر حيث حصل على تلك الشهادة، ولكنه فشل هناك في الحصول على تأشيرة دخول لأمريكا مجددا. لم يبق له إلا أن يعود لبلاده السودان. قيل أيضا أن المبشرين المسيحيين خدعوه بأن منحوه تذكرة مجانية للسفر للسودان بدعوى أنه لم ير أهله ووطنه منذ سنين طويلة. لا أدري ماذا حدث بالضبط؟ كان الجميع يشعرون بالأسى عند تذكره. ذهب ماجد للسودان ولم يسمح له بالعودة. على كل حال كانت تلك نهاية جهود ساتي ماجد في الدعوة للإسلام.
3/ عثمان
يذكر عثمان (والذي كان يبلغ من العمر 73 عاما حين قابلته في 1993م) أنه وصل إلى الولايات المتحدة قادما من الإسكندرية في السادس من ديسمبر من عام 1941م، قبل يوم واحد من قصف اليابانيين لبيرل هاربر. كان يعمل في البحرية المصرية، وبيعت السفينة المصرية التي كان يعمل بها للصليب الأحمر وحولت لمستشفى عسكري. رجع زملائه البحارة من السودانيين والمصريين للإسكندرية، ولكنه آثر البقاء في نيويورك.
انضممت للبحرية الأميركية، وبعد فترة قصيرة حصلت على الجنسية الأميركية. لكن لم يسمح لمن لم ينضم (للجيش) بالبقاء في أمريكا. في الواقع بعد إنتهاء مهمتنا، منحنا 29 يوما فقط لنقرر إن كنا سنقبل عرض العمل في  البحرية الأمريكية أو نعود من حيث أتينا. عملت مع البحرية الأميركية لمدة طويلة، وشاركت في الهجوم على نورماندي في فرنسا، حيث حاربنا ضد الألمان حتى هزمناهم. قتل كثير من الجنود في تلك الحرب كان من بينهم بعض البحارة السودانيين. عدت بعد إنتهاء الحرب إلى بروكلين حيث أسست مع سودانيين مهاجرين آخرين "الجمعية السودانية الأميركية". عدت إلى السودان في عام 1950م لأول مرة منذ أن أستقريت في الولايات المتحدة. كانت مفاجأة ضخمة للأزهري والمحجوب عندما زارا أمريكا ووجدا سودانيين مهاجرين هنا، ولم يكن يعلما ذلك من قبل. أقمنا لهما حفل استقبال ضخم على شرفهما في نيويورك لتكريمهما على المجهود الضخم الذي بذلانه من أجل أن ينال السودان استقلاله.
4/ حامد
كان حامد (والذي كان يبلغ من العمر 75 عاما حين قابلته في 1993م) مهاجرا من دنقلا. وصل إلى أمريكا قبيل الحرب الكورية (حرب جرت بين 1950 – 1953م بين جمهورية كوريا وكوريا الديمقراطية الشعبية. المترجم). وعمله – مثل من سبقه من البحارة- في البحرية الأميركية، ونال على إثر ذلك الجنسية الأميركية.
لم يتم التوثيق لهجرة البحارة السودانيين للولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من الأقطار. قام بعض الشباب في منطقتنا بالمغامرة بالهجرة. كان أهلنا يسكنون قرب نهر النيل، وعمل كثير منهم في صناعة المراكب والعمل عليها كبحارة. عمل بعضهم أيضا في "النقل النهري" بالخرطوم بحري. في تلك الأيام كانت البواخر تجوب كافة مناطق السودان وتصل لجوبا في جنوب السودان. لسكان دنقلا صلات خاصة بمصر، وعمل كثير من شبابها كبحارة في البواخر والسفن المصرية التي كانت تبحر نحو بريطانيا. اقنعوا أهلهم بالسماح لهم بالانضمام لهؤلاء...وكان ذلك قد حدث قبل وقت طويل، حتى أثناء الحرب العالمية الأولى بين عامي 1914 – 1918م. قدمت للولايات المتحدة على سفينة سويدية قبيل انتهاء الحرب الكورية. كان الميناء الرئيس الذي أعمل فيه في السويد، وكان البحارة السودانيين يجوبون موانئ العالم المختلفة.، فبعضهم في مصر والآخر في السودان والنرويج والسويد الخ. عندما قدمت لأمريكا، كان الطلب على البحارة عاليا، فالزمن كان زمن حرب. بعد وصولي قررت أن التحق بالبحرية الأميركية، والتي قامت بحملات كبيرة لتجنيد عدد كبير من البحارة.  وبمجرد انضمامي للبحرية، تم منحي الجنسية  الأميركية. عدت بعد ذلك للسودان وبقيت فيها لعشرة أعوام حتى عام 1968م حين قررت العودة لأمريكا.لم أزر السودان منذ ذلك العام. منح البحارة الذين أصيبوا في الحرب العالمية الثانية استحقاقات الإعاقة، ورجع بعضهم للسودان، وبقي البعض الآخر معنا هنا حتى توفوا. لم نعمل في هذه البلاد في غير مهنة البحرية. نعيش نحن البحارة الذين بقينا هنا، أو الذين عادوا للوطن، في بحبوحة من العيش لأننا نتلقى معاشات من البحرية. نتلاقى مع بعضنا البعض في مجتمعنا هنا في الحفلات والمناسبات الاجتماعية، والحفلات التي نقيمها للوافدين الجدد وللساسة السودانيين والدبلوماسيين الذين يزوروننا. لنا علاقات طيبة معهم. المؤسف أن غالب الوافدين الجدد لا يرغبون في الانضمام لجمعيتنا، ويسونها "جمعية الدناقلة" أو "مجموعة دنقلا" رغم محاولاتنا لجعلها جمعية لكل السودانيين بغض النظر عن أصلهم العرقي/ الأثني.
5/ صالح
قدم صالح لنيويورك  قبل الحرب الكورية، وعمل في البحرية الأميركية خلال تلك الحرب. هو الآن (عام 1993م) في السبعين من العمر، ويقطن بروكلين مع زوجته ميمونة وبناته الأربع. عمل في السفن التجارية التي تجوب العالم، وهو يتحدث العربية والانجليزية والاسبانية والفرنسية، بالإضافة للغته الدنقلاوية. قال صالح ما يلي عن حياته ووصوله لنيويورك.
أتيت هنا بعد سنوات من وصول خيري، ولكن بالطبع كنت على علاقة طيبة مع كل البحارة. عملت في البحرية أثناء الحرب الكورية، وكما تعلمين فقد حصلت على الجنسية الأميركية. أصبت في الحرب الكورية، والآن أتلقى بالإضافة إلى معاشي من البحرية استحقاقات الإعاقة. كانت تجربتي في الحرب تجربة دراماتيكية. بقينا في قوارب الإنقاذ لأيام عديدة في المحيط الهندي. بعد أن استقريت هنا تزوجت من زوجتي الأولى ورزقت بولد. انفصلت عن زوجتي بالطلاق. عدت بعد ذلك إلى دنقلا حيث تزوجت مرة أخرى، وأنجبت منها أربعة بنات، اثنان منهم في المرحلة الثانوية، والأخريات في المرحلة المتوسطة. أقوم بما أستطيع لأجعل بناتي يدركن أصولهن ومن أين أتين. نعم، هن أمريكيات-  فثلاثة منهن ولدن هنا، ولكنهن سودانيات ودنقلاويات.الآن بناتي يتحدث الدنقلاوية  بطلاقة في المنزل، ولا يتحدث بالإنجليزية إلا في خارج المنزل. آخذهم لدنقلا كل عام لقضاء العطلة الصيفية. يحبون دنقلا والحياة فيها، ولديهم كثير من الأصدقاء والأقارب الذين يخبرونهم عن كثير من أمور الحياة في البلاد وثقافتها. يذهبون إلى المدارس الإسلامية في بروكلين، ويهتمون بالعبادات الإسلامية. يصومون ولا يفوتون فرضا من فروض الصلاة.  أرى أننا لا نواجه نفس المشاكل التي يواجهها القادمون لأمريكا من أجل اللجوء السياسي، وينتظرون لعدد من السنوات لمعرفة مصير طلباتهم. ألاحظ أن كثيرا من الشباب لا يدركون ما عليهم مجابهته. هنا عليك العمل بجد واجتهاد لتكسب عيشك، خاصة إن لم يكن لديك ورق (أي أوراق ثبوتية رسمية. المترجم). تكون حينها عرضة لضغوط نفسية كبيرة، أو للاعتقال والترحيل لخارج البلاد.  لذا يجاهدون فقط كي يكسبوا القليل الذي يكفي الرمق. وكبحار في البحرية الأمريكية لم أقلق أبدا على عيشي، ولا من أين ستأتي وجبتي المقبلة.
لنا جمعيتنا (الجمعية السودانية الأمريكية)، والتي لا تقبل إلا حملة الجوازات الأميركية وحاملي بطاقة الإقامة الدائمة (القرين كارد). تفرض الجمعية رسوما على أعضائها، وتستخدم أموال هذه الرسوم في مساعدة المحتاجين من أعضاء الجمعية، وفي إقامة الاحتفالات الدينية وغيرها، وفي دفع رسوم الدفن  في المقابر الإسلامية. يملك بعض البحارة عمارات سكنية في بروكلين تدر عليهم دخولا ممتازة. تمكنا من حيازة أرض أقمنا عليها مقبرة إسلامية، ولدينا مسجد أيضا كان يديره السودانيين والأمريكيين السود، بيد أن اليمنيين هم من يتولون إدارته. لكننا ما زلنا نصلي فيه. أنظر إلى نفسي كشخص له أكثر من منزل. كأمريكي، فقد قمت بما يجب على كل أمريكي القيام به. لقد خاطرت بحياتي في الحرب. وكسوداني فقد حافظت على صلاتي ببلادي وأهلها، وبالبحارة هنا. البلدان (أمريكا والسودان) عزيزان علينا.
يبين ما ذكره صالح كيف أن البحارة قد حافظوا على  الصلات المتعدية translational linkages بين نيويورك ودنقلا بالحفاظ على الصلات العائلية والاجتماعية  الموزعة بين الوطنين. يؤكد ذلك ما كتبه رويجر روس: "خليط من أمزجة قديمة عميقة التجذر لا يمكن طرحها، وأخرى حديثة تم تبنيها كردة فعل للبيئة الجديدة."
يؤكد ما حكاه صلاح الدور المهم الذي تلعبه العائلة في الحفاظ على التجربة الذاتية لهوية الفرد وتراثه الثقافي. وكما يقول ميشيل لاقري :" تعد العائلة موضعا مهما يمكن فيه أن يتواءم  التواصل الثقافي                 مع مقتضيات البيئة الجديدة. عن طريق وساطة العائلة (والتي تؤثر على سلوك أفرادها عن طريق آلية التنشئة الاجتماعية) يكون بمقدور المهاجرين الحفاظ على بعض من تراثهم الثقافي، وأن ينموا من وعيهم بإرثهم العرقي".    

badreldin ali [alibadreldin@hotmail.com]

 

آراء