The Archives of the Mahdia ب. م. هولت P. M. Holt ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذه ترجمة للجزء الثاني والأخير من مقال للبروفيسور بيتر هولت عن أرشيف المهدية نشره في عام 1955م بالعدد رقم 36 من مجلة "السودان في مذكرات ومدونات". والمقال في الأصل هو محاضرة ألقاها البروفيسور هولت في مؤتمر سنوي للجمعية الفلسفية السودانية. عين البروفسور المؤرخ هولت (1918 – 2006م) عقب تخرجه في جامعة أكسفورد أستاذا للتاريخ بالمدارس الثانوية السودانية، ثم عمل مفتشا بين عامي 1941 – 1953م. وأنشأ من بعد ذلك دار الوثائق وترأسها، وعمل محاضرا غير متفرغ في جامعة الخرطوم بين عامي 1952 – 1953م. عاد بعد ذلك إلى بلاده وعمل في معهد الدراسات الشرقية والأفريقية بين عامي 1955 – 1982م إلى حين تقاعده. نشر الرجل في خلال مسيرته الأكاديمية أعمالا أصيلة عديدة عن تاريخ السودان (خاصة في عهد المهدية) ومصر (في عهد المماليك) وسوريا، وشارك في كتابة فصل عن العرب والإسلام في موسوعة كمبردج عن الاسلام. صدر آخر كتاب له في عام 1999م عن مملكة الفونج بعنوان: The Sudan of the Three Niles: The Funj Chronicle 910-1288/1504-1871. تعلم اللغة العربية في غضون سنواته في السودان، وترجم كتابين من الألمانية والفرنسية (أنظر نعي بروفيسور هولت في صحيفة الاندبندنت (http://www.independent.co.uk/news/ob...lt-426133.html) أشكر دكتور محمد الصادق جعفر على جلبه هذا المقال من مكتبة جامعة الخرطوم.
المترجم **** **** ****
انتقل الآن إلى الوثائق الخاصة بالشؤون الإحصائية والمالية والاقتصادية للمهدية. وكما ذكرنا آنفا فإن وثائق طوكر وما حولها كانت أكثر الوثائق المالية والاقتصادية غنى بالمعلومات، تليها في ذلك مدينة دنقلا. بينما كانت وثائق الأبيض والفاشر وبربر أقل تفصيلا من طوكر ودنقلا. وللعجب كانت الوثائق الاقتصادية التي تم جمعها من أمدرمان مخيبة للآمال. فقد كانت تضم، ومنذ أيام أمانة إبراهيم محمد عدلان لبيت المال في بداية حكم الخليفة، مجموعة كبيرة من الايصالات وطلبات الشراء وغيرها من الوثائق قليلة الأهمية. غير أن هنالك تسع من الوثائق المهمة عبارة عن كشف الحسابات للدخول والمنصرفات الشهرية منذ أيام أمانة إبراهيم رمضان لبيت المال في عام 1897م، وكشوفات بكميات الحبوب التي استلمت، وتلك التي صرفت في ذات الفترة. ومن تلك الوثائق يمكن فهم وظائف الخزينة العامة (بيت المال) في نهايات عهد الخليفة. غير أنه من المتعذر فهم ما قام به إبراهيم محمد عدلان في بيت المال بعد أن عينه الخليفة في عام 1886م بديلا لأحمد ود سليمان أمين بيت المال في عهد المهدي. وكانت هنالك وثائق إحصائية عديدة مصدرها أمراء وقادة القوات عن أعداد المحاربين والأسلحة والخيول، وقوائم بممتلكات قادة الجنود الذين توفوا أو عزلوا، وقوائم أخرى بما أرسل لبيت المال من غنائم بعد المعارك، وغير ذلك. ويمكن لدارس تلك الوثائق معرفة الكثير عن تركيبة الجيش وأسلحته، ومعلومات أساس عن الشخصيات الثانوية (الأقل أهمية) في ذلك العهد. ويتكون أرشيف المهدي من وثائق منفردة إلا في حالات قليلة جدا حيث جمعت الوثائق بين دفتي مجموعات منفصلة، حوت من ضمن ما حوت سجلا بالرسائل منذ عهد المهدي وحتى عام 1306 هـ/ 1888 – 1889م، ودفاتر بيت المال في أم درمان والأقاليم. ولا ريب أن الإدارة المهدوية كانت قد اعتمدت بصورة كبيرة على الكمية الكبيرة من الأوراق التي ورثتها عن الحكم المصري – التركي السابق. وكانت تلك الأوراق ذات نوعية ممتازة، ولذا بقيت غالب الوثائق في حالة جيدة بعد مرور سنوات طويلة على صدورها. ولكن يتوقع أن تحدث كثرة التداول لتلك الأوراق تدهورا فيها، لذا فالعمل جار لتصوير تلك الوثائق وعمل ميكروفيلم (أفلاما مصغرة) منها، خاصة للأعمال المهمة مثل منشورات المهدي (حققها ونشرها في عام 1969م البروفسير محمد ابراهيم أبو سليم (أحد طلاب كاتب هذا المقال) تحت عنوان "الآثار الكاملة للإمام المهدي. المترجم). وكانت تلك الوثائق مكتوبة بخط واضح ومقروء. أما أسوأ تلك الوثائق في الخط والوضوح والمقرؤية فقد كانت هي رسائل الخليفة عبد الله، ويبدو أن كتبته كانوا مرهقين من كثرة العمل! وميز رسائل الخليفة احتفاظها – دون استثناء تقريبا- بنمط وأسلوب محددين. فكل رسائله تبدأ بـ: "بسم الله الرحمن الرحيم ... الحمد لله، سبحانه وتعالى، الولي الكريم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وصحبه ...". وتغيرت التحية – بعد وفاة المهدي – وصارت الرسائل تبدأ بـ :" من عبد ربه، الخليفة عبد الله بن محمد خليفة المهدي (عليه السلام)، الخليفة بن محمد ... خليفة الصديق، إلى محبه ومساعده ، عامل المهدية، الحبيب حمدان أبو عنجة – حفظه الله وحرسه ... ". وكانت التواريخ مكتوبة بوضوح في كل رسائل الخليفة، ولاحظ نعوم شقير اختلافا بيوم واحد في التواريخ الهجرية في السودان ومصر في أيام المهدية. ولا علم لي بتاريخ هذا الاختلاف، غير أنه بالقطع لا بد أن يكون قد بدأ قبل وفاة المهدي. ونجد أن كل الرسائل كانت موثقة بختم من كان قد أمر بكتابة الرسالة. وتتضح أهمية ذلك التوثيق في خطاب من النجومي للخليفة في 1886م يشكره فيه على ختم جديد كان قد بعث به إليه، ويخبره بأن الختم القديم قد تم إتلافه. وكان المتبع عادة أنه عندما يفقد الختم، يقوم مرسل الخطاب بالتوقيع عليه. ومن الملاحظ أن هنالك اختلافا كبير بين كتابة / خط أمراء الخليفة التي تفتقر لشكل واحد محدد (unformed handwriting)، وخط الكتبة المنمق المجود. ولم يكن الخليفة يضع ختمه على رسائله في أيام المهدي، بل كان يوقع عليها من يخطها (مثل أحمدي محمود أو المدثر إبراهيم)، وهو أمر يثير سؤالا حول أمية الخليفة. ومن الواضح أنه كان في عهد الخليفة نظام كتابي حسن التنظيم له تقاليد إجرائية محددة، في أمدرمان وفي الأقاليم كذلك. وكان أولئك الكتبة والمحاسبين من الذين عملوا سابقا مع الحكومة المصرية بالسودان. ويمكن معرفة الكثير عن الحكومة المركزية من الاطلاع على قائمة العاملين بالدولة المهدية، والتي جمعها قسم المخابرات العسكرية مباشرة بعد سقوط أمدرمان. ويجد الباحث نسخة غير مكتملة من تلك القائمة في تقرير للمخابرات باللغة الإنجليزية (رقم 60)، بينما تحوي الوثائق المحفوظة أصل تلك القائمة العربية. ومن تلك القائمة نعرف أن أربعة من كتبة بيت المال في عام 1898م كانوا قد عملوا مع الإدارة المصرية السابق لثلاثة عشر سنة. وكذلك كان اثنان من هؤلاء من كتبة الترسانة، واثنان يعملان في خزينة إدارة الحربية. ويصدق وجود كتبة من العهد السابق في مختلف إدارات الدولة المهدية. بل كان لكل من يعقوب وشيخ الدين كاتبان من كتبة الحكم المصري السابق. وترقى كثير من اولئك الكتبة في المناصب في عهد الخليفة. فعلى سبيل المثال عمل يوسف ميخائيل (القبطي الذي كان يعمل محاسبا صغيرا بالأبيض مع بدء الثورة المهدية) محاسبا للخليفة، وقاد "الوحدة القبطية" في معركة كرري. وعمل العوض المرضي (الباشكاتب بطوكر في عهد الحكم المصري السابق) مرتين أمينا لبيت المال في عهد الخليفة عبد الله. غير أن الخليفة غضب عليه ذات مرة وأودعه السجن وبقي فيه إلى حين دخول كتشنر لأمدرمان. وكان قد سبق العوض المرضي في ذلك الموقع المربح والخطر (في آن معا) النور إبراهيم الجريفاوي، والذي سبق له العمل في محكمة الخرطوم في عهد الحكم المصري السابق. وتقلد الجريفاوي أمانة بيت المال بأمدرمان بعد أن كان يعمل مسئولا عن المالية في بربر. ثم عين بعد إعادة الفتح في وظيفة أقل شأنا في مالية قسم الحربية. وتتضح خطورة هؤلاء الكتبة في إدارة الخليفة عبد الله من دراسة التعليمات التي كان يوجهها الخليفة لهم عند التعيين. وهذه عَيِّنة من (معاني) خطابات تعيين رجل اسمه محمد ود حسن، والذي كان الخليفة قد بعث به لبربر ليعمل كاتبا خصوصيا لأمير بربر عثمان الدكيم في عام 1305هـ / 1887 – 1888م. "بالنظر إلى حسن الظن بك، نعلمك بأننا نرسلك للمكرم عثمان الدكيم لتعمل تحته كاتبا، نظرا لطول عملك في خدمتنا في هذه الوظيفة، ولفهمك لها. يجب عليك أن تعمل بجد واجتهاد واخلاص في ما وكلناه لك من عمل. وينبغي عليك أيضا أن تعرض عن الدنيا ومغرياتها، وألا تتدخل فيما لا يعنيك. كن للمكرم عثمان الدكيم كالميت بين يدي الغاسل، وعجل بتنفيذ أوامره. اقرأ له كل ما نرسله من عندنا، وإن طلب منك أن تقرأ للأحباب الآخرين شيئا فأفعل كما يقضي الشرع الحنيف. وإن أمرك بإخفاء شيء فعليك بإخفائه وعدم اطلاع أي مخلوق عليه. وبعد أن تطلع عثمان الدكيم على الخطابات، وبعد أن يطلعك على مضمون ردوده عليها، اكتب تلك الردود ملتزما بما قاله لك دون أدنى تفريط، ولا تخبر أي مخلوق بشيء مما كتبته، حتى ود حمدنا الله أو النور إبراهيم، إلا إذا اقتضت الظروف إخبارهما بالأمر، وكان في معرفتهما به نفع وفائدة. وفي هذه الحالة أخبرهما بعد أخذ موافقة المكرم عثمان الدكيم. ولا ينبغي لأحد من الخلق أن يتدخل في الأوامر الخاصة التي أصدرها لعثمان، ويجب أن تكون بينك وبينه. وفيما عدا ما سبق ذكره يا عثمان، لا تسمح لأحد بالتدخل، بل ابق أوامري معك. ولما تقدم، عليك القيام بواجبات الكاتب كما ذكرنا لك بعاليه". (وعقب ما تقدم استعرض هولت في فقرات مطولة بعض الوثائق الخاصة بالقضاء بين عامي 1890- 1892م من خلال رسائل وفد بعثه الخليفة عبد الله بقيادة سليمان الحجاز (الحجاج؟) نائب قاضي / وكيل محكمة الإسلام بأمدرمان لتفقد وإعادة ترتيب وتنظيم أحوال القضاء في كردفان ودارفور اللتان كانتا تحت إمرة محمود ود أحمد. والفقرة التالية هي أحد الأمثلة لتلك الوثائق. المترجم). وصف القاضي سليمان في إحدى رسائله ما وجده وفده في دارفور من فوضى عارمة وسفك للدماء وضعف لقوات المهدية المكلفة بحفظ الأمن والنظام. وعزا القاضي تلك الفوضى لتفلتات الجهادية (محاربو المهدية الذين كانوا مسترقين في عهد الحكم المصري). وكان سليمان يدرك أن ليس بمقدوره التدخل في أمور تخص العسكر، وأنه لا يمتلك السلطة لمخاطبة الخليفة مباشرة، فكان يرسل خطاباته إلى المسئول الأول في "محكمة الإسلام" بأم درمان ليرفعها بدوره للخليفة. ولكنه رغم ذلك قام بإرسال أمر لأمراء الجهادية طالبهم فيه بضرورة حفظ الأمن والنظام، وطلب منهم أن يقسموا أمامه على وضع أوامره تلك موضع التنفيذ. وليس في الوثائق المتوفرة أي رد من الخليفة أو تعليق على رسائل سليمان. ولكن يبدو من إحدى رسائل سليمان أن محمود ود أحمد جمع كل قواته في الفاشر وأمرهم بأداء القسم على الحفاظ على الأمن والنظام. وكتب سليمان خطابا يرجو فيه أن يقوم الخليفة بكتابة رسالة شكر وتقدير لقادة وجنود الجهادية لالتزامهم بما أقسموا عليه. لا ريب أن معرفة محتويات إرشيف وثائق السودان في تلك الفترة هو أمر يهم السودانيين في المقام الأول. وتقع في هذا الجانب مسئولية كبيرة على الطلاب السودانيين في دراسة هذه الكنوز من الوثائق. غير أنه سيكون أمرا مؤسفا إن اقتصرت المعرفة بمحتويات تلك الوثائق على من يعيشون أو يعملون بالسودان فحسب، فهي ذات أهمية للمؤرخين والمستشرقين في كل أرجاء العالم. فقد ساد في الماضي اتجاه لدراسة المهدية بنظرة ضيقة بحسبانها مرحلة في تاريخ السودان متفردة في طبيعتها، ويمكن تفسيرها بأنها عهد من "التطرف الديني" أو "بدايات الوطنية". فالنظرة بأي من هذين المنظارين لا توفي تعقيدات تلك الحركة حقها، ولا تبحث في أمر المهدية في السودان (كما أشار دكتور مكي شبيكة) في إطار أشمل ضمن حركات الثورة / التمرد في الإسلام. فنموذج pattern المهدية السودانية يحاكي كثيرا من أمثلة حركات العصور الوسطى، ويشابه (ظاهريا) تاريخ الحركة المهدوية التي قادها محمد بن عبد الله تومرت المهدي (471 – 524هـ) في شمال غرب أفريقيا. وبصورة من الصور كان مبعث المهدية السودانية هو ردة فعل لتآكل الإسلام، وهو ذات الدافع الذي سبب قيام الحركة الوهابية والسنوسية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ومن المهم والواجب على مؤرخي الشرق الأدنى وضع مهدية السودان على تلك الخلفية التاريخية لفهمها من الداخل (from within) ولدراسة أيديولوجيتها بالتفصيل، ولبحث مصادر سياستها. ولتحقيق كل ذلك، لا غنى عن دراسة أرشيف وثائق الخرطوم البالغ الأهمية. ****** ************ ******** المناقشة وفي ختام المحاضرة سأل دكتور شبيكة هولت عما إذا كانت دراسة أرشيف الوثائق قد غيرت من النظرة التقليدية للخليفة، فأجاب هولت بالقول إنه لم يقم إلا بدراسة جزئية (لتلك الوثائق) ولكنه يعتقد بأن الخليفة فيما يبدو شخصية جديرة بالملاحظة (remarkable) وصاحب كفاءة إدارية ممتازة، فقد حكم السودان في مرحلة حرجة من تاريخه، وعقب فترة قصيرة من نجاح ثورة ناجحة. وكانت (معظم) نقاط ضعفه مفروضة عليه بسبب ظروف الزمن الذي عاش فيه، وخوفه من تمرد من حوله، ومحاولته فرض سيطرته الشخصية على كل جوانب الإدارة، وهي السياسة التي قتلت كل مبادرة عند معاونيه. ومن الأمثلة على زعمي هذا هي الخطابات التي كان يرسلها محمود ود أحمد للخليفة قبل معركة أتبرا طالبا التوجيه في أمور مهمة، وأيضا في أمور غاية في الوضوح واليسر. وعرف الخليفة بإجادة المناورات والمراوغة السياسية. فقد تخطى مثلا تهديد محمد خالد بالزحف على أم درمان، والصراع مع الأشراف بمناورة مضادة، وذلك في ميكافيلية ذكية. ولكنه لم يكن رجلا عظيما كرجل دولة (statesman)، فقد كان يضحي بسياسات بعيدة المدى من أجل تحقيق منافع قصيرة الأجل. وخير مثال على ذلك جلبه لأفراد قبيلته من غرب السودان لتقوية موقعه في أمدرمان، وخسرانه لتأييد وعون القبائل النهرية. وأكد هولت على أن كل وثيقة من تلك الوثائق المالية والاقتصادية ليس لها أهمية كبيرة إن أخذت بمفردها، ولكنها عظيمة الأهمية إن أخذت في مجملها. ولهذا يجب وضع تلك الوثائق مجتمعة على هيئة ميكروفيلم. وفي الإجابة على سؤال من يوسف أفندي فضل حسن قال هولت إن في حوزتهم وثائق (مصورة) قليلة عن المهدي يرجع تاريخها إلى ما قبل عام 1885م، وأضاف بأن من يمتلكون تلك الوثائق كانوا يقدرونها جدا ولا يرغبون في التفريط فيها إلى أن بليت. غير أن كثيرا من الإداريين البريطانيين يحتفظون بنسخ مصورة من تلك الوثائق. وكان معظمها يدور حول الوعظ والإرشاد الديني، والدعوة لالتحاق بالحركة المهدية، وتحذير المترددين والمنكرين والمعارضين للحركة.