محاربة الفساد بلا استراتيجية … فساد!! (2)

 


 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

hashimkhairy@yahoo.com

 

من يخوض حرباً بلا استراتيجية مصيره الهزيمة! ومكافحة الفساد تتطلب وضع استراتيجية شاملة وواضحة؛ لقد ذكرنا في الجزء الأول من هذا المقال أن السودان وهو يعيش في هذه الفترة من تاريخه أوضاع انتقال حرجة ودقيقة؛ سعى في الوثيقة الدستورية لوضع الأسس التي يمكن من خلالها وضع استراتيجية شاملة لمكافحة الفساد، إلا أن أجهزة الحكم الانتقالي القائمة حالياً عوضاً عن الشروع في وضع هذه الاستراتيجية الشاملة وآليات إنفاذها؛ انتهجت معالجةً جزئية بإنشاء "لجنة التفكيك" وفق قانون معيب تم تعديله مؤخراً وربما يكون له أثر بعد التعديل في معالجة بعض آثار فساد الثلاثين عاماً التي مضت من عمر السودان؛ إلا أن التعديل نفسه لم يلامس كافة الجوانب التي يمكن أن تجعل بيد الدولة استراتيجية شاملة وأدوات إنفاذ فعالة لمكافحة الفساد وتعزيز النزاهة.
إن تعزيز النزاهة ومكافحة الفساد واسترداد الأصول المنهوبة عملية مستمرة ودائرية لأن الفعل القائم عليها (الفساد) لن يتوقف ولا يرتبط بنظام حكم معين، وإذا كان نظام الثلاثين من يونيو البائد قد وضع سقوفاً عالية للفساد لم تحدث منذ الاستقلال وطوال العهود الوطنية التي تعاقبت على حكم السودان منذ العام 1956م، فإن محاربة وإزالة فساد هذا النظام لا تعني أن الفساد سيختفي من أرض السودان، ينبغي أن توضع متحكمات في موضع التنفيذ controls in place لضمان منع أوجه الفساد ومحاربته في مهده والحيلولة دون أن تتكون بؤر أخرى لنمو هذا المرض السرطاني. إن الفساد يتطور بتطور الحياة ويتخذ اشكالاً مختلفة تتوافق مع كل حال ومآل، الأمر الذي يستوجب ابتداع وسائل مختلفة من حين لآخر مستندة على البيئة الدستورية والقانونية القائمة؛ وأن تُستخدم في ذات الوقت أدوات الدولة وغيرها من أدوات المجتمع المتاحة. إن قيام الحكومة الانتقالية بتصفية تركة الفساد التي ورثتها من النظام السابق عبر استراتيجية شاملة تعتبر أولوية قصوى وملحة لعدة أسباب؛ منها:
• خلق قطيعة تامة مع ماضي الفساد ووضع نموذج للحكم الرشيد.
• استرداد كل أو بعض الأصول التي فقدتها الدولة نتيجة الممارسات الفاسدة.
• تعزيز ولاية الدولة على المال العام من خلال معرفة الثغرات في البنية القانونية والإدارية.
• إحكام الرقابة التنظيمية والقانونية الصارمة على القطاع الخاص لتعزيز حوكمة هذا القطاع.
• بث روح مختلفة في المجتمع تُعلي من قيم النزاهة وتحط من شأن الممارسات الفاسدة.

في العقدين الماضيين وتتويجاً للجهود الدولية التي انتهت بدخول "اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد" حيز التنفيذ، شرعت معظم دول العالم في خوض حربها الضروس ضد الفساد، وقد وقع على عاتق الدول التي تعيش أوضاع انتقال Transitional Period عبئاً أكبر ، ذلك أن أوضاع الانتقال هذه غالباً ما ترتبت بعد تغيير نظام حكم سابق أوغل في الفساد. الحرب ضد الفساد باتت على العموم من أولويات الدول؛ وذلك لحجم الهدر الذي يتسبب فيه الفساد من موارد الدولة ومقدراتها وقد فصلنا في بعض أجزاء هذا المقال السابقة الأرقام الصادرة حديثاً والتي تعكس هول وفداحة هذا الهدر؛ ومن ذلك الهدر في السودان خلال الثلاثين عاماً الماضية من حكم النظام البائد الذي قدرته بعض التقارير بما يقارب الألف مليار دولار ! كما أن استمرار الفساد هو بالتأكيد نقيض للحكم الراشد Good Governance الذي تسعى معظم دول العالم للتحلي به، ذلك أن الدولة الفاسدة دولة منهكة مستغلة ومنفرة للمستثمرين ولا تستقطب سوى المغامرين وغاسلي الأموال وغيرهم ممن يعتمدون قاعدة "خُذ وأهرب" Hit & Run و هؤلاء لن يضيفوا قيمة لاقتصاد الدولة المعنية لكونهم غير معنيين البتة باستثمارات طويلة المدى ولا تلك التي تهتم بالتنمية المستدامة. الدول التي ينتشر فيها الفساد هي دوماً محط ملاحقة من أجهزة وهيئات إنفاذ القانون الدولية، وكافة التعاملات التي تتم فيها وعبرها تكون محل شك وريبة، الدول الفاسدة كما الأجرب الذي يتجنبه كل سليم وهنالك نماذج كثيرة لهذا النوع من الدول وهو معلوم بالضرورة. من المهم أن نكون على وعي تام بأن السودان كان حتى يوم 11 أبريل من العام 2019م ضمن زمرة الدول الأكثر فساداً في العالم ويأتي ترتيبه في كل القوائم إما في أولاها سوءً ؛ أو في آخرها درجة من درجات التعافي! وحتى الآن لم تبذل مجهودات عميقة لتغيير هذا الواقع، والحال كذلك فإن التحدي كبير أمام أجهزة الحكم الانتقالي للخروج بالسودان من دائرة السوء والدول الأكثر فساداً إلى دولة تتمتع بحكم راشد وأعلى درجات النزاهة، وليس ذلك بعسير أو بعيد.
تتطلب أي مقاربة شاملة (استراتيجية) هدفها مكافحة الفساد وتعزيز النزاهة تحديد أهدافها الآنية ومتوسطة وبعيدة المدى، وحشد الأدوات المطلوبة لتحقيق هذه الأهداف، ووضع الخطط القصيرة وطويلة المدى وآليات المتابعة اللازمة لإنفاذ هذه الخطط، وغير ذلك من أدوات إدارة مثل هذه المشاريع المعلومة للمختصين. إن الشق القانون والتنظيمي في الحرب على الفساد جانب على قدر هام في الأدوات اللازمة في الحرب على الفساد، إذ أن استخدام العنف القانوني (عنف الدولة) امر لا بد منه في حرب الفساد، بيد أن هذا العنف لابد وأن يؤسس له وفق أطر قانونية صحيحة تحفظ حقوق كل الأطراف ذلك أن الفاسد نفسه له حقوق لابد وأن تراعى ! لأن الدولة ليست حكراً ولا حصراً على النزيهين من مواطنيها، الدولة دولة الصالح والطالح وبذات القدر الذي تدعم فيه الدولة الصالح وتعمل على تعزيز نزاهته؛ فإنها تأخذ الطالح بيد باطشة ولكنها لا تمنعه حقوقه الأساسية كمواطن له حقوق وعليه واجبات.
الدول التي وضعت استراتيجيات وطنية لمحاربة الفساد وتعزيز النزاهة قامت بتصميم هذه الاستراتيجيات بحيث تتضمن ما يلي:
(-) أطر قانونية تبدأ بنصوص دستورية ثم قانونية وتنظيمية تليها لوائح وأوامر وغير ذلك من أدوات القانون المعلومة، ويضاف لذلك الانضمام للاتفاقيات الدولية والإقليمية وإبرام اتفاقيات ثنائية ذات صلة .
(-) إنشاء الآليات التنفيذية من مفوضيات وهيئات ولجان والانضمام للتجمعات الدولية ذات الصلة.
(-) وضع الخطط طويلة ومتوسطة وقصيرة المدى لمحاربة الفساد والعمل على أن تكون هذه الخطط شاملة وتتضمن مقاربات كلية Holistic Approaches بحيث تغطي جميع الجوانب لضمان تحقيق الأهداف.
(-) إنشاء آليات فعالة للمتابعة والتنفيذ .

إن السودان ذو تاريخ باذخ في محاربة الفساد؛ وقد شُرع أول قانون ذو صلة بمكافحة الفساد بالسودان في العام 1905م (قانون المال الضائع والمتروك) وهو أمر بدأت فيه بعض الدول حديثاً وبعد ما يزيد على المائة سنة من ذلك التاريخ وهي تتبع الفساد بتقنينات تضبط الأموال "المتروكة" في الحسابات المصرفية!!! في معرض مكافحة غسيل الأموال وغير ذلك من أوجه الفساد. يمكنني أن أعدد عشرات القوانين السودانية ذات الصلة بمكافحة الفساد بعضها سارٍ وبعضها ألغي وأدمج في قوانين أخرى سارية وهكذا.
ليست مشكلة السودان الحالية في صياغة القوانين إذ يمكن للمختصين تعديل ما هو قائم منها واستحداث ما يتطلبه واقع الحال إذا أوجدت آليات فعالة لذلك [مفوضية الإصلاح القانوني ومفوضية مكافحة الفساد]، لقد وضعت الوثيقة الدستورية في نصوصها الأساس الذي يمكن الانطلاق منه وفق ما فصلنا في الجزء الأول من هذه المقالة. إن الإشكالية تكمن في عدم وجود استراتيجية شاملة ومقاربة كلية لمحاربة الفساد وتعزيز النزاهة بحيث تجعل كل المجتمع وأجهزة الدولة في ميدان حرب تجاه هذه الآفة. إن لجنة تفكيك التمكين – في رأينا – ذات صلاحيات محدودة حيث لا تستطيع مهما حاولت أن تحارب وتكافح كل أوجه الفساد التي ضربت البلاد طوال الثلاثين عاماً الماضية، ومن هنا تأتي أهمية إنشاء مفوضية مكافحة الفساد وتعزيز النزاهة وفق ما نصت عليه الوثيقة الدستورية التي تحكم الفترة الانتقالية في المادة (39) من الوثيقة التي نصت على انشاء هيئة عامة أسمتها الوثيقة [مفوضية مكافحة الفساد واسترداد الأموال العامة] وإن كنت أرى تعديل مسمى هذه المفوضية حال انشاءها لتكون [مفوضية مكافحة الفساد وتعزيز النزاهة] ذلك أن تعزيز النزاهة كما مكافحة الفساد هدف مستمر لأي دولة راشدة. لقد مضت حتى الآن (عشرة أشهر) منذ توقيع الوثيقة والمتبقي من زمن لإنفاذ أي استراتيجية شاملة لمكافحة الفساد واسترداد الأموال المنهوبة وتعزيز النزاهة لا يزيد عن ستة وعشرين شهراً !! هذا إذا تجاوزت القوى السياسية المماحكات التي أشرنا لها في الجزء الأول من هذا المقال. هذه المدة على قصرها لا تعني عدم الشروع في انشاء هذه الآلية الهامة ذلك أن هذه الفترة كافية لتحقيق أهداف هامة خصوصاً وأن عامل الزمن في مكافحة الفساد جوهري، وعملية استرداد الأصول المنهوبة تعتمد على عامل السرعة، كما أن القاعدة الفقهية تقول بأن "ما لا يدرك كله لا يترك جله".
يرى البعض أن انشاء مفوضية لمكافحة الفساد وتعزيز النزاهة قد يتعارض مع أعمال "لجنة التفكيك" التي تعمل حالياً بموجب [قانون تفكيك نظام الثلاثين من يونيو 1989م وإزالة التمكين لسنة 2019م المعدل 2020م] وهو رأي مردود لكون عمل المفوضية سيكون أشمل من عمل اللجنة؛ ذلك أن المفوضية سوف تعالج جوانب في مكافحة الفساد وتعزيز النزاهة أشمل مما تقوم به لجنة التفكيك حالياً، وأن أعمال لجنة التفكيك سوف تندرج ضمن أعمال المفوضية بحيث تخدم الخطة الاستراتيجية الوطنية الكلية والشاملة لمحاربة الفساد وتعزيز النزاهة التي يؤمل أن تضعها المفوضية، خصوصاً وكما ذكرنا آنفاً فإن أعمال لجنة التفكيك ربما تتقاصر عن كل أوجه الفساد الذي تم خلال الفترة من 30 يونيو 1989م وحتى نهاية الفترة الانتقالية في 16 أغسطس 2022م، الأمر الذي يتعين معه إيجاد آليات أخرى وإضافية تكون داعمة لعمل لجنة التفكيك. وحتى تتضح المقاربة الشاملة والكلية التي أتحدث عنها فسوف أتحدث بتفصيل عن ضرورة إنشاء [لجنة وطنية لاسترداد الأصول المنهوبة الموجودة خارج السودان] وهي لجنة من الأهمية بمكان .
لتوضيح أهمية اللجنة المقترحة كإحدى الآليات التي يمكن أن توجدها مفوضية محاربة الفساد وتعزيز النزاهة، سوف أوجه الأنظار لمسألة من المسائل المتعلقة بـــــــ (بعض) الأصول السودانية المنهوبة والموجودة في الخارج؛ ففي العام 2014م قام مكتب مراقبة الأصول الأجنبية في أمريكا والذي يعرف اختصاراً بــــــــــ OFAC [ الأوفاك] بالدخول في تسوية مع بنك "بي إن بي با ريبيا/ BNP Paribas" الفرنسي لتعاملاته المالية مع دول محظورة من التعامل وفي مقدمتها السودان! نتج عن هذه التسوية فرض غرامة على هذا البنك اعتبرتها الأوساط القانونية والمالية الأكبر في التاريخ وغير مسبوقة unprecedented ، إذ كانت الغرامة مبلغاً قُدِّر بما يقارب 9 مليار دولار! (وهو رقم لا أعلم كيف يكتب مقابله بالعملة السودانية!!!) ظل منذ ذلك اليوم السؤال الجوهري بلا إجابة ؛ وهو كم حجم المعاملات مع السودان التي فرضت بموجبها هذه الغرامة ؟ سبب التسوية والغرامة هو أن البنك المذكور قد أجرى آلاف المعاملات المالية شملت حكومة المخلوع البشير وبنوك سودانية ولفترة طويلة امتدت حتى العام 2012م، معاملات جعلت بعض المتعاملين في أسواق المال يطلقون على بنك " بي إن بي باريبا" تهكماً اسم "بنك السودان المركزي" في إشارة إلى أن هذا البنك كان يقوم بنصيب وافر من المعاملات الدولية المالية المتعلقة بالسودان ! يقول المثل الإنجليزي أنه لا يمكنك الرقص وحدك " it takes two to tango" فمن هم الراقصين الآخرين؟ ما هي البنوك والشركات والأفراد السودانيين الذين كانوا طرفاً في هذه المعاملات. لم يتوقف الأمر على البنك المذكور وإنما مضى ليشمل بنوكاً ومؤسسات مالية عالمية أخرى جميعها اضطرت لإجراء تسوية مع "الأوفاك" وجهات رقابية دولية أخرى بسبب تعاملاتها مع سودان البشير ! وكانت آخر التسويات مع " البنك التجاري العربي البريطاني" The British Arab Commercial Bank Plc علماً بأن هذا البنك الأخير تمت التسوية معه في سبتمبر 2019م بعد سقوط نظام البشير وبعد توقيع الوثيقة الدستورية!! هل تم حصر التسويات التي أجراها "الأوفاك" وغيره من مؤسسات الرقابة في البلدان الأجنبية بشأن المعاملات المالية مع نظام البشير؟ وهل بحثنا عن أصل المخالفات داخل السودان؟ هل حققنا مع الأفراد والمؤسسات السودانية التي وضعتها هذه المؤسسات في قوائمها ولوائحها السوداء ؟ وهل بدأنا أي مساعٍ لاسترداد هذه الأموال أو على الأقل منع التصرف فيها لحين الوصول لحلول بشأنها؟
لقد شرع بعض السودانيين في الخارج ممن قام باضطهادهم نظام البشير وشردهم في رفع دعاوى أمام المحاكم الفرنسية والأمريكية للحصول على تعويضات مباشرة لهم ولأهليهم ومناطقهم التي دمرها النظام السابق من بنك "بي إن بي با ريبيا/ BNP Paribas" ، وقد نشرت "رويترز" في أكتوبر من العام الماضي 2019م أن المحاكم الفرنسية والأمريكية قد قبلت النظر في هذه الدعاوى، فهل انضمت وزارة العدل السودانية لهذه الدعاوى أو نظرت في أمرها ؟ علماً بأن هذه البنوك قد يسعدها الوصول لتسويات مع رافعي الدعاوى وقفل هذه الملفات بدلاً من التدقيق في تعاملاتها والتعمق فيها والتشهير بها أمام المحاكم ودخول الحكومة طرفاً فيها والمطالبة بتعويضات ضخمة، وعلى ذكر هذه المطالبات بالتعويضات فإن بعض هذه الأموال باتت طرفاً في مسألة رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب ودخلت في متاهة أخرى ليس هذا مكان الخوض في تفاصيلها !!!
أتمنى أن تجتهد "لجنة تفكيك التمكين" في التقصي عن هذا الأمر والبحث عن الفساد المهول الذي يتعلق بالمعاملات المالية الخارجية وعن منشأها في داخل السودان، ولكن من المؤكد أن الأموال التي خرجت من السودان تحتاج لمعالجة مختلفة عن تلك التي تقوم بها لجنة تفكيك التمكين حالياً؛ معالجة تستند على أسس قانونية أكثر متانة وترتكز على أحكام قضائية دقيقة ذلك أن استرداد الأصول من الخارج مسألة معقدة جداً قد تستمر سنوات طويلة وليست مضمونة النتائج لكون الأنظمة القانونية في الولايات القانونية والقضائية الأجنبية laws of Foreign territories and Jurisdictions لها متطلبات تستوجب "احترافية" عالية في التعامل، ومعايير محددة للوثائق القانونية، إذ قد يكون اختلاف كتابة اسم شخص في لغة أجنبية او الخطأ في التهجئة كافياً لاستبعاد أي مطالبة بشأنه أمامها، فإذا اخطأ طابع في كتابة الإسم Mohammed وكتبه Mohamed بإهمال أو إضافة حرفٍ واحد فإن هذا سبباً كافياً لاستبعاد المطالبة؛ ناهيك عن جوانب أخرى تتعلق بالوثائق الثبوتية لا يمكن الحديث عنها في مقالة صحفية ! لا يكفي أن ينشر اسم شخص في مؤتمر صحفي ليعد مجرماً ويُطلب استرداد أصوله، يتعين محاكمة الشخص وصدور أحكام نهائية ضده وأن تصدر تلك الأحكام بلغة واضحة وتترجم إلى اللغات العالمية وأن تصدر بموجب تلك الأحكام أومر وطلبات استرداد تتضمن معلومات وافية عن الشخص المعني وربط قانوني وتسبيب سليم بين ما ارتكبه من جرائم وطلبات الاسترداد وأسس التجريم في القوانين المحلية، عمل شاق ودؤوب في غالب الأمر تتركه الدول إلى لجان تستجلب جهات استشارية دولية لمعاونتها في وضع المعايير والنماذج للمكاتبات والمطالبات، وتستعين بجهات متخصصة في التقاضي الدولي واسترداد الأصول تتعاقد معها على أسس شفافة ومعلنة لاسترداد هذه الأصول علماً بأن المتفائلين يعتقدون أن هذه الإجراءات إن تمت بطريقة صحيحة قد تستغرق بين ست إلى عشرة سنوات لتؤتي ثمارها! فهل شرعت الحكومة الانتقالية فيها أم ما زالت تقف محلك سر ؟ لذلك أرى ضرورة الإسراع في تشكيل مفوضية محاربة الفساد وتعزيز النزاهة لتقوم هذه الأخيرة بإنشاء الآليات اللازمة ومنها [لجنة وطنية لاسترداد الأصول المنهوبة الموجودة خارج السودان]
استطراداً؛ فإنه يؤمَّل أن تقوم المفوضية فور انشاءها بوضع استراتيجية وطنية لمكافحة الفساد وتعزيز النزاهة تتضمن آليات تنفيذ ومتابعة عديدة، وليس بالضرورة أن تكون هذه الاستراتيجية محصورة بنهاية الفترة الانتقالية في 2022م إذا أنها يمكن أن تضع خططها سواء الآنية وقصيرة وطويلة المدى لتغطي أي فترة بحيث يمكن للعهد الديمقراطي القادم الاستفادة من هذه الخطط وانفاذها بواسطة الهيئات الرديفة التي سوف تنشأ بموجب الدستور الجديد أو أن تقرر استمرار عمل هذه الآليات، خصوصاً وأن استمرارية الأعمال وضمان التعاقب ضروري في مجال مكافحة الفساد الذي قد تمتد بعض أعماله لسنوات طويلة. بيد أنه من المهم بالنسبة للخطط التي تغطي الفترة من انشاء المفوضية وحتى نهاية الفترة الانتقالية مراعاة الأولويات التي تتعلق والفترة الانتقالية الحرجة التي يمر بها السودان حالياً؛ إن أولويات الاستراتيجية الوطنية تشمل ولا تقتصر على:
• استرداد الأصول المنهوبة الموجودة في الخارج.
• وضع الأطر التشريعية والتنظيمية لمكافحة الفساد وتعزيز النزاهة.
• التنسيق بين أجهزة إنفاذ القانون المختلفة لضمان وضع الإمكانيات اللازمة لإنفاذ تشريعات محاربة الفساد وتعزيز النزاهة.
• وضع مقاربة شاملة وكلية تضع مكافحة الفساد وتعزيز النزاهة في صدارة آليات الفترة الانتقالية بالتنسيق مع الجهات ذات الصلة في الدولة لتحقيق الأهداف التالية:
(أ‌) رفع اسم السودان من القوائم الأمريكية والكندية للدول الداعمة للإرهاب.
(ب‌) محاسبة الأفراد والشخصيات الاعتبارية داخل السودان وأن تكون الأولوية لكبار الفاعلين وناهبي الأموال بأحجام ضخمة ومن يليهم بالتوالي.
(ت‌) وضع أسس صارمة لوقف الفساد السياسي الذي وضعت له الحكومة البائدة نموذجاً بحيث لا تمكن جهة سياسية أو موظف عام من التغول على المال العام تحت أي ذريعة.
(ث‌) تحويل عبارة "ولاية وزارة المالية على العام" إلى فعل حقيقي بحيث لا تكون هنالك أي مناطق رمادية تتعلق بالمال العام.

إنشاء المفوضية يستوجب أن يكون قانونها جامعاً مانعاً يضعه (مختصون) وتناقش مسودته على المستوى الوطني ويطلب من العموم رأيهم بشأنه بطريقة علمية عن طريق موقع الكتروني معتمد. يجب أن تخصص للمفوضية الموارد الكافية للبدء في عملها من ناحية المخصصات المالية ومقر عملها والعدد المناسب من الموظفين الدائمين في كافة ذات الصلة وغير ذلك من المعينات اللازمة، وينبغي ألا يتأخر هذا الأمر وأن يتم بأعجل ما تيسر وإلا فإن الضائع من حقوق الشعب السوداني سيكون كبيراً !

لقد أوضحنا في هذه المقالة وما سبقها رأينا في أن ما تقوم به لجنة تفكيك التمكين الحالية غير كاف، وأن الإسراع في تكوين مفوضية محاربة الفساد وتعزيز النزاهة ضرورة وطنية، وإذ فصلنا أعلاه بعض الجوانب القانونية مما هو مأمول من هذه المفوضية أن تبتدعه في الاستراتيجية الوطنية الشاملة لمحاربة الفساد وتعزيز النزاهة، فسوف نختم سلسلة المقالات هذي في الجزء القادم بالكتابة عن بعض الجوانب الأخرى الهامة من الاستراتيجية الوطنية الشاملة لمكافحة الفساد وتعزيز النزاهة.

 

آراء