مختصر سيرة الرجل المريض حول طبيعة تكوين وبنية الدولة السودانية 

 


 

 

انتهينا في حديثنا السابق إلى أن الفخ الذي سقطت في حبائله النخب السياسية والاجتماعية والثقافية التي تولت أمر الشأن الوطني العام – سواء كانت حاكمة أو معارضة – هو أنها بحثت عن الحل لمشكلة الدولة في المكان الخطأ. إذ أنها بحثت عنه في الأفكار وفي الأيديولوجيات التي كانت تغذي رؤيتها بصور ذاتية خاصة مسبقة لما يجب أأن تكون عليه الدولة،

وهذا شرط يعني: أن تطابق الدولة المثال القائم في رأس من يدينون بتلك الصور والمعتقدات. بغض النظر عن طبيعة مكوناتها، وواقعها وتاريخ اجتماعها.

ومن هنا يبدأ صراع الصراع على الدولة، لا من أجل إنشائها وقيامها وبنائها، وإنما من الاستحواذ عليها والانفراد بها، وسجنها في زنزانة الأيديولوجيا أو الفكرة المسبقة، السبقة على وجود وقيام الدولة ذاتها، أيا كانت لافتة الزنزانة، (دينية، علمانية، قومية، طائفية، إثنية ..الخ) المراد حبسها فيها.

وخلصنا إلى أن الحل الذي تبحث عنه النخب كان تحت أقدامها، ولم تستطع رؤيته لأن أعين الجميع كانت تتجاوزه باحثة عن ما وراءه.

والحل هو الدولة ذاتها.

الدولة التي يجب ان يعملوا على تثبيت أركانها واستقرارها. و"أن يتوقف الجميع عن طرح السؤال المضلل عن “هوية الدولة، ويفرغوا همتهم للسؤال عنها هي  بذاتها، لذاتها. وأن يعملوا جهد طاقتهم معاً على "لملمة" أطراف كيانات شعوبهم السودانية المبعثرة، وتوظيف قواها المهدرة عبثاً في الحروب، لبناء دولتهم أولاً. لتكون لهم جميعاً. يمتلكونها جميعاً. لأن التصارع والتجاذب والاقتتال على الدولة لن يقود سوى إلى نتيجة واحدة: تفككها وضياعها وتلاشيها، وحينها لن يجدوا ما يتصارعون عليه، لأن ريحهم ستذهب معها". فبتفكك وضياع الدولة لن يكون هناك ثمة رابح، فالكل خاسر" (1)


(2)

إذن فنقطة انطلاقنا يجب أن تكون إنجاز مهمة تأسيس وبناء الدولة الحديثة. ورغم تعقد هذه العملية إلا أن شباب الأمة السودانية في كافة شعوبه أتاحوا لنا سانحة تاريخية لإنجازها بثورتهم غير المسبوقة التي نتفيأ ظلالها الآن. وحتى نسير على هدى وبوعي وخطوات ثابتة في طريق واضح المعالم، ينبغي، كما قلنا قبل، أن نعي بأن هناك نقطتان ينبغي التوقف عندهما بشيء من التفصيل لأنهما بمثابة المفتاح الذي يفتح أبواب الخروج إلى فضاء التأسيس والبناء. وبقدر ما هما عقبات – أو تحديات على الأصح – بقدر ما هما نقطة الانطلاق أيضاً، لأن وضوحهما، بل والوعي بهما على النحو الصحيح سيقودنا إلى الطريق الذي يوصلنا إلى غايتنا  وهما:

– طبيعة تكوين وبنية الدولة السودانية.

– وتحديات الراهن السياسي والاجتماعي واحتمالاته المستقبلية.

وسيقتصر حديثنا هنا عن النقطة الأولى

إن أول ما ينبغي على النخب المتصارعة للسيطرة والاستحواذ على الدولة أن تعيه جيداً، بأن ما يتصارعون عليه دولة خديج، ولدت قبل أن تكمل عدة الحمل بها، و تعاني من هشاشة في العظام والتهاب في مفاصل أطرافها بما يقرب من الكساح.

وقياساً بأعمار الدول التي تستحق هذا الاسم فإنها حديثة عهد بالحياة، لم يتجاوز عمر توحيدها مركزياً سوى قرنين. وأن ولادتها كانت قيصرية متعسرة، تم تدشينها بيد قابلة الغزو المملوكي/ المصري العنيف. وأن الوهن كان قد بلغ منها قبل الغزو منتهاه، فقد تمزقت أوصال ممالكها وسلطناتها شرقاً ووسطاً وغرباً وشمالاً. واحتدم الصراع والاقتتال بين نخبها على عروشها التي أكلت دابة أرض الخلافات قواعد وأرجل مقاعدها.

وبلغ الهوان بها إلى درجة أن بعض المتصارعين على وراثة عروشها ذهبوا إلى مصر يستجدون محمد علي غزو بلادهم، ويستنصرون به على أبناء جلدتهم.

وقد فعلها الجميع في الممالك والسلطنات يومها.


(3)

فعندما فقدت سلطنة سنار – نتيجة ضعفها السياسي – السيطرة على الدويلات والسلطنات والمشيخات التي كانت تخضع لسلطتها، واشتعلت الحروب بينها في التنافس على الحكم وبسط النفوذ، ويحكي التاريخ أنه في السنوات القليلة التي سبقت الغزو المملوكي/ المصري "عظم الاضطراب وعمت الفوضى، حتى لقد اختفى الملك نفسه من ميدان النزاع، لينحصر الصراع في سبيل الاستحواذ على السلطة بين اثنين من الزعماء هما الوزير عدلان ومنافسه حسن فيما وراء أبي حمد، ومشيخة المناصير التي كانت تمتد إلى الجندل الرابع، هذا إلى جانب مملكة الشايقية. (1).

وبلغت البلاد حالة من الفوضى والتفكك إلى درجة أن اضطر بعض الفرقاء المعارضين داخل مكوناتها إلى اللجوء لطلب المساعدة من الدول الأخرى ، ومن الدولة المجاورة مصر تحديداً، لنصرتهم ضد منافسيهم، ولاستعمار البلد.

فقد طلب ملك بربر عام 1813 أن تساعده مصر على استعادة سلطته المفقودة مقابل أن يعترف بالتبعية لمحمد علي واليها، وكان ممن حضروا إلى مصر لهذه الغاية الملك نصر آخر ملوك الميرفاب، والزبير أحد أعضاء الأسرة المالكة في أرقو، والملك ادريس ود عدلان من فازغلي، وقد طلب كل هؤلاء مساعدة محمد علي لقاء اعترافهم بسيادته، وفي عام 1820 زار القاهرة أبو مدين وهو من أقارب سلطان دارفور لكي يستنجد بالباشا ضد السلطان محمد الفضل ويطلب معاونته على اعتلاء عرش السلطة فيها مقابل الولاء له، كما جاء في الوقت نفسه إلى القاهرة "ود هاشم" يريد الحكم في كردفان لقاء خضوعه للباشا والاعتراف بسلطانه. (2).

وبالطبع شجعت هذه "العروض" السخيَّة محمد علي على تنفيذ مخططه المسبق، ولأسباب عدة خاصة به وبطموحاته التوسعية، لإرسال حملته لغزو السودان.


(4)

وما حدث نتيجة ذلك يمكنك ان تسميه مع هيجل بـ"مكر التاريخ".

لم يكن الغزو المملوكي/ المصري للسودان شراً إلا في ظاهره. إذ أنه كان أحسن ما يمكن أن يحدث لبلد قاري في مساحته مثل السودان، وبتعدد أعراق ساكنيه وتنوعهم الاثني والثقافي، وفي ظروف تاريخية دولية اجتاحت فيه العالم موجات من الاضطرابات. أن يتم توحيده في دولة مركزية تلملم شتات دويلاته المتناحرة المتنازعة، على يد مستعمر أجنبي يفرض مركزية الدولة ويحفظ حدودها لستين عاماً خلال الفترة من(1820 - 1880)، كانت كفيلة بإرساء قواعد دولة ممكنة.

إلا أن الاستعمار المملوكي/ المصري على يد الباشا استهل عهده بمجزرة بدأها بقبائل الجعليين في شمال السودان انتقاماً دموياً على مقتل ابنه إسماعيل حرقاً، ثم بحمام دم شمل السودان كله. وواصل طيلة فترة استعماره السودان انتهاج سياسات قمعية تسلطية مارس خلالها أبشع أشكال الظلم والانتهاكات والعسف، وأرهق كاهل المواطنين بالضرائب الباهظة، والتي كان يتم تحصيلها من الفقراء بوحشية، تعرَّف فيها السودانيون لأول مرة في تاريخهم على طريقة القتل بطريقة "الخازوق" الوحشية.

وليواصل بعدها التاريخ مكره مرة أخرى ساخراً.


(5)

فالغزو التركي/ المصري، الذي لعب الدور الحاسم في توحيد السودان وانقذ كيانه من التشرذم والتفكك والتشتت. كان هو نفسه الذي لعب الدور الحاسم، بممارساته الوحشية، في "توحيد" الإرادة الوطنية للاصطفاف في ثورة تحريره خلف محمد أحمد عبد الله (المهدي):

- الذي تعود أصوله للشمال،

- ليطلق دعوته من وسط السودان،

- وتجد في غرب السودان حاضنتها الشعبية الأولى،

- ثم يتردد صداها في غابات الجنوب.

الجنوب العصي في عزلته على التوحد، والذي "قامت التركية باكراه القبائل فيه على الطاعة من خلال حملات تأديبية وحشية مهينة، شملت ضرب الزعماء، وقتل الأبرياء، وخطف الماشية والمحاصيل عنوة.

وفي ظل هذه الظروف كان من الطبيعي أن يرحب الجنوبيون بالمهدي وثورته ضد طغيان الحكم المملوكي/ المصري. "وقد تمثَّل هذا الترحيب والتأييد عند قبيلة الدينكا في أهازيج دينها التقليدي، تغنت فيه بالمهدي كروح مقدس وباعتباره نبي وابن (دينق) الروح العظيمة التي يقدسها جميع أفراد قبيلة الدينكا، ونظمت في مدحه وتبجيله ترنيمة تقول:

إنه المهدي ، ابن دينق

نصلي له نحن النمل ، على الأرض، دينقنا

نتضرع لآلهة العشيرة وكذا دينق .. الخ (3).

وهكذا ذابت تضاريس ونتوءات الانتماءات القبلية والدينية والعرقية بين المكونات السودانية، وتحققت الوحدة.


(6)

ولكن ولأسباب تاريخية موضوعية لم يكتمل الوعي بمفهوم الدولة ولم يستقر بعد.

فالانتماء للهويات الأولى الصغرى (الإثنية والقبلية والدينية والثقافية) لم يمحِ  ويزول، ولم يتم نفي وإلغاء هذه الهويات والانتماءات، ولكنها صبت محمولاتها الثقافية في بوتقة الوحدة الوطنية، ووُظفت في خدمة الانتماء والهدف المشترك  الأكبر، لتنتصر إرادة التحرير الوطنية، القوية بوحدتها، وتقوي لحمتها، لتطرد المستعمر الغازي، وتؤسس دولتها المستقلة الحرة.

ومن ثم قامت الثورة المهدية ودولتها الموحدة التي احتوت ضمن حدودها القارية كل الدويلات والسلطنات المتناثرة المتصارعة، التي كانت تحت سلطة الاحتلال المملوكي المصري خلال الفترة من (1885 – 1889).

إلا أن المهدي رحل مبكراً – في ظروف بدت غامضة لبعض المؤرخين – فور تحقيق الاستقلال، وقبل أن يكمل بناء  دولته، ليواجه خليفته عبد الله التعايشي في الداخل صراعاً حول وراثة العرش مع الأشراف، وهم أهل المهدي وأقرباءه، الذين كانوا يرون بأنهم أحق بالملك منه، وهو القادم من أقاصى غرب السودان.


(7)

كانت تلك هي الشرارة التي أشعلت الفتنة العرقية والقبلية في دولة الخليفة، ليبدأ مسلسل التمرد بين القبائل النيلية – التي تتمركز في وسط وشمال السودان بشكل عام – على سلطة الدولة. ولم يكن أمام الخليفة عبد الله من حلٍّ سوى أن يستقوي بقبيلته في مواجهة التمرد، فانهمك جهاز الدولة الوليدة – وقبل أن تستكمل الدولة بناءها، أو تنشئ مؤسساتها على نحو متماسك – في سلسلة من الحروب الداخلية، التي تميز بعضها بالانتقام والتشفي وتصفية الحسابات العرقية والإثنية المتراكمة والمتوارثة.

لقد انفجر برميل بارود التشظي وتناثرت مكونات الدولة الموعودة.

ونتيجة لهذه الحروب الداخلية لمطاردة المتمردين على سلطة الخليفة، وإخضاع القبائل المتمردة على سلطة الدولة. إلى جانب الحروب الخارجية المكلفة ضد دولتي الجوار مصر والحبشة، تفشت جائحة المجاعة، بسبب توقف عجلة الإنتاج الزراعي، وهو نمط الإنتاج الوحيد المتاح، وتقطعت الطرق التجارية، في مشهد أعاد للذاكرة أواخر سنوات مملكتي سنار ودارفور قبل الغزو التركي/ المصري، حيث عمت الفوضى، وتفككت مرة أخرى أوصال الدولة وتناثرت شعوبها.

أما الجنوب الذي رحب بالمهدي وثورته من قبل، وتغني بترانيم ديانته التقليدية، ورفعه إلى مقام النبوة لروح دينق الخالدة، دخلت قبائله في صراع مع المهدويين الذين شنوا حرباً مقدسة في الجنوب (4)، ومعها عادت تجارة الرقيق.

ومع أن الجنوبيون كانوا تواقين للتخلص من الحكم التركي المصري. إلا أنهم لم يجدوا الحاكم الأجنبي الجديد مقبولاً، خاصة أنه كان من تجار الرقيق. لذلك كان لا بد أن يقاوموه. فحاربوا المهدويين وتجار الرقيق. واستخدموا نفس الترنيمة التي نظموها قبل في مدح المهدي ("مادي" بلسان الدينكا) وتبجيله في صلواتهم وتضرعهم لروح المهدي، لمساعدتهم في مقاومة هؤلاء الغزاة"(5).


(8)

على كل حال. عاد السودان تحت حكم دولة الخليفة عبد الله التعايشي المهدية كما كان قبل تحت حكم الدولة المملوكية/ المصرية، تعمه الفوضى وتنتشر الحروب في داخله وتشيع رائحة الكراهية والحقد والعنصرية لتنخره من الداخل، وتُنتهك فيه حقوق الانسان الأساسية.

ومرة أخرى – مثلما قبل الغزو المملوكي – لجأت الجماعات والزعامات القبلية والطائفية المغلوبة على أمرها إلى مصر، أو بالأحرى إلى الإنجليز، الذين كانت مصر نفسها تحت انتدابهم ووصايتهم، بحثاً عن الخلاص، وهذه المرة يأتي على رأس الغزاة زعيم طائفة الختمية علي الميرغني.

ومرة أخرى يتكرر نفس المشهد، ويعيد التاريخ مكره ساخرً !.

يتم غزو السودان، وبتعاون أيضاً، من بعض زعماء قبائله وطوائفه الدينية التي عانت من بطش دولة التعايشي المهدية. ويتكرر نفس السيناريو مرة ثانية وبنفس التفاصيل، في تجربة الغزو الثنائي البريطاني/ المصري للسودان وفقاً للاتفاق الذي وقع بين بريطانيا ومصر في 19 يناير 1899 ، ذلك الاتفاق الذي لم توافق عليه أو تعارضه مصر، التي كانت هي نفسها تحت سيطرة التاج البريطاني كما أسلفنا!.  وتم الغزو في نفس العام سنة 1899م، استمرت خلاله فترة الحكم الثنائي لما يقارب الستين عاماً من (1899 – 1956).

تم خلالها – لسخرية الأقدار – على يدي المستعمر – مرة أخرى – توحيد قبائل السودان التي تشتت شملها. ويلملم المستعمر، مرة أخرى، أطراف الدولة التي  تمزقت وتناثرت، تحت سلطة مركزية موحدة، وليستمر تحت سلطة الاستعمار الثنائي، حتى نال استقلاله عام 1956م.


(9)

لقد جرت مياه كثيرة تحت جسر الوعي السياسي والاجتماعي مع تحديث الدولة، وكان للحركة الوطنية منه نصيب كبير خلال الفترة ما بين الغزو والاستقلال، حيث دخل السودان خلال ما يقارب السين عاماً ساحة العصر الحديث كدولة حديثة، جراء الإصلاحات والتحولات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الكبيرة، التي استطاعت السلطة الاستعمارية عبرها أن تنقل السودان، نقلة يمكن وصفها بالطفرة التحديثية لدولة كانت تنتمي في بنيتها وفي هياكلها ومؤسساتها ونظمها السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية إلى ما قبل القرون الوسطى.

ففي طريقه لفتح السودان دشَّن المستعمر خطاً حديدياً ما بين مدينتي حلفا وعطبرة السودانيتين، وامتد هذا الخط إلى الخرطوم بحري في أواخر سنة 1899، ثم أنشأ شبكة من الاتصالات التلغرافية جعلت اتصال السودان بالخارج وبين أجزائه أمراً ميسوراً لأول مرة في تاريخه. وقد استقر رأي الإدارة الاستعمارية منذ البداية أنه لا يمكن أن يرجى تقدم اقتصادي من حيث الإنتاج والتجارة في بلد غني مترامي الأطراف، إلا بالمواصلات الحديدية، وخاصة ربط اتصال النيل بالبحر الأحمر عبر طريق يمر بالأقاليم الزراعية.

واستقر الرأي على الطريق المباشر: عطبرة – سواكن فأفتتح عام 1906، ولم يجد هذا بالطبع ترحيباً من السلطات المصرية، التي رأت فيه إضعافاً لصلات مصر بالسودان، وتحويلاً لتجارة السودان التي كانت مصر هي طريقها الوحيد، غير أن اللورد كرومر الحاكم العام، كان يرى بأن الطريق يفتح أسواق أخرى جديدة للتجارة السودانية وانتعاشاً لحالته الاقتصادية.


(10)

ومن ثم اتجهت الأنظار للزراعة واستغلال مياه النيل، فأقيم السد والخزان وشُقت الترع والقنوات وأقيم مشروع الجزيرة لزراعة القطن الذي كان يستهدف تغذية مصانع النسيج في يوركشاير. وتم مد خط السكة حديد إلى الجزيرة من الخرطوم وإلى سنار ومنها يتجه غرباً إلى كردفان وأسواقها التي تعج بالثروة الحيوانية والمحاصيل الزراعية المتنوعة، وعلى رأسها الصمغ العربي الذي وجد طريقه إلى الأسواق الأوروبية والأمريكية ونال شهرة يتمتع بها إلى يومنا هذا.

وحتى لا تثير الحكومة سخط الأهالي عمدت السلطة الانجليزية على وضع نظام ضريبي لا يثقل كاهل المنتجين من المزارعين والرعاة ولا تدفعهم للتهرب منها فاعتمدت نظام الضرائب الذي اعتمدته المهدية من قبل، ونال استحسان كرومر، وهو نظام شرعي توضع الضريبة فيه على المحصول لا على الأرض، وتجمع عيناً عندما يتعذر إيجاد السوق.

أما من حيث التعليم فقد تم افتتاح المدارس لتدريس العلوم الحديثة إلى جانب الاهتمام بالبيئة المحلية، وروعي في السياسة التعليمية التدرج، بوضع الأولوية في تخريج مختلف المراحل بما يلبي حاجة سوق العمل وتسيير الأداة الحكومية، كما كان من ضمن أغراضه خلق طبقة من الصناع المهرة، وتدريب طبقة من أبناء البلاد تساهم في إدارة دفة الحكومة في الوظائف الصغيرة. وبالفعل أنشئت ورش صناعية مراسي الوابورات النيلية في الخرطوم بحري ، وورش في حلفا للسكة الحديدية، وتشييد مدارس أولية نموذجية في الخرطوم وبربر وأمدرمان وود مدني وحلفا وسواكن. وقد وجد هذا التعليم اقبالا كبيراً من المواطنين. ففي تقريره لسنة 1900 تعرض كري مفتش التعليم لاستجابة الأهالي لهذا النوع من التعليم الذي فُرض عليهم فرضاً حسب رأيه، واندهش من تسابق الناس لإدخال أبنائهم المدارس وازدحام الفصول بالتلاميذ خاصة في المدن الكبيرة، ولعلهم عرفوا مزايا التعليم من الخمس مدارس التي أنشأها إسماعيل باشا قبل الثورة المهدية. (7)


(11)

ورغم اختلاف الظروف والمعطيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والحضارية بشكل عام، بين لحظة سقوط الدولة السنارية والدارفورية والغزو المملوكي/ المصري، ولحظة سقوط المهدية والغزو الإنجليزي/ المصري. وما شهده السودان من طفرة تحديثية في بنى الدولة. إلا أن نمط مسار اللحظتين في مواجهة تحديات المحتل الأجنبي للوطن، عن طريق توحيد الإرادة، ثم في نمط المسار في اتجاه التشظي والتشرذم بعد تحقيق التحرر، بما يشبه "الردة" السياسية لـ"ما قبل". يأتي دائماً متماثلاً بشكل يدعو للتعجب فعلاً. وكأن االناس لم تتعلم شيئاً من تجاربها، رغم قسوة هذه التجارب لمؤلمة. كما تتماثل وتتطابق نتائج ومخرجات هذه الردة السياسية، وتلقي بذات الظلال السلبية على الوحدة الوطنية، الذي يمثل شرطاً مبدئياً، في حال تماسكه، لتشييد كيان الدولة.

وسنرى في الحلقة التالية – إن شاء الله – كيف تم ترسخت هذه القاعدة في مسار الدولة والنخب السياسية والاجتماعية بعد الإستقلال وإلى يومنا هذا. وما هي الدروس المستفادة من هذه التجارب، والتي أخذت طابعاً نمطياً متكرراً. وكيف يمكن الخروج من عنق الزجاجة هذا لإرساء قواعد الدولة المستقرة المستدامة.

لكن، ويشكل عام، دعنا نقرر هنا بأن: تاريخ الدولة السودانية الحديثة والمعاصرة يكاد يكون في مجمله عبارة عن  تجاذب وصراع جدلي بين الوحدة والتفكك عبر مراحل وحلقات متتالية ومترابطة : (1820 - 1885)، و(1885 – 1899)، ثم (1899- 1956)، ومن ثم (1956 - ...)

هوامش

(1) الدولة وظلّ الأيديولوجيا الأعوج، عزالدين صغيرون، موقع صحيفة سودانايل الإلكترونية، بتاريخ 28 سبتمبر, 2021.

(2) محمد فؤاد شكري، الحكم المصري في السودان: 1820 – 1885 ، دار الفكر العربي، 1947، ص (15).

(3) م. سابق.

(4) فرانسيس دينق، مشكلة الهوية في السودان: أسس التكامل القومي، مركز الدراسات السودانية، القاهرة/ مصر، الطبعة الأولى 1999، ص 38.

(5) سيتكرر مشهد هذه الحرب الدينية المقدسة مع حكومة الاسلامويين الانقلابية فيما بعد (1989- 2019) وسيفقد فيها السودان العديد من أرواح بنيه من الجانبين ويفقد الوطن ثلث مساحته!.

(6) فرانسيس دينق، مشكلة الهوية (سابق). ص 39.

(7) مكي شبكة، السودان في قرن: 1819 – 1919، لجنة التأليف والترجمة والنشر/ القاهرة/ مصر، 1316هـ - 1947م، ص (319 – 321).

(8) مكي شبيكة، م. سابق، ص (26، 27).


izzeddin9@gmail.com

 

آراء