محاولة لميلاد عهد جديد

 


 

 

دعيت من قبل تجمع دعم العمل السياسي الأفريقي بلا عنف وهي جماعة طوعية تتخذ من أديس أبابا العاصمة الإثيوبية للحديث عن تطور العقلية السياسية السودانية ولعمرك أنه مبحث عميق وكبير يحتاج لمعرفة عميقة بتاريخ الفكر السياسي منذ مملكة علوة والمقرة لما نحن عليه الآن، وكذلك تحليل الواقع السياسي السوداني وعرضه يحتاج لوقت طويل وعدة محاضرات تبدأ السرد التاريخي لكل الحقب مع تحليل الكتابات والمواقف إن كانت مواقف لكيانات حزبية أو لقوى المجتمع المدني من خلال ما مضى إلى أن نصل لما نحن عليه الآن.. بدأت حديثي محاولاً شرح سيكولوجية العلاقات بين الجماعات السياسية وقضايا الهوية وتصنيف الذات لدى جمهرة المثقفين السودانيين كمدخل وجيه لتحليل هذه المرحلة أننا نعيش اليوم موجة من انعدام حضور الدولة على كافة المستويات، بل يسود الصراع السياسي والاستقطاب بصورة مخيفة بالإضافة الى خطاب الكراهية في منصات الإعلام وتصريحات الساسة إلى حد التصريح بالعنف والحقيقة أن معدلات الصراع أو مستوياته تختلف لأسباب كثيرة ومنها ما يطفو على السطح ويصبح قضية جماعة أو حزب أو قبيلة، وهنا أسقط الحركات المسلحة لأن نهجها السياسي كان منذ تكوينها ضبابية الطرح ولا يقوم على أساس سياسي يخدم قضايا الهامش أو أقاليم الحرب الأهلية وظهر ذلك جلياً عند توقيعهم اتفاق المعيب والبعيد عن قضايا أهل المصلحة الحقيقيين [zh1]، بل منذ إنجاز التوقيع وتربع بعضهم على سلطة إدارة الأقاليم هذه كثر التعدي على أهل المناطق وسقط القتلى بالمئات ولا بد من تحديد ماهية الصراع وهو صراع على السلطة التي تهمين على الثروة أو قل تعطي الحق في النهب الممنهج لثروات البلاد مع حفنة من أهل المصالح في دول من حولنا وتحالفات مافيات دولية والمتابع لأحوالنا يعرف مدى صحة ما أقول إن القضية المحورية التي برزت منذ سقوط العهد البائد هي مدنية النظام السياسي وأن كل الكيانات التي ولدت بعد الثورة لا تريد أن يكون للعسكر دور في الحياة السياسية بالرغم من أن هنالك من الأحزاب التقليدية والإسلام السياسي الذين هم الآن في رعب من عصا التفكيك وعدالة المحاسبة والطرق الصوفية التي تسوق لهيمنة العسكر وبعض بيوتات الأعمال والمال التي تساند العسكر حماية لمصالحها وإمعاناً في سرقة وتهريب موارد السودان وهنا أقول بكل صراحة إن الطمع في سدة الحكم جعل حتى الأحزاب تتحالف مع العسكر لكي تنال الحكم من خلال الانقلابات العسكرية وهذا النوع من التحالفات أصبح مرفوضاً ولا مكان له في علم الشأن العام اليوم والدليل رفض شباب الحراك الثوري والناشطين والناشطات لانقلاب البرهان الأخير وفشله في تحقيق مآربه وجنح للفوضى وغياب الدولة لكي يعزز من وجوده ولكن ذهبت جهودهم أدراج الرياح حتى عندما حاولوا الاستعانة بوجود الإسلاميين على مفاصل الدولة لكي يحققوا استقراراً يصنع نسخة جديدة لدكتاتورية تشبه ما حسمتها هبة الثورة الأولى في ديسمبر كانوا يظنون أنهم سيدفنون ثلاثة مبادئ للثورة وهي قيام الدولة الديمقراطية أو الانتقال الديمقراطي السلس وتوزيع الثروة بعدالة والتعايش السلمي بين كل أهل السودان تعالوا نرى كيف بنى كل فصيل رؤيته على شكل خطر يمثله الطرف الآخر، وكل يحاول إن وجد السلطة الانفراد بها والتخويف من الآخرين!!
من المحبط أنهم لا يعمدون على تطوير الفكر السياسي ولا مفهوم الدولة لدى الأغلبية من أهل السودان ولا يؤخذون بمنهج الجيل الجديد الذي صنع التغيير وما زال يقدم التضحيات من أجل قيام انتقال ديمقراطي يلبي أحلام السودانيين، وقد جاء في أطروحة لزميلة صحفية هو ما أعتبره الحق الأبلج في توصيف الأحزاب السودانية إذ كتب: (يتسم التكوين الحزبي السوداني بالروح القبلية والجهوية والولاءات المختلفة، مع شيوع التنقُّل بينها، ومع خضوع الحزب لرئيس واحد لأكثر من نصف قرن، مثلما في نموذجي حزب الأمة والاتحادي الديمقراطي، فقد أسَّست هذه الصفات مع غيرها لما يُعرف بالبداوة السياسية، واستطاعت الأحزاب السودانية المختلفة التعايش مع فترات حكم النُظم العسكرية التي تخللتها تجارب ديمقراطية قليلة، ذلك أنَّ تكوينها الداخلي لا يخضع لانتخابات، وإنَّما لسلطوية تُعلي من مكانة زعيم الحزب وترفض تغييره، ما أنتج أحزاباً هشَّة لم تستطع التغيير ومواجهة الاستبداد العسكري، إلى قيام كل الثورات بانتفاضة شعبية من دون غطاءٍ حزبي، هذا الوضع هو نتاج للصراع بين سلطة الدولة، وثقافة القبيلة أو الجهة ذات الولاء، فبدلاً من أن تعيش الأحزاب تحت جناح الدولة، تسيطر زعامة الحزب المحكومة بالولاء القبلي أو التوجه الطائفي على شكل القوى السياسية المكونة للدولة. وذلك وفق متغيرات يشهدها السودان، أهمّها حالة انكسار برزت في معادلة تغول الدولة على المجتمع، التي ابتدأت منذ انقلاب الإنقاذ 1989، حينها كانت الأحزاب السودانية حتى في مهجرها ترفع صوتها مقابل ضعف المواطنين، وطوال 30 عاماً، فإنَّ المواطنين لم يشعروا أنّ هذه الأحزاب تمثلهم بعدما كفت قياداتها التي تنتمي لأطياف سياسية مختلفة عن التحدث باسمهم، وحصرت كل تفكيرها في اقتسام السلطة مع الحزب الحاكم، حتى الآن لا نجد نقداً ظاهراً لنموذج الأحزاب العقائدية والطائفية التي تلتف حول مسلمَّات تاريخية، أسهمت في ترسيخها كراهية نظام الإنقاذ، فظهرت أحزاب عرقية وجهوية ودينية وطائفية وتكفيرية، مما يهيئ السودان للعودة إلى موجة بدوية سياسية أخرى تحت غطاءٍ ديمقراطي، وبذا تكون النخب قد عجزت عن إنشاء مشاريعها التنظيمية الكبيرة المتسمة بالمرونة القادرة على القيام بوظيفتها الأساسية التي تسمح لها بالتواصل والاستمرار والريادة، وأكرر قولي إنه أدق توصيف لحال الأحزاب وعلى إيضاح حقيقة الأحزاب هي التي تقتل كل الممارسات من قوى الثورة الحية نحو الانتقال الديمقراطي إن الأحزاب السياسية التي تولت الحكم بعد انهيار نظام البشير شريك أساسي في مسؤولية ضياع الفرصة لتحقيق تحولات نوعية في مسار الشأن العام، عبر تأسيس النظام السياسي المستقر والذي لديه الكفاءة لتحقيق الانتقال الديمقراطي، إن التحولات الحراك الثوري الذي ما زال يمضي إلى مآلاته للديمقراطية والذي ينادي بالتغيير الجذري وتأثيراتها العميقة على واقع الفكر السياسي لابد أن تسهم في ذهنية جديدة قوامها الحوار والانفتاح على الآخر واحترام الآراء وبدون إرساء قواعد وتقاليد وسلوك ديمقراطي الذي يجعل الدولة دولة لكل المواطنين ويجعل المجتمع متحداً مع مكوناته وتنوعه ومتوافقاً مع اختلافه ومتصالحاً مع نفسه، ودون ذلك يحل الجمود والتكلس وعل فيما قلت شرحاً موجزاً للواقع السياسي الحالي ومن خلال المداخلات يمكن أن تبرز شروح تفيد الطرح.

zuhairosman9@gmail.com
//////////////////////////

 

آراء