محكمة انقلابي يونيو 89 .. هل هي مجرد دراما ؟
الذين يجلسون بأريحية مستفزة (بكسر الفاء) في قاعة محاكمة مدبري انقلاب الثلاثين من يونيو هم زمرة (ممثلين) وصلوا الي السلطة بقوة السلاح، عطلوا الدستور وحلوا الأحزاب والاتحادات (يلغي تسجيل جميع الجمعيات والمنظمات غير الدينية المسجلة باي قانون) تلك فقرة من المراسيم الأولي لذلك الانقلاب المشؤوم و بذلك السيناريو الديني ترصدوا كل التنظيمات الديمقراطية وأقاموا سلطة سياسية استمدت وجودها بالقمع والقهر والاستبداد استمرت لمدي ثلاث عصور لم يشهد التاريخ الحديث مثيلا لبشاعتها.
هؤلاء الممثلون استخدموا (الدراما) في فاتحة حكمهم لتمرير مشروعهم السياسي ، ولعلنا نذكر جيدا تلك المقولة البائسة (اذهب الي القصر رئيسا وسأذهب الي السجن حبيسا) تلك العبارة التي مهدت الطريق للقضاء علي الحكم الديمقراطي حيث اختلطت الأوراق ، وأصبح المناخ السياسي غائما وانقسم الشارع السياسي ازاء ضبابية ذلك المشهد الدرامي .
بعد ان دانت لهم الأمور وتمدد نفوذهم بآلة القهر والطغيان بدأ (الفصل الثاني) لتلك الدراما وقد تمثل ذلك في انتاج ذلك المشروع الإسلامي حيث تمت مزاوجة الشعارات الدينية بالاقتصاد والرأسمال الذي أتاح لعرابي ذلك النظام وتابعيهم الهيمنة والتمكين من الفرد الي الحزب الي المؤسسة ومن ثم احكام السيطرة الاقتصادية علي واردات البلاد ومن تلك المنصة انطلقت الحروب الجهادية في الجهات الأربعة وتم تدمير النسيج الاجتماعي والسياسي ،وإقامة مجتمع بديل يتمثل في تلك الجيوش الجرارة من الفاسدين وعديمي الموهبة في إدارة شئون البلاد ، وأصبحت الدولة غنيمة للإسلام السياسي ووكلائه من داخل الإقليم وخارجه وتشكلت شبكة عنكبوتية لاستغلال ونهب موارد البلاد وتغذية قوي الهوس الديني علي امتداد خارطة العالم .
بعد انتصار ثورة ديسمبر كان شعب السودان وبكل فئاته يتطلع لمحاكمة عادلة تلجم الانتقام ذلك ان العدالة كانت احد أضلاع ذلك المثلث الذي شكل مرتكزات نداءات الجماهير ،رغم ذلك التاريخ الدموي وذاكرة الحروب والموت والتشريد والتعذيب الممنهج، ولعل تلك الوحشية التي تمثلت في فض الاعتصام مخلفة مئات من الجثث غارقة في دمائها بين ركام الخيام المحترقة، وتلك الجثث التي قذفت بها تيارات امواج النيل ، والمقابر الجماعية والجثث المتحللة في المشارح والمفقودين الذين تنتظر اسرهم عودتهم مطلع كل صباح، هذا المناخ والذاكرة المترعة في انتظار العدالة في تلك المحاكم او النيابات التي تنام في اضابيرها الباردة عشرات الدعاوى والتحقيقات .
(الفصل الثالث) تمثله تلك المحكمة المسماة (محكمة مدبري انقلاب الثلاثين من يونيو 89) والتي استمرت حيثياتها شهورا وقد أصبحت مجرد ملهاة قانونية ، ربما تصور مصمميها انها قد تمتص حماس الضحايا وان الزمن كفيل بكل شيء وليفتح الباب امام التسويات و(جبر الضرر) وتلك الادبيات التي تسرق امنيات الشعوب وأحلامها ورغم عدم معرفتنا للقانون اللهم الا في تلك الحدود الدنيا انه علم فن العدالة وهو عبارة عن نظم من القواعد الاجتماعية يتم إنشاؤها لتنظيم السلوك وضبط روح المجتمعات وتماسكها . الا ان تلك المحاكمة تجسد معني متكامل لإهدار العدالة في سيرها الإجرائي والإطاحة بمبدأ العدالة في قيمته الانسانية.
المدعي عليهم يستأسدون في قاعة المحكمة من خلال محامي الدفاع والتي تشهد في كل حلقة مدي استبسالهم لإحالة الباطل الي حق من خلال دفوعات مراوغة لا ترمي الا الي اضاعة الوقت وتشتيت تركيز القضاة ونقلهم الي فضاءات فضفاضة ، كيف لا وهم ذات (الكومبارس) في دراما ذلك الحكم الانقلابي .
فأحدهم كان وزيرا مرموقا من انتهازي أنظمة الاستبداد ، وآخر كان يشغل نائبا لرئيس لتلك البرلمانات الديكورية لنظام الانقاذ ،اضافة لبعض المنظرين الانقاذيين وسدنة الأنظمة الشمولية.
لقد نجح هؤلاء بالدفع بالقاضي (الاول) الي احدى المصحات العلاجية بعد ان أصيب بارتفاع ضغط الدم.
وقد قال احد محامي دفوعاتهم في الحلقة الاخيرة موجها عبارات حادة الي قاضي المحكمة انه (امام أمرين احلاهما مر ،اما ان تشطب هذه الدعوي وأما ان يشطب قرار هذه الدعوى)
وهكذا تجد نفسك اقرب الي مشاهد مسرحية (مدرسة المشاغبين) من ان تكون في مشهد محكمة تاريخية تؤسس لمبدأ عدم الافلات من العقاب خاصة انها تتعلق بساقية الانقلابات العسكرية التي اهدرت فرص ممارسة الديمقراطية وقواعدها وأخلاقها والتداول السلمي للسلطة بديلا عن ذلك التداول (الدرامي) للسلطة الذي لم يزل قائما في تلك الجلسات المملة لمقاضاة انقلابيين مسنودين بمحاكم ولدت وترعرعت ونمت بلا أسنان .
musahak@hotmail.com