موجة حزن عميقة رانت على طائفة من شباب "الإسلاميين" وهم يودعون أخاهم مرتضى محمد طه، رحمه الله، الشهير ب"جلب" الذي اختاره المولى عزّ وجلّ إلى جواره الأسبوع الماضي بعد علّة لم تمهله إلا قليلاً، بكاه أخوته كما لم يبكوا أحداً في الآونة الأخيرة حتى ضجّت الأسافير. وخنقتهم العبرات عند قبره وهم يستذكرون عطاءه في ميادين التضحية، كان رحيل مرتضى أكثر من مجرد موت إنسان، فقد أهاجت فجيعة فقد أحد رموز "الاستقامة والتضحية" في نفوس هؤلاء الشباب رمزية فجيعتهم في "المشروع" الذي تنادوا وضحوا من أجله فإذا به يتسلل من بين أيديهم، بكوا أخاهم، ولكنهم كانوا يبكون أنفسهم.
من بين مرثيات كثيرة كتبها بمداد من دموع ودم حار أخوة مرتضى، أنقل هنا نصاً بلا تصرف ما كتبه جليّ أبو إدريس بعبرات يخنقها الأسى ولكنها كافية لكشف عمق الجرح:
((تباً لنا ... هنيئاً لك
وفي خواتيم أيامك نسد في وجهك أبواب المكاتب ونظلل زجاج سياراتنا فنراك تعرج وجرح السكري برجلك دامي وهو نئ . وأنت توزع ابتسامات الرضا فتهزم بها همومك وتطعن بها كبرياء الآخرين الهش في خاصرة الرجولة والمواقف والاخاء .. مرتضى .. كنت فينا غريبا فأشباهك قد سبقوك جملة وأشلاء .. وحين اختبأ أصحاب القصور عن حاجتك وتنكروا لأيامك .. حملت بعضك رغم الجراح وجلست الى مقود الهايس حتى التهب من حرها جرحك وطفح كيل الصادقين حولك الذين لايملكون لعونك غير الدعاء والدموع .. وبجهدهم أعلنوا حاجتك للرعاية والعلاج فمنحك البعض إلتفاتة تحت ضغط الآخرين استحياءاً .. وحين أضاءت كاميرات الوداع في صالة المغادرة ظهرت وجوه طال غيابها حين غابت حولك الأضواء .. صارعت آلامك وحيدا ووضعت على وجه الحياة الغابر قناعا من الصبر والاحتساب واﻹباء فهزمتنا جميعا .. مرتضى بعد موتك وضعنا صورك في شاشات هواتفنا واحتفلنا بك ..ولكنه في الحقيقة إحتفاء بخيباتنا وتقصيرنا .. سيلعننا جرحك الدامي وبقايا نزفه تحت فرامل حافلتك .. وبدأت بموتك فلاشات جديدة وكل يمني النفس فيها بمقام البطل .. نستودعك الله ونسأله ان يغفر لنا تقصيرنا)) انتهى الاقتباس.
الوجه الآخر لمحنة "الإسلاميين" أنه في الوقت نفسه الذين كانت طائفهم منهم تودع أحد رموز "النقاء والطهر" من جيل الشباب، تبدّت في الأيام نفسها الوجه الكالح لتجربتهم في السلطة حين أصدر وزير العدل قراراً في شأن فضيحة مافيا الأراضي التي دارت فصولها في عهد والي الخرطوم السابق، وقبلها بأيام كان أصدر قراراً آخر بشأن فضيحة فساد أخرى حول التصرف في خط هيثرو بشركة الخطوط الجوية السودانية، لسنا هنا بصدد تقييم قرارات ووزير العدل وجدواها في مكافحة الفساد ومحاسبة المفسدين، ولكننا بصدد قراءة دلالتهما فقد أثبتت على الأقل أن الفساد المستشري الذي طالما تحدث عنه الصحافة، كما يعرف الرأي العام أبطاله، ليس من بنات أفكار متربصين بالسلطة الحاكمة ولا من اختراع مرجفين في المدينة بل هو حقيقة واقعة تثبتها خطوات وزير العدل بعد إنكار طال أمده، بل وتستر.
ما حدث أن أبطال وقائع الفساد هذه ليسوا من السابلة بل هم وجوه معروفة من القادة الذين تسنموا المناصب العامة وتقلبوا فيها دهراً، وكان ظن أولئك الشباب أن "ظهرهم مؤمن" وأن مشروعهم في الحفظ والصون كما كان يُقال لهم كلما طًلب منهم أن "يرموا قدام" فلما عادوا بعد ملحمات بطولية، وجدوا أن من أستأمنوهم على "مشروعهم" قد عجزوا عن الصبر على الاستقامة، فلئن ضحى المقاتلون بدمائهم فقد ولغ هؤلاء في المصالح الشخصية الحرام، وبجرائرهم غابت نماذج الأطهار الأخفياء أمثال مرتضى، ليشكل رموز الفساد صورة "الإسلاميين" في مخيلة الرأي العام.