محاق الهلال … هدفان وسيجارتان !!

 


 

 

-سطر جديد- الصحافة

يبدو أن الأسبوع الماضى كان توقيتاً خاطئاً تخيرته للإقلاع عن التدخين ، فبعد أن نجحت لبضعة أيام فى الإمتناع عن التدخين تماماً جاءت مباراة الهلال الأخيرة فأنمحق الهلال وأنمحقت معه خطوط دفاعاتى فى مواجهة  التدخين . والمحاق لغوياً هو غياب القمر وراء الشمس وتواريه فى الظل وسُمي بالمحاق لإنمحاق نوره وأختفائه وهكذا كان الهلال الأحد الماضى . لقد تركت إرتياد ملاعب الكرة منذ أكثر من عشرين عاماً لما تسببه لى من توتر ولكن لسؤ الحظ أنا أسكن على بعد بضعة أمتار من إستاد المريخ ، وصراخ الجماهير يدخل أذنيى قبل أن يبلغ الأقمار الصناعية فى الفضاء وقبل أن يعود ليُبث فى التلفزيون أو الراديو . وفى مباراة الهلال والمريخ الأخيرة بإستاد المريخ على بطولة الكونفدرالية وأنا أتابع المباراة عبر التلفزيون كنت أحس وأجزم بأهداف المباراة الخمسة من صراخ الجماهير فى أذنى قبل أن تسكن الكرة الشباك فى شاشة التلفزيون مما يفسد متعة المشاهدة . هكذا هو حال الكرة معى لا تتركنى وإن تركتها وتقتحم حتى غرفة نومى دون إستئذان . وفى مباراة الهلال الأحد الماضى قررت أن أصم أذنيى وأغلق أعينى عن المباراة لما يسببه عشق الهلال لى من توتر سيطيح حتماً بمجاهداتى المضنية فى الإمتناع عن التدخين لما يقارب الأسبوع ، إلا أن صوت الرشيد بدوى عبيد وهو ينسل من الراديو باغتنى فأستسلمت وأنا أمنى النفس بأن التقدم بهدفين فى امدرمان سيعصم الهلال وسيعصمنى من العودة للتدخين . ومضى الشوط الأول على ما يرام وتوقعت أن ينجو الهلال وينجو معه مشروعى الشخصى ، ثم جاء الشوط الثانى فكاد صوت الرشيد يصيبنى بالجنون وهو يلهث فى هلع ويصف (زنقة) الهلال  فقمت وأحضرت علبة السجائر من ركن قصي كنت قد حشرتها فيه بنية عدم مقاربتها ... جلست أنظر للعلبة وهى تنظر الي وتغوينى بينما لهاث الرشيد المتصاعد يرفع من ضغط دمى الى أن جاء الهدف الأول وكانت السيجارة الأولى ... ثم جاء الثانى فأتبعتها بالثانية ... ثم جاءت ركلات الترجيح فعدت مدخناً محترفاً .
ومما زاد فى حزنى - الذى تسببت فيه هزيمة الهلال وهزيمتى الشخصية بإنكسار صمودى أمام التدخين – فرح التشفى وأبتهاج الشماتة الذى ساد بعض جماهير المريخ ولا أبرئ أيضاً بعض جماهير الهلال من ذات السلوك المشين ، فقد خرجت عقب المباراة فوجدت بعض جماهير المريخ أمام الإستاد بطبولها وراياتها الحمراء تزحم الآفاق وهى ترقص وتسد شارع العرضة وبقية الشوارع ، ورحت أتساءل ماذا أصاب الرياضة وأهل الرياضة فى بلادنا ؟ الرياضة التى كانت عبر نادييى الهلال والمريخ من أكبر المواعين الإجتماعية التى حفظت وجسدت وحدتنا الوطنية بأكثر مما فعلته كل الأحزاب والكيانات السياسية والحكومات المتعاقبة ، فقد تبللت الفنائل الزرقاء والحمراء بالعرق النبيل الذى جادت به كل جهويات السودان وأعراقه ومذاهبه المتعددة ... طلعت فريد وحسن كديس وأبو الريف ويوسف عبد العزيز وحسن عوض الله وهاشم ضيف الله وصالح رجب وعبد الخير ... سبت دودو وأوهاج  وماوماو .. الأمير صديق منزول والقانون برعى والمايسترو يوسف مرحوم .. ماجد وجكسا وأمين زكى وود الشايقى .. عمر التوم وبكرى عثمان والمحينة وعوض الكباكا .. القرّود وجيمس وسمير ونجم الدين وحسبو الكبير وحسبو الصغير .. وأنتهاءً بإدوارد جلدو  ويور وريتشارد جاستن وجمعة جينارو . هذه الأسماء المبدعة المتباينة التى جسدت (موزاييك) النسيج الإجتماعى السودانى منذ ما قبل الإستقلال لو تأملنا فيها لوجدنا السودان الجميل القديم الذى ضاع من بين أيدينا ، ونخشى أن يتوالى تقلص الأسماء الجميلة المتنوعة ذات الدلالة والرمزية لوحدة الوطن حتى لا يبقى سوى كلتشى وسانيه وأكانقا وليما .
إذاً ما الذى جعل هذا الإرث الوطنى الجميل للرياضة فى بلادنا يتحول الى عصبية مزرية وقبلية مقيتة ؟ أتراه بعض من تداعيات المناخ السياسى ؟ من المؤكد أن الأزمة أكبر من أن تُعلق على شماعة الإعلام الرياضى فالناس على دين ملوكهم ،والسودانيون هم بالفطرة شعب يعشق الإنتماء ... هذا الإنتماء كانوا فى السابق يجدوه فى رحابة المناخ السياسى والإجتماعى فيجنحون يساراً ويميناً ووسطاً .. شرقاً وغرباً ، تتوزع شحنات الإنتماء عندهم ما بين الإنتماءات السياسية والمدارس الفكرية والآداب والفنون والرياضة فيزوى ضرام تلك الشحنات دون أن يخبو نورها . واليوم ما عاد هناك سوى الكرة يمنحوها إحتياجهم الفطرى للإنتماء والتعبير عن هذا الإنتماء .. ويمنحوها فوق الإنتماء كل التطرف والتشنج والغضب . إن الهوس المقيت فى أجواء الرياضة هو بعض من هوس السياسة ، والطبول التى تدق والنيران التى توقد فى مدرجات الرياضة هى ذات طبول الإستعلاء العرقى والمذهبى التى يقرعها بعض المتشنجين فى مضمار السياسة .
لا أدرى أين أرمى بأحزانى .. لخروج الهلال .. لإنكسار مجاهداتى أمام التدخين .. أم لإنكسار الوطن ؟!

fadil awadala [fadilview@yahoo.com]
//////////////

 

آراء