دعاني المهندس جودة الله عثمان المستشار برئاسة ولاية الخرطوم إلى المشاركة في ندوة تقيمها اللجنة العليا لاحتفالات البلاد بالعيد الخامس والخمسين للاستقلال تحت عنوان «عوامل توطين دعائم الأمن والسلم بالسودان»، واستغربت دعوتي من مسؤول حكومي في مناسبة رسمية يدور الحديث فيها عن قضية سياسية هي أم القضايا في هذه المرحلة، لأن سجلي السياسي لدى الحكومة ليس نظيفاً وأحسب أن المتنفذين في الحكومة لا يرغبون في رؤية أمثالي حتى في المناسبات الاجتماعية دعك من السياسية. وسألت الرسول الذي جاءني بالدعوة: هل أنت متأكد أني أنا المعني بالدعوة؟ فأجاب بثقة أن نعم، وتحادثت بعدها مع المهندس جودة الله فلمست أنه مصر على دعوتي وحريص على مشاركتي. ولم أملك إلا الاستجابة رغم تقديري أن النخبة المدعوة لحضور الندوة لن تتلقاني بالتهليل والتكبير، وذلك تقديراً مني وتشجيعاً لدعاة الرأي الآخر داخل مؤسسة الحزب الحاكم لعلهم في يوم قريب يشكلون بذرة التغيير في النظام الشمولي العتيق. أقيمت الندوة على شرف الاحتفاء بسنة 2010م عاماً للأمن والسلم الإفريقي حسب إعلان القمة الإفريقية بطرابلس في أغسطس الماضي أن تكون إفريقيا بنهاية 2010م «قارة خالية من النزاع». وبالطبع ما كان أحد من الرؤساء يتوقع أن يتحقق ذلك الحلم في وقت قريب لكن ينبغي أن يبقى هدفاً استراتيجياً تسعى له القارة بجد واجتهاد تحت كل الظروف، لأنه لا أمل للقارة ذات الموارد المهولة غير المستغلة أن تتجاوز حالة التخلف والفقر المستوطن فيها إلا بمعالجة مشكلة النزاعات والحروب الدائرة فيها، والسودان نموذج كلاسيكي للتخلف الذي تسببه النزاعات والحروب وعدم الاستقرار.
أقيمت الندوة نهار الأربعاء (29/12) بالقاعة الإقليمية بقاعة الصداقة بحضور منتقى ضم وزراء حكومة الولاية ومعتمدي المحليات وأعضاء المجلس التشريعي والمسئولين في أجهزة الحكومة وعدداً من الإعلاميين، وشهدها الدكتور عبد الرحمن الخضر والي الخرطوم الذي افتتح الندوة بتحية الحضور وتقديم المتحدثين وشكرهم على المشاركة. وترأس الأستاذ بونا ملوال مستشار رئيس الجمهورية الجلسة التي بدأ الحديث فيها البروفسير حسن مكي ثم شخصي الضعيف ثم الدكتور نافع علي نافع وتغيب عنها الفريق صلاح قوش الذي كان اسمه ضمن المتحدثين.
تركزت مداخلتي القصيرة في الندوة على ذكر شروط عامة أحسبها هامة لتوطين السلم والأمن في كل بلاد القارة الإفريقية وهي:
1- تبني النظام الديمقراطي الذي يتيح حريات التعبير والتنظيم لكافة فئات المجتمع ويمكنها من التداول السلمي للسلطة.
2- المشاركة في السلطة التنفيذية والتشريعية لمكونات المجتمع بقصد احتواء التنوع العرقي والثقافي والديني حتى لو كان هناك حزب واحد يملك الأغلبية التي تمكنه من الإنفراد بالحكم. وهذا ما قام به الزعيم الإفريقي الفذ نلسون مانديلا حتى مع الأقلية البيضاء التي قهرت السود في بلاده لمئات السنين والذين تواطؤا معهم من القيادات القبلية الإفريقية.
3- تبني النظام اللامركزي في الحكم حتى تجد أقاليم البلاد المختلفة الفرصة لحكم نفسها مهما كان حجمها السكاني.
4- التنمية العادلة المتوازنة في كل أنحاء البلاد وما يتطلبه ذلك من خدمات الصحة والتعليم وتأسيس البنية التحتية.
وقلت إن مطلوبات توطين السلم والأمن والاستقرار في السودان تعني الآتي:
1- إقامة سلام وتعاون في شتى المجالات مع الجنوب بعد انفصاله.
2- معالجة مشكلة دارفور التي استطالت وأدت إلى مآسي إنسانية لفتت أنظار العالم.
3- تنظيم المشورة الشعبية في النيل الأزرق وجنوب كردفان بصورة شفافة واحترام نتائجها ولا ينبغي أن يعول المؤتمر الوطني على أغلبيته في المجلس التشريعي بالولايتين ليفرض معالجة لا تجد قبولاً عاماً. وقد تكون هذه فرصة لإعادة النظر في تقسيم ولايات السودان لأن التقسيم الحالي ليس له جدوى اقتصادية أو إدارية فكثير من الولايات يعتمد على دعم المركز بنسبة تزيد على الخمسين في المئة من ميزانيتها، ويذهب جزء كبير من الميزانية إلى شاغلي المناصب الدستورية الكثر وأجهزة الحكومة المترهلة في كل ولاية.
4- تجميع القوى السياسية الرئيسة في جبهة موحدة لتحقيق برنامج وطني متفق عليه يخرج البلاد من المأزق الذي تمر به بعد انفصال الجنوب.
5- تطبيع العلاقات الثنائية مع دول الجوار الإقليمي ومع الدول الكبرى حتى لا نؤتى من قبلها.
وكان الدكتور نافع علي نافع مساعد رئيس الجمهورية ونائب رئيس المؤتمر الوطني للتنظيم المتحدث الرئيسي في تلك الندوة ولم تخلو مداخلته الطويلة من التعرض لبعض ما ذكرت ولكن بنفس هادئ غير الذي عرف به عند مخاطبة الحواريين والأنصار في باحات المؤتمر الوطني. وبما أن الندوة خلت من النقاش في أعقاب حديث المشاركين فلا بأس عليّ أن أتعرض لبعض ما قاله الدكتور نافع واختلف معه فيه. قال الدكتور نافع إن أسباب الصراع في الدول تكمن في التخلف وآثاره من فقر ومرض وجهل وبطالة، وضعف النظم السياسية والإدارية، وبسبب الدعم الخارجي التي تلقاه حركات التمرد. وأنكر نافع أن يكون التعدد العرقي والثقافي مدعاة للصراع والنزاع لأن التنوع موجود في كل بلاد الدنيا وليس هناك صراع في كل تلك البلاد، ونحن في السودان نمتلك فلسفة ومعتقداً نتعالى به على العرق واللون والطبقة يحمينا من ذلك الصراع. وقال إنه يوافق على تحقيق الوحدة الوطنية بين قوى المجتمع المختلفة ولكن لا ينبغي أن يربط ذلك بالمشاركة في السلطة لأن التفويض الشعبي هو الوسيلة الوحيدة لتداول السلطة. وأجد نفسي مختلفاً مع الدكتور نافع في هاتين النقطتين الهامتين خاصة بالنسبة لتوطين الأمن والسلم في السودان. إن التعدد والتنوع العرقي والثقافي هو أهم أسباب النزاعات والحروب في القارة الإفريقية مثل ما يحدث في الكونغو وساحل العاج وسيراليون وليبريا والسودان ويوغندا وغيرها من الأقطار الإفريقية بل هو السبب الرئيسي في كل نزاعاتها، وذلك حين لا تحسن الدول إدارة التنوع بالعدالة والمشاركة في السلطة والثروة بالدرجة الكافية. وقد اعترفت كل القوى السياسية السودانية أن هناك ظلماً وقع على أهل الجنوب طيلة عقود ما بعد الاستقلال، واتفاقية السلام الشامل التي يفتخر بها المؤتمر الوطني اعترفت بذلك الظلم وقدمت عرضاً مجزياً للحركة الشعبية في اقتسام السلطة والثروة. وقامت اتفاقيات جنوب كردفان والنيل الأزرق والشرق ودارفور على ذات الفرضية أن هناك ما يستدعي منح هذه المناطق (المهمشة) المختلفة عرقياً وثقافياً من أهل المركز نصيباً من السلطة والثروة. فالمشكلة ليست في التعدد لذاته ولكن في عدم حسن إدارته، والأنظمة العسكرية هي الأفشل في إدارة التنوع السكاني لأنها تعتمد المركزية القابضة في إدارة الدولة ولو ادعت شكلياً أنها تتبنى نظاماً فدرالياً. وليس صحيحاً أن يقال إن الفلسفة الواحدة أو الدين الواحد يعصم الناس بذاته من الصراع والنزاع فلم يستل سيف في تاريخ الإسلام مثل ما استل في النزاع حول الخلافة، ولماذا نذهب بعيداً وعندنا نموذج المؤتمر الوطني نفسه الذي انقسم على نفسه متنازعاً على السلطة رغم الدين الواحد والفكر السياسي الواحد والتنظيم الواحد! أما الحديث عن ان التفويض الشعبي وسيلة وحيدة للمشاركة في السلطة فلا ينبغي أن يأتي من الجهة التي اختطفت السلطة بانقلاب عسكري واستمرت في الحكم على مدى خمسة عشر عاماً دون تفويض شعبي وبعد أن أجبرت على إقامة انتخابات تعددية بموجب اتفاقية السلام الشامل كانت مضروبة ومقاطعة ورفضت نتيجتها كل الأحزاب السياسية.
وبما أن المرحلة التي يمر بها السودان حالياً خطيرة وحرجة ومفتوحة علي كل الاحتمالات فإنها تستدعي تماسك الجبهة الداخلية وتوحيدها حول برنامج وطني ينقذ البلاد من تداعيات انفصال الجنوب على بقية الأقاليم، وتقوم على تنفيذه حكومة أمينة ومقتدرة ومقبولة من كل أطراف المعادلة السياسية في البلاد حتى يلتف الناس من حولها ويدعمون سياساتها في المجالات المختلفة. ولا ينبغي للدكتور نافع أن يأخذ فوز حزبه في الانتخابات الماضية بجدية أكثر مما يجب، وليقارن بين كسب حزبه في الجنوب في انتخابات 2000 عندما كان مسيطراً عليه وبين كسبه في انتخابات 2010 عندما سيطرت عليه الحركة الشعبية ليدرك مدى تأثير السلطة المطلقة في كسب الانتخابات!