محمد مفتاح الفيتوري .. وداعاً

 


 

 

آه... يا وطنيلكأنك، والموت والضحكات الدميمة حولك،
 لم تتشح بالحضارة يوماً،
ولم تلد الشمس والأنبياء
الفيتوري
(1)
هاهو يرحل ويذهب إلى الغيبة الكُبرى . يحمل صولجان الهوية مُقسمة على أرجاء الوطن ،انداحت إلى ليبيا ، وثقافته من مصر ، ومنبته خلوة قرآنية .عندما كان قريباً من الرحيل ، استيقظت الأقلام لتحاسبه على قضية السلطة والمثقف. ألم يفتح المولى لنا صفحة العافية حين كتب  الشاعر في الستينات بعد ثورة الشعب الأولى " أصبح الصبح ولا السجنُ ولا السجان باقٍ "؟ ، ألم يردد ذات البيت الشِعري   الرئيس الراحل القذافي في أوائل التسعينات عندما جاء هو لزيارة للسودان وبرفقتهرئيس السودان لهدّ حائط سجن كوبر ؟! . ألم يُحرك الشاعرالفيتوري تلافيف الصندوق الذي حمله صاحب الكتاب الأخضر بين كتفيه ليُنطق بالحق  ؟!. إذن شاعرنا الضخم قد حرَّض الأفاعي لتبتلع سُمَها ، وهي في قمة السلطة ، وهو في سلطته الشعرية أعلى وأسمى .
(2)
أيمكننا بركلة قدم أن نزيح ثقل أصحاب الأعمدة الثقافية بتيجانها  منذ الأستاذ " جمال محمد أحمد ، والدكتور منصور خالد ، والمهندس مرتضى أحمد إبراهيم والدكتور بشير عبادي ، وإبراهيم منعم منصور ، وغيرهم من الذين ينظرون الوطن مادة خام تنتظر وفاء بنيها ولو أعسرت أن تجد رأساً للدولة إلا وهو دون البروفيسور  التجاني الماحي ، الذي استقال من حزبه أيام الديمقراطية الثانية وقال " إنهم لا يقرءون التاريخ " ورجع لجامعته يُدرّس حتى رحل ! . التاريخ لم يزل رطب القلب، بعلاقة المثقف بالسلطة ، ودون الجميع الشاعر الذي  قال :
أعز مكانٍ في الدُنا سرجِ سابح .. وخير جليس في الزمانِ كتابُ

(3)

 لم يكنالفيتوري في أُخريات أيامه  يستطيع أن يتحدث بطلاقة  أو يكتب . ولماماً كان يحيط بما يحدث، كان يريد أن يزور موطنه بجواز سفر سوداني ، فقد عُرض عليه جواز السفر المغربي ، وشكر المساعي الرسمية التي حفّته بالجّلال . وانتظر طويلاً وبعد جهد نفرٍ كريم : صدر الجواز الدبلوماسي السوداني، وأدمعت العين التي ضنَّ عليها الوفاء كثيراً . كان في حاجة ليرى وطنه ، ولتلك الأمنية قدرة عصية لا تتحقق إلا بالمال. هو هينٌ للبعض ، وهو منال عسير لديه .تضخم السودان في وجدانه ، قبل أن تنطوي بسطة العُمر ، ويسكت القلب الكبير فلم ير وطنه !.
(4)
ينهض الآن شاعرنا من رقدته ، ويراه كل حواريي الشِعر في موضع الندى ، يجيئ صوته الجهور يدغدغ الأسماع يقول :
( سوف أترككم سادتي لأني شَبِعتُ من الوعود ، وأنا لا أحب الشكوى )
سيدي الشاعر ،
 سنصبح مشرق كل شمس ، ونتذكر أن الطيبين وحدهم لا يطيقون الحياة بعد أن عظُمتْ المآسي. يبدأ الشِعر الآن في الجلوس إلينا ، يُسامرنا من جديد بدون كاتبه . يرجع الصدى في كل لمحة مشهد ، وانعطاف العُمر على الهويّات الملتبسة ، بأعلامها تَزحَم الدُنيا بتقاطيع إفريقيا الأم ، تُغني بلسان عربيٍ فصيح .
وطننا أعظم من الالتفات لصدى الأعراق ، واحتباس الحرارة في صدور بنيها والبنات . كان شاعرنا الفخم يُحسن الجلوس ويُحسن الكتابة والقول ، يتلمس أثر الطوطم في الثقافة البعيدة القريبة .يطْرَب قلبه حين يُنبش الذاكرة  البعيدة المنسية في التاريخ ،فتُنازعه نفسه بين هويّات مُتعددة ، كل واحدة تريده لنفسها . لذا كان شِعره قريب لنفوس المُتنازعين بين عجينة الأجساد ، وعجينة اللغة وأعماق الثقافة الضاربة الجذور ، والمتنوعة المناهل .
رسم شاعرنا ملامح الأم الأولى والآباء المسافرون إلى مولد الشمس علّهم يلحقون بموطن الإله القديم .
نعِدُك أيها البلسم الشافي لكل الهويّات المتناحرة ، أن نزرع في كل بيت من بيوت وجداننا شجرةً طيبة ، أصلها طيب مثلُكْ ، وستمتلئ هي في مُقبل الأيام بالرُطَب . طعمها بين الحامض والحلو ، لنُعيد اكتشافك واكتشاف ما كتبتْ ، بعد أن نزيل الغشاوة عن عيوننا ، فالشُعراء حقاً لا يموتون .

عبدالله الشقليني
26أبريل 2015

abdallashiglini@hotmail.com
/////////

 

آراء