مديرية سنار في العشرين عاما الأولى من الحكم الثنائي

 


 

 

 

بيرسي اف. مارتن Percy F. Martin

ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذه ترجمة لما جاء في الفصل التاسع والثلاثين من كتاب (السودان في طريق التطور Sudan in Evolution) الذي صدر بلندن في عام 1921م عن دار نشر كونستابل وشركاه، لمؤلفه البريطاني بيرسي اف. مارتن Percy F. Martin )1861 – 1941م).
ويتناول هذا الفصل طرفا من تاريخ مديرية سنار في العشرين عاما الأولى من حكم الاستعمار الإنجليزي – المصري.
ومن المقالات المترجمة ذات العلاقة بتاريخ سنار مقال بقلم جون آركل نُشر بعنوان: "عملات معدنية في سنار" https://www.sudaress.com/sudanile/102118
ومقال مترجم يستعرض كتاب سوزان كينون بعنوان "الأروح والرقيق في وسط السودان: الريح الأحمر في سنار" http://www.sudanile.com/75531
ومقال مترجم آخر لأوزبرت كرافورد بعنوان: "عرض لكتاب مملكة الفونج في سنار" https://www.sudaress.com/sudanile/101739
المترجم
******* ****** ******
تبلغ مساحة مديرية سنار 38,700 ميلا مربعا، وعدد سكانها نحو 151,981 نسمة من الرُحل والمُسْتَقِرّين. وهذه المديرية هي من أكثر المديريات إثارة للاهتمام. ويُقدر أن تكون واحدة من أهم المديريات في السودان الإنجليزي - المصري بعد اكتمال مشاريع الري بها (التي توقفت بسبب قيام الحرب الأوروبية).
وترتدي كثير من المناطق المحيطة بالنيل الأزرق حلةً خضراء زاهية وذلك لوجود بقع واسعة لا حصر لها مغطاة بالشجيرات الخضراء والأشجار الصغيرة. وتتنوع أنواع الأشجار هنا، وتشمل السيال والكتر والطلح والكرموت والهجليج والسدر والهشاب واللعوت. وغالب هذه الأشجار من الأنواع النباتية التي لا يعرفها الأوربيون. أما المناطق الداخلية في هذه المديرية فهي مثيرة للكآبة نوعا ما، إذ أنها مساحات شاسعة من الرمال والحصى، والأراضي الطينية المشققة، والنباتات الشوكية. وتنعدم الطرق في هذه الأماكن التي لا يقطنها سوى القليل من السكان. غير أن المرء قد ينعم بلمحات من مناظر استوائية بهيجة في أماكن عديدة على صفتي النيل الأزرق، حيث توجد بها غابات كثيفة، ونباتات مزهرة زاحفة، وأشجار تتدلى أغصان بعضها إلى داخل مياه النهر، وتتقافز بين أفرعها آلاف القردة والطير من كل جنس. غير أن هذه الجنة البرية هي مكان أثير ومخبأ آمن لحشرة كريهة هي حشرة السروت serut fly )تُسمى في اللغة العربية العلمية حشرة النُعَرَة، وهي جنس من الذباب الماص لدماء الحيوان يسمى Tabanus أو Pagoni.المترجم)، تظهر في موسم الأمطار وتختفي بانتهائه. كذلك يكثر فيها البعوض بأعداد ضخمة جدا تهدد حياة سكان هذه الأماكن. وتوجد أيضا بها أعداد مقدرة من الحيوانات الوحشية مثل الأسود والفهود والنمور والأفيال والجواميس والأبقار الوحشية والزرافات وأفراس النهر وأجناس عددية من الغزلان والظباء مثل الظبي الأسمر (roan antelope) وظبي الماء (waterbuck) وظبي الشجيرات (bushbuck)، وغيرها كثير.
وكانت سنار عاصمةً لسلطنة الفونج القديمة، التي امتدت في عهود ملوك الفونج الأقوياء من الحدود الحبشية في الجنوب إلى جنوب دنقلا في الشمال. وبالتالي، يمكن القول بأن تلك السلطنة كانت تمتد على طول النيل الأزرق، ونهر النيل حتى وادي حلفا، آخر نقطة سودانية قبل الحدود المصرية. ثم بدأت تلك السلطنة في الاضمحلال بفقدانها لمناطق واسعة من أراضيها، واحدة إثر أخرى، في حروب ومعارك عديدة. ومع تفتت السلطنة لدويلات صغيرة أفلح إسماعيل بيه (أحد أبناء محمد علي باشا) في هزيمتها، وضم كل أجزاءها إلى ممتلكات مصر في عام 1838م.
وكان الجنرال غردون قد توقف في سنار وهو عائد من الحبشة (التي عقد فيها مفاوضات مع ملكها يوهانس والأمير المتمرد ولد ميكيل)، وهو في طريقه للخرطوم بعد أن عينه خديوي مصر حكمدارا لها.
وفي أبريل من عام 1882م قامت حامية مدينة سنار بمهاجمة قوة كبيرة من الدراويش كانت قد أرسلت لحربهم بقيادة ابن أخ للمهدي. وكان هؤلاء (الأشرار) قد عسكروا بجوار الحامية، وكانوا من الشدة والقوة بحيث تمكنوا بسهولة من صد هجوم الجنود المصريين عليهم، واجبروهم على التراجع لمواقعهم الحصينة بالمدينة مثل المباني الحكومية، التي أفلحوا في الدفاع عنها. وأحكم جنود المهدي حصارهم فيها لثلاثة أيام، إلى أن اقتحموا باقي المدينة واستباحوها وأعملوا فيها النهب والحرق وسفك الدماء. وقُتل في تلك الهجمة الكثير من أهالي المدينة المنكوبة، وعدد من التجار الأجانب، والضباط والجنود الذين تصادف وجودهم في خارج تحصينات بقية قواتهم. وكان الدراويش في تلك الأيام أشبه بالروس والألمان الآن (أي في غضون سنوات الحرب العالمية الأولى. المترجم)، لا يعرفون الرحمة، ولا يعترفون بقوانين المحاربين عند لقاءهم بأعدائهم. وإن شئنا المقارنة بين الدراويش والألمان، فسنجد أن أولئك الأفارقة "المتوحشين" كانوا أكثر إنسانية في وسائل الحرب التي يستخدمونها، وأقل وحشية وقسوة في معاملتهم للنساء والأطفال من أولئك الألمان / التوتيان "المتحضرين".
وفي يوم 10 نوفمبر من عام 1884م أرسل غردون فرقة مسلحة لطرد الدراويش الذين كانوا لا يزالون يرابطون حول المدينة. وسجل غردون (بطل الخرطوم) في الكتاب السادس من مذكراته اليومية ما نصه: "لقد قالوا بأن المهدي كان قد بعث بجنوده العرب إلى سنار، ولكن جنود حامية الحكومة ردوهم على أعقابهم وقتلوا معظمهم". غير أن الحكومة البريطانية رغما عن ذلك كانت قد أمرت جنودها لاحقا بالانسحاب من المدينة بعد كل ما أبدوه من بسالة وصمود، مما أثار امتعاض غردون الشديد. ورغم ذلك صمدت المدينة في شجاعة وإباء، تماما كما فعلت كسلا حتى نهاية ذلك العام.
وبقيت إلى الآن سنار (القديمة)، مدمرة تماما وهجرها سكانها. وجزئيا، يُعزى تدمير المدينة وتهجير أو قتل أهلها لهجوم الدراويش عليها في 1884م. وهنالك الآن المدينة الجديدة التي أنشأتها الحكومة الحالية في بقعة أعلى المنبع تقع في هضبة عالية.
لا بد أن سنار القديمة كانت قبل أن تُدمر مدينةً كبيرة المساحة، وتبدو كذلك الآن حتى بعد أن هدمت وهجرت. وقيل إن عدد سكانها عندما هاجمتها قوات المهدي كان يفوق العشرين ألفا. وكان يرتاد سوقها المهم، المقام في يوم أو أيام معينة من الأسبوع، مئات الأهالي من خارج المنطقة.
ثم رُزأت سنار مرة أخرى بغارات عنيفة من الدراويش قضت على ما بقي منها. وعند احتلال القوات البريطانية لها في عام 1898م كانت في حالة متأخرة من الخراب، وكانت خالية تماما من السكان، إذ أن كل من بقي فيها بعد هجوم الدراويش الأول عليها كان قد فر بجلده. وبخرابها التام لم يبق فيها شيء من مجدها وعظمتها وأهميتها القديمة.
وكانت مساحة مدينة سنار في أيام عزها تبلغ أكثر من ثلاثة أميال مربعة، ويسكنها نحو 100,000 نسمة. وكانت تقع على الشاطئ الغربي للنيل الأزرق (خط عرض °4 ′13 شمال) كما ذكر الأب بريفيندت في منتصف نهار يوم 21/3/1699م (الأب المذكور هو الأب اليسوعي شارلس زيفيرس دي بريفيندت، أول رجال التبشير الكاثوليكي الكنسي الذين قدموا الى السودان في رفقة الطبيب الفرنسي بونسيه. المترجم). وكان قصر السلطان بسنار محاطا بأسوار عالية مبنية من طوب طيني له أشكال غير منتظمة، ومجفف بأشعة الشمس. ونُشرت في أنحاء القصر سجادات كبيرة تشبه ما كان في قصور بلاد الشام.
وفي هذه المديرية مدينة صغيرة أخرى ولكنها مهمة هي الروصيرص، حيث يتفرع النيل الأزرق إلى ثلاثة أفرع، واحد فقط منها صالح للملاحة طوال العام. وبذلت الإدارة الحالية للبلاد الكثير لإصلاح أوضاع هذه المدينة. ويتضح هذا جليا عند زيارة المدينة ورؤية منظرها العام، والعناية التي توليها السلطات لها. ومسجد الروصيرص ومدرستها ومساكن الأهالي بها مبينة بالطين ومعروشة بسعف النخيل بطريقة بسيطة تخلو من التَّزويق، إلا أن شوارعها واسعة ومظللة بأشجار التبلدي الضخمة.
ويدير المدينة مفتش ومأمور. والتجارة فيها رائجة. وبها معدية تربط بين الروصيرص وما يقابلها على الشاطئ الآخر. وبها أيضا حامية مؤلفة من جنود من الأهالي تحت قيادة ضابط بريطاني. وزودت تلك القوات بمدفع محمول على زورق نهري. وسكان الروصيرص من الهمج وقبائل سودانية (أخرى). ويبدو مجتمع المدينة يسير للأمام في نمو وازدياد مضطرد.
وكانت الروصيرص قد شهدت معركة في ديسمبر من عام 1898م.
وهذه المدينة هي أحدى المراكز التي توجد بها مصلحة كبح العبودية (Slave Repression Department). وكانت تجارة الرقيق في وحول هذه المنطقة تجارة رائجة، وكان يقوم بها في الغالب عرب الحبشة، إذ كانوا يصطادون رجال ونساء القلا (سكان جنوب الحبشة، وهم خليط من الزنوج والكوشيين. المترجم) الذين كانوا يباعون بأثمان باهظة للعمل في السودان إبان الحكم التركي – المصري. وكانت هنالك أيضا أسواق لبيع الرقيق في أماكن بعيدة نسبيا عن الروصيرص مثل كسلا وطوكر وسواكن والقضارف. وكان سعر الرجل المسترق الصحيح البدن يتراوح بين أربعة وخمسة جنيهات مصرية، بينما تباع المسترقة بأقل من ذلك. (لمقارنة ما ورد أعلاه مع مصادر أخرى يمكن قراءة مقال لجبرائيل واربورغ الذي جاء فيه: "وليس للمسترقين أسعار محددة. لذا فقد كان من يرغب في الشراء يُجري أولا مُفَاوَضَة مطولة لإنقاص الثمن. وذكر كرمب الأسعار التالية للمسترقين المباعين في سوق سنار: "يُباع الصبي المسترق وهو في عمر الخامسة عشر بمبلغ ثلاثين فلورن (عملة ذهبية أوروبية)، وإن كان قويا حسن الشكل فيباع بأربعين فلورن. أما إن كانت مسترقة في ذلك العمر فتباع بخمسين أو ستين فلورن (بحسب لون بشرتها). إما إن كانت المسترقة إثيوبية فيرتفع السعر إلى ثمانين. " https://www.sudaress.com/sudanile/119518 المترجم).
وتتكون المباني العسكرية بالروصيرص (التي اكتمل تشييدها في عام 1906م) من مكتب للقيادة، وغرفة واسعة ولطيفة المنظر تستخدم للثكنة، وعدد من المخازن، ومستشفى في حي صغير مخصص لسكن رجال الشرطة.
ومما يؤسف له تعرض غابات الأبنوس المحيطة بالمدينة للقطع (الجائر)، إذ أن أخشابها تُقطع بلا مبالاة كي تستخدم كحطب وقود أو لبناء المراكب النهرية. ولا يبدو أن هنالك أي اهتمام بإعادة تشجير ما يُقطع من تلك الغابات. ولو تمت عمليات إعادة تشجير تلك الغابات، حتى بأقل من المعدل المطلوب (مثل زراعة شجرة جديدة واحدة في مقابل شجرتين تم قطعهما) لتحسنت أوضاع تلك الغابات، ولما ازدادت أسعار الأخشاب.
(للمزيد عن تاريخ مصلحة الغابات السودان يمكن النظر في هذا التقرير المنشور
http://www.azrefs.org/--1900-----c-e-muriel----------------.html .المترجم)
وقُدم اقتراح لقطع أَزْناد الأشجارlogs ورميها في النهر لتحمل مع فيضان النهر نحو الخرطوم. غير أن ذلك الاقتراح لم يوضع موضوع التنفيذ بعد، علما بأن الأهالي كانوا يمارسون نفس طريقة نقل جذوع الأشجار هذه، ولكن إلى واد مدني فقط. لذا فقط يكون من المفيد تجربة نقلها إلى الخرطوم بتلك الطريقة. غير أنه من الواجب على الحكومة أيضا الحرص على ألا يقوم الأهالي بالإفراط في قطع الأشجار الكبيرة بدعوى نقلها للخرطوم بتلك الوسيلة غير المكلفة.
وأقامت الحكومة مركزا إقليميا لها في سنجة. ولهذه المدينة (التي كانت قرية صغيرة قبل بداية الحكم الإنجليزي – المصري) أهمية وشأن كبير بدأ مع مطلع عام 1905م. وسنجة الآن مدينة عامرة بالنشاط التجاري والاقتصادي. غير أن غالب بيوت سكانها هي قطاطي مبنية بالقش. أما مباني الحكومة فهي مبانٍ واسعة وكافية مبنية بالطوب الأحمر. ولا يخفي على المراقب أن يلحظ أن حالة السكان هنا طيبة جدا، وغالبيتهم يعيشون في بَهْوٍ مِنَ العَيْشِ بسبب عائداتهم المجزية من التجارة ومن الزراعة المطرية، وأحيانا الزراعة المروية بالسواقي والشواديف. وبحسب المصادر الرسمية توجد الآن في كل المديرية نحو 50 ساقية و140 شادوف. ففي الروصيرص توجد 3 سواقي و30 شادوفا، بينما توجد في سنجة 22 ساقية و66 شادوفا، وفي سنار توجد 26 ساقية و40 شادوفا.
وأقامت الحكومة محطات تجارب زراعية في هذه المديرية في سنجة وساوليل Saoleil حيث تجرى حاليا تجارب على "الزراعة الجافة " لمحاصيل مثل السمسم والذرة والقطن والفول السوداني. وكانت النتائج الأولية لتك التجارب مبشرة جدا.
وأقيمت مزرعة تجريبية في ساوليل أصابت نجاحا كبيرا، رغم قلة الأمطار في تلك المنطقة التي تلازمت مع قيام تلك المحطة. وبلغت الأشجار في تلك المنطقة مرحلة الاستغلال، ويتوقع القائمون
عليها في الحصول على نتائج طيبة.
وقُسمت مديرية سنار إلى مأموريات (مراكز) هي: دار فونج (ومقرها سودةSoda )، والدندر (مأمورية أبو هشيم)، وكركوج، والكرمك، والروصيرص، وسنار، وسنجة. ومنطقة دار فونج هي بداية منطقة الغابات الغزيرة التي تمتد إلى جهتي الغرب والشرق من النهر إلى النهر. وتقع مدينة دار فونج في منطقة قليلة القيمة (المادية) مقارنة بأهميتها في أزمان سابقة.
وكانت قبيلة الفونج التي قطنت في مناطق واسعة في أرياف تلك المديرية قبيلة قوية، وعلى الرغم من أنهم – كعرق -لا يزالون يقيمون في المنطقة، ألا أن زعيمهم لا يحكمهم إلا بحسبانه "مك دار فونج"، وقد تقلصت سلطاته للحد البعيد. وكانت غالب تجارة الفونج تتم مع الحبشة المجاورة. وكانت القوافل الطويلة تعبر الحدود المشتركة عبر كيلي Keili رئاسة منطقة دار فونج.
وأُخذ اسم قرية (الدندر) الصغيرة من اسم النهر الذي قامت على ضفافه. وينبع ذلك النهر من جبال بالحبشة تقع جنوب غرب دينكرك، ويجري بين الجبال لمسافة خمسين ميلا إلى أن يدخل للسهول السودانية ويسير لمسافة 200 ميلا قبل أن يقترن بالنيل الأزرق. وليس هنالك الكثير من المزارع على ضفتي نهر الدندر. وتجوب المراكب نهر الدندر إلى ديكريكي Dekerki، التي تبعد نحو 120 ميلا من مقرن نهر الدندر بالنيل الأزرق. وبإمكان المراكب الكبيرة التي يصنعها الأهالي أن تصعد مع سريان النهر إلى قرية (الصفراء) في موسم الفيضان، الذي يمتد لثلاثة أشهر فقط. ويسقى نهر الدندر بعض أجزاء الحبشة، وليس بالأمكان الملاحة فيه إلا في موسم الأمطار.
أما كركوج، فهي قرية صغيرة تقع على الشاطئ الأيمن من النهر، وليست لها أهمية كبيرة. ولا يزيد عدد سكانها عن 1200 نسمة، وليس بها الآن أي مكتب بريد أو برق. وقبل سنوات كان المفتش يقيم بها رئاسته، ولكن منذ 1905م تحول مقره إلى سنجة.
وصارت سنجة الآن هي المدينة الأهم في المديرية مباشرة بعد واد مدني، التي أقيمت بها الآن رئاسة المديرية (بدلا عن مدينة سنار). وتقع سنجة على بعد يسير من الضفة اليسرى للنهر. وأرض سنجة والمناطق المحيطة بها شديدة الخصوبة، وريفها غني في بعض أجزاءه بالغابات الكثيفة. وكان عبد الله ود الحسن هو أول من أقام (قرية) سنجة لأول مرة في حوالي عام 1886م، وغالب السكان بها من قبائل الجعليين وكنانة.
وبُنيت معظم بيوت الأهالي وأسواقهم ومبانيهم الأخرى من الطين والقش، بينما أقامت الحكومة في عام 1906م مبانيها الكبيرة بالطوب الأحمر، وشملت تلك المباني منزل المفتش وبيوت نحو 17 أو 18 موظفا وعاملا، ومبنيين للسجن والمستشفى، إضافة لمنزل المدير.
وأهتمت الحكومة بالتعليم في هذه المديرية، كما هو الحال مع المديريات الأخرى. وكان التلاميذ يقبلون في المدارس مجانا، إذ أن آبائهم أن كانوا يدفعون سلفا "رسوم التعليم" التي فرضتها الحكومة. ويصف المسؤولون مستويات الطلاب بأنها مقبولة. ويعبر الآباء دوما عن امتنانهم للحكومة لتقديمها لهم خدمات التعليم، خاصة وأن الناجحين من أبنائهم سيكونون مؤهلين للعمل ككتبة في مصالح الحكومة المختلفة.
ومنذ عام 1910م قدم السيد هنري ويلكم أنواعا مبتكرة من التعليم العملي في معسكره لاستكشاف الآثار بمنطقة جبل موية، الواقعة على بعد 26 ميلا من سنار. وفي خلال سنوات عمله في المنطقة شَغَّلَ السيد ويلكم آلاف العمال اليدويين غير المهرة، ودرَّبَ الكثيرين على مهن وحرف فنية مختلفة. وبالإضافة لذلك غَيَّر السيد ويلكم نمط حياة هؤلاء الأهالي من حياة التبطل والانحلال إلى حياة مختلفة تعودوا فيها على العمل الجاد وكسب المال وادخار بعضه.
وكان كثير من الذين تدربوا في معسكر السيد ويلكم قد استفادوا مما اكتسبوه من مهارات عندما تركوا العمل معه، وأقاموا لهم أعمالا خاصة بهم في مجالات فنية مربحة، أو في وظائف حكومية. وهذا يثبت أنه بالإمكان تحويل أكثر النفايات البشرية خمولا وجلافة إلى عناصر عاملة منتجة وذات فائدة للمجتمع وللدولة. وقد فعل السيد ويلكم الكثير من أجل ترقية أخلاقيات وفكر السودانيين وأحوالهم العامة، ولم يقتصر تأثيره على مديرية سنار وحدها، بل عم ذلك التأثير القرى والحضر في سائر أرجاء البلاد (عبء الرجل الأبيض، بمفهومه السياسي والعنصري ولغته الممعنة في الاساءة! المترجم).
ولا شك أن مديرية سنار ستساهم ذات يوم مساهمة كبيرة في زيادة دخل البلاد، بسبب غابات أشجار الصمغ الكثيرة (وغير المستغلة إلى الآن) بها. وتكثر هذه الغابات في سنجة وكركوج والدندر والروصيرص. وتزداد أعداد أشجار الصمغ (الطلح والهشاب) سنويا في هذه المديرية. وتوجد أيضا بين النيلين أعداد كبيرة من أشجار الهشاب بالقرب من جبل مريوم.
وسنتناول مشروع الري العظيم بمنطقة الجزيرة الذي بدأ في هذه المديرية في موضع آخر بهذا الكتاب.
وإلى وقت قريب كان عدد أفراد قوة الشرطة بالمديرية 320 من ضبط صف وجنود. ويبدو عدد أفراد قوة الشرطة في سنار قليل عدديا، بالنظر إلى كثرة المهام واتساع المساحة التي كان يفترض أن يعملوا فيها. لذا دُعمت تلك القوة بأربعين من رجال السواري، للعمل في مناطق المديرية الجنوبية على الحدود مع الحبشة، حيث تكثر حالات التعدي على سلطة الحكومة وهيبتها.
وقد ذكرنا آنفا أن سنار هي واحدة من ثلاث مديريات تجاور امبراطورية الحبشة (بالإضافة لمديريتي منقلا وكسلا). وفي هذه المديريات الحدودية ينبغي أخذ الحيطة والحذر (للنواحي الأمنية) بصورة أشد من غيرها من المديريات. ومعلوم أن سكان تلك المناطق الحدودية لا يكنون أي ود خاص للبريطانيين (أو لكل الأوربيين)، بل كانوا ينظرون إليهم (ربما ليس بدون أسباب) نظرة شك وريبة.
فقد مرت على الأحباش أوقات وجدوا أنفسهم فيها في خضم صراع مسلح ضد بريطانيا العظمى وفرنسا وإيطاليا. وسجلنا مع إثيوبيا ليس نظيفا، بل يعكس دورا مخزيا لسياسة حكومتنا. فالحملة البريطانية التي أُرسلت ضد ملك الحبشة ثيودور الأول في عام 1868م، تحت قيادة سير روبرت (الآن لورد نيبير مجدلا) كانت بالفعل قد أحرزت انتصارا عسكريا (بفضل أسلحتها)، غير أنها لم تُسْدِ أي فائدة لنا، وبالطبع للأحباش. ونتيجة لذلك فقد سمحنا للفرنسيين بالحصول على مزايا تجارية كانت في الماضي من نصيبنا. ولم تقم حملتنا المذكورة بأي فائدة غير زيادة الشعور بالشك والريبة عند الأثيوبيين منا ومن كل الأوربيين. ومما زاد الطين بِلَّةً أن الإثيوبيين صاروا أكثر تيقظا بفعل أفعال ممثل فرنسا في ذلك اليوم في أديس أبابا، مما مكن استبدال بريطانيا العظمى تماما في الحبشة بجارتها الغالية (Gallic) المنافسة.
وكما عارضنا (ونافسنا) الفرنسيون في مصر باستخدام الكثير من الطرق والوسائل المشكوك في صحة أخلاقيتها، فقد عملوا أيضا في الحبشة لإثارة مشاعر الأهالي ضدنا عن طريق أم. ليقاردي حاكم أرض الصومال الفرنسي. وقام هذا الرجل أخيرا بإقناع الملك مينليك (الذي تولى عرش الحبشة في 1889م) للتوقيع على "معاهدة أديس أبابا" ذات الأثر الممتد، التي منحت فرنسا عمليا احتكارا كاملا لكل التجارة مع الشركات التجارية الأوربية. وأفلح ذلك الرجل المغامر المقدام في أن يؤمن لنفسه منصب القس (Minister) في المحكمة الحبشية! ولسبب ما لم يثر ذلك في لندن أي احتجاج أو فعل مضاد من الحكومة البريطانية الغارقة في خَدَرها الناعس. وأنقضت سنوات عديدة حتى قامت حكومة جديدة بإرسال سير جيمس رينيل رود للحبشة لبحث الأمر. وأفلح الرجل في عقد معاهدة تجارية بين بريطانيا والحبشة تُعد أقل أهمية من تلك التي عقدها أم. ليقاردي قبل سنوات.
وسرت بعد ذلك فترة هدوء وسكون في المنطقة إلى أن بُعث في عام 1898م بمقيم بريطاني إلى أديس أبابا (هو الملازم (الآن سير) جون لين هاريجتون. ووضع هاريجتون لنفسه هدفين لا ثالث لهما، وهما العمل على مكافحة موجة العداء المتعاظم للتأثيرات الأجنبية في الحبشة، واستعادة هيبة بريطانيا. ونجح الرجل في هدفه الثاني إلى حد بعيد، إذ أن علاقتنا بالأحباش قد تحسنت منذ عام 1898م بالقدر المعقول الذي يتناسب مع الظروف غير المستقرة آنذاك.
وقام الفرنسيون بمساعدة الملك مينليك في استيراد كميات كبيرة من الأسلحة والذخائر عبر مستعمرتهم الصغيرة في خليج تجرة (بجيبوتي على المحيط الهندي. المترجم). وما أن ضمن الملك مينليك أن لديه ما يكفي من الأسلحة والذخائر حتى نقض معاهدة أوشالي Uchali التي أبرمها مع الايطاليين في مايو 1889م. وبتلك المعاهدة كان الإيطاليون قد وضعوا (أو كانوا يظنون أنهم قد وضعوا) اثيوبيا تحت حمايتهم. غير أن حلمهم هذا قد تبدد عندما أباد الأحباش جيشهم (بقيادة الجنرال براتيري) في معركة عدوة الكارثية في الأول من مارس 1896م. ومنذ ذلك التاريخ لم تحاول إيطاليا أن تضع إثيوبيا "تحت الحماية" مرة أخرى، ولكنها عقدت معها معاهدة أخرى بأديس ابابا في ذات العام. وستلتزم الحكومة الاثيوبية ببنود تلك المعاهدة طالما بقيت تناسبها، وقد تنقضها كما فعلت من قبل مع معاهدة أوشالي.
ومثل تكاثر السلاح في الحبشة ووجود مستعمرات لفرنسا وإيطاليا في المنطقة مصدر قلق مستمر للسودان الإنجليزي – المصري. وإن سقط جزء (آخر) من السودان في أيدي الإيطاليين فسيكون ذلك مصدر قلق وتهديد جديد.
وتم في عام 1902 (أول) ترسيم للحدود بين إثيوبيا والسودان الإنجليزي المصري. غير أن ذلك لم يضع حدا لنشاط العصابات الحبشية التي تعبر إلى داخل السودان. وعلى الرغم من يقظة السلطات السودانية يفلح الكثير من الأحباش في إدخال أسلحة ممنوعة لداخل السودان عبر ممرات بين الجبال. وربما لن يكون بالإمكان منع ذلك النوع من التهريب نهائيا، غير أن سلطات حكومة السودان يمكنها بالتأكيد تقليل معدلاته إن ضاعفت من أعداد وقوة الدوريات العسكرية المخصصة لحماية الحدود. وتقوم مثل تلك الدوريات بعمل ممتاز الآن على الجانب السواني من الحدود. أما على الجانب الحبشي، فالوضع – كما وصفه المسؤولون السودانيون في عام 1914م - ما زال رديئا لدرجة لا تحتمل. ولولا تعنت وعدم تعاون الجانب الحبشي لنجحت الدوريات السودانية العسكرية في مناطق النوير في كرجاك، والأنواك في جنوب نهر السوباط في بسط السيطرة على الأهالي الذين يعيشون في الجانب السوداني من الحدود.
وجاء في تقرير رسمي للحاكم العام ما يلي: "يبدو أنه من الخطل أن نأمل في أن تسيطر الحكومة الاثيوبية في المستقبل القريب على تهريب الأسلحة من الجانب الاثيوبي من الحدود للسودان. ولو نجحوا في ذلك لكانت تلك هي أهم خطوة يمكن عملها الآن. غير إن إدخال الحبشة للأسلحة للسودان بكميات كبيرة عبر جيبوتي لا يبشر بخير في المستقبل".
وتشمل مديرية سنار الآن منطقة عسكرية في سوباط – بيبور تبلغ مساحتها 24,400 ميلا مربعا، وبها محطتين في أكوبو وبيبور.

alibadreldin@hotmail.com

 

آراء