في امسية شاتية ستينات القرن الماضي توقفت امام جريدة الايام اسفل عمارة ابو العلا القديمة سيارة شرطة عليها اثنان احدهما ضابط شاب باللبس الرسمي يجلس بجانبه شاب وسيم المحيا ناعم الشعر مفتر الثغرعن سنان بيضاء ,كانا يسئلان عني, جاءني الفراش يخبرني بذلك ,خرجت في التو استقبلهما , كمال المحبوب ضابط الشرطة صديقي واحد مصادري في يوميات المحاكم والتحري, وعثمان خالد الموظف ببنك السودان هكذا قدمه لي كمال.
بادر المحبوب ان صديقي عثمان لديه الرغبة في العمل بالصحافة وجئناك نستعلم منك ما إن كانت هناك فرصة ليحقق هذه الرغبة ,وقبل ان يزيد عبّرت عن دهشتي عن كيف يترك الشخص العمل في بنك السودان وهوالحلم بعيد المنال للشباب في سن عثمان ! ويجيءباحثا عن مهنة النكد كما يطلق عليها طيب الذكر رحمي محمد سليمان, والتفت اليه فجأة مستنكرا هذه الرغبة العجيبة متسائلا ان كان هو بالفعل يعني مايقول, فكان رده علي الفورانا قدمت إستقالتي وقبلت اليوم وصراحة ان طبيعتي لا تتصالح مع مهنة تكون الأرقام عمادها , فانا شاعر ابحث عن مهنة يكون الحرف هو اداتها وعليه جئت اليك.
لم تمض بضعة ايام إلا وعثمان خالد التحق بالأيام زميلا جديدا بارك ذلك محجوب عثمان الذي اشترط ان يكون علي مسئوليتي وتحت التدريب لمدة ثلاثة اشهر.
رحبنا به جميعا , عبد المجيد الصاوي ,الوليد ابراهيم, وعبد الباسط مصطفي وفؤاد عباس وابراهيم عمرالتني ,لم يكن العمل في الصحافة في ذلك "العصر" يتطلب شهادة تخصص وكان كل المطلوب فقط إمتلاك الرغبة والإستعداد ,وهكذا كان المحجوبان محمد صالح وعثمان ,عبد الرحمن مختار, علي حامد . وفضل بشير, الريفي, السلمابي واخرين هم جيل تعلمنا علي اياديهم المهنة.
سريعا تعلم عثمان المهنة وصارمخبرا جريئا يتقصي الاخبار من مصادرها ,ولكن في وسط ضجيج المطبعة وروائح الأحبار والزيوت وسهرات المناوبة الللية في الخرطوم بحري كان "ملاك "الشعرلايبارح روحه , تجده ساهما مستغرقا كأنما يخاطب كائنات تحّوم فوق رأسه لايراها إلا هو, كان عنيدا في مطاردة الصور والكلمات يسوقه خيال مجنح حتي يبني جسم القصيدة لتنتهي معركة وجدانية حرق من اجلها عشرات "السجاير"كان عثمان مدخنا شرها واحسب هذا سبب مرضه اللعين .
في ستينات القرن الماضي كانت وسائل الإتصال "الميديا"هي الإذاعة والتلفزيون والصحف والمجلات ولكن الأقوي فاعلية كانت لقاءات المبدعين , يتابعون ويبحثون فيها القصائد الجديدة والأغاني الجديدة ملاحظات فيه الإعجاب وفيها النقد ,وكان الشاعر المجيد نجم المجتمع يشار اليه في حفلات الأعراس ويغامزنه البنات من طرف خفي لغة يفهمها الطرفان ,ابوامنه حامد وسيد احمد الحاردلو,عثمان خالد, هذه المدرسة النزارية التي موضوعها المرأة الفاتنة الجميلة عندما يشرفون حفل عرس ما يسرقون الأضواء وهم مزهوون رضي فالناس يحبونهم نجوما اين ماحلوا بغيرمنازع ,كنت شاهدا علي قصيدة الي مسافرة حين كتبها عثمان وغناها الفنان حمد الريح ,احدثت القصيدة ضجة في المدينة كأغنية مدينة اعادت ذكري "بعد ايه" لشاعر المدينة الأكبراسماعيل حسن, لم اكن كثير حماس لرومانسية عثمان الغارقة في الوله ,وكنت اقول له دائما اقول له إن عليه ان يخرج عن المرأة كموضوع عاطفي ويوظف موهبته في موضوعات اخري ولكن عثمان بطبعة لم يكن منتميا سياسيا ,كان إنتماؤه فقط للحب وللجمال ,يعشق "طفولة نهد "وقالت لي السمراء" ذلك الشعر الذي اطلق عليه محي الدين فارس "ادب الفراش"حين تعارك مع نزار قباني في مجلة الاداب في ستينات القرن الماضي .
تسيدت اغنية الي مسافرة الساحة الفنية وكانت الأولي في سباق الأغاني ,وقيل انها كتبت اوكما نقول" قطعها " في فتاة زميلة للشاعرعندما كان يعمل في بنك السودان كان يود خطبتها ولكنها تركت البنك وسافرت فأحدثت هذا كمدا في قلب الشاعر,واظن عثمان حتي رحيله المأسوي لم يبح بصاحبة القصيدة, كنت تسمع وانت تعبر كبري النيل الأزرق اصوات فناني قعدات افندية المقرن , والريفيرا ,والجندول وهم يصدحون اخر الليالي بأغنية الي مسافرة مثل نشيد وطني تفتتح وتختتم به الجلسات
انطلق عثمان بعد ذلك يغني له كبار الفنانين عثمان حسين , صلاح ابن البادية,عبد العزيز المبارك ,وكان منزل العزابه الأنيق المطل علي النيل تحت جسر شمبات وعثمان ابرزقاطنيه منتدي فنيا وشعريا يلتقي في حديقته وردي,والكابلي ,وزيدان ,ومحمد ميرغني, وعبد العظيم حركة ,وصلاح وبكري مصطفي الشقيقان ,والموسيقار الكبير ناجي القدسي, ومن المبدعين عبد الله جلاب, محمود مدني, محجوب الشعراني , صلاح حاج سعيد, وصلاح يوسف, وعمر الدوش وخالد وطه حسين الكد .
في بداية سبيعنيات القرن الماضي شاركنا عثمان وانا في دورة صحفية نظمها إتحاد الصحفيين العرب في القاهرة, شاركنا من حر مالنا بعد ان رفضت ادارة الصحيفة تحمل كلفة الدورة ,وهناك ولأول مرة يكتشف عثمان نتوءا لحميا صغيرا في قعرحلقه اخافه بعد ان زادت البحة في صوته المبحوح اصلا ,واقلقه من ان يكون مصيبة من مصائب الزمان .
علي الفورقصدنا بتوصية من السفارة السودانية البروفسور بخيت عبد الرازق طبيب ومستشار السفارة الطبي في مصر يوم كان للسودان اهتمام بمواطنيه, فحص دكتور بخيت حالة عثمان واخذ خذعة من الحلق ارسلها الي مركز لتحليل الاورام السرطانية بالاسكندرية واخبرنا بأن النتيجة ستظهر بعد ثلاثة ايام, طوال هذه المدة كان عثمان قلقلا ومهموما ونومه متقطعا خوفا من ان تأتي النتيجة سلبية ,كان عثمان يعد الساعات والدقائق والثواني عدا يهرف اليوم كله بهذا الأمر, وكنت اطمأنه واهديء من روعه من ان النتيجة بأذن الله ستكون ايجابية, ويوم وصول النتيجة رجاني عثمان ان اذهب وحدي لأتلقي الخبر من الدكتور واصر ان ينتظرني اسفل البناية التي فيها مكتب الدكتور بخيت , وعند دخولي العيادة سألني دكتور بخيت عن اين المريض فقلت له هو تحت البناية ولايريد ان يسمع النتيجة, كانت لحظات مليئة بالتوتر المشوب بالخوف, اخذ بروفسور بخيت يطالع التقريرالذي امامه وخرجت كلمة مبروك من فمه لتنقشع سحابة الإنتظار, وكاد اوطار عثمان من الفرح واحتفلنا يومذاك إحتفالا كبيرا بدأناه بالشقة وانهيناه بشارع الهرم . وكانت تجيئني اخباره متقطعة من وقت لاخر ,علمت انه سافر الي العراق بعد انقلاب الجبهة الإسلامية والتقي هناك صديقنا الراحل عبد الواحد كمبال ثم علمت ان صديقنا المشترك كمال حسن بخيت وهو كادر قيادي بعثي قد ساعدهما في ايجاد وظائف لهما في العراق , فعمل عثمان بصحيفة الجمهورية العراقية ,وعمل كمبال بالتلفزيون ولكن يبدو ان الإثنين لم يعجبهما الإيقاع البعثي لتنافر طبيعتيهما مع حديدية التنظيم فغادرا في الحال الي المغرب الذي وجد فيه عثمان عالما من الجمال حرك فيه ملائكة الشعر فكتب يقول
"من عاصمة الرشيد حملني جناح غيمة حط بي علي مساحة زاهية بالإخضرار وإمتداد الظلال ترقد علي ضفة الأطلسي كعذراء مستحيية تتوشي بثوبها الأخضر خشية العيون وحين تهبط الشمس علي احضان المحيط وهو يفتح زراعيه لإحتوائها يتماذج حزني باحلامي كما يتماذج احمرار الشمس بتلك الزرقة علي سطح المحيط ويذوب فيه تلك هي مدينة الرباط يافرحيفلقد تلخصت علاقتي ببغداد بخازن رهافتي ومستودع حنيني اللذان مغلقان طوال سنوات عديدةوحين امتلأت عروقي وجدا وعلا سطح سفينتي بعض صدأ ,اثرت ان اتولي قيادتها بصورة اكثر وعياواشد التصاقا تاركا الإتجاه لأحلامي التي ترمي ابعادها علي إمتداد
الشواطيءوتتوق الي عشب وشموس كل المرافيء فكانت الرباط هي المتكأ الذي غسلت عليه بعض احزاني وطويت فيه شراع اضناه الترحال وطول عناء السفر"
غيران عثمان لم يمكث هناك كثيرا فعاد مرة اخري الي السودان ولم التقيه بعد ذلك إلاعام 87 ,التقيته في فندق السودان نزيلا هو واسرته الصغيرة بعد ان سقط منزله بامدرمان في امطار وسيول ذلك العام ,وكان حزينا لأن كل اصدقاؤه تنكروا له ولم تساعد حكومة مابعد الإنتفاضة ,شاعر قدم للناس اعذب الأشعار لأن مثل هذه الثقافة, ثقافة تقديرمكانة المبدعين غيرموجودة اصلا في السودان ,فقد مات قبله اهمالا ادريس جماع واعقبه محي الدين فارس وعلي عمر قاسم , و كجراي ,ومات بعده عمر الدوش ومحجوب شريف وسعد الدين ابراهيم وهكذا الحال يموت الشعراء مثل موت الحشائش تصفر وتتلاشي تحت اقدام الحكومات .
في عام 1995علي ما اذكر وانا اعمل بجريدة الشرق القطرية رفعت سماعة الهاتف مساء فاذا المتحدث هو صديقي القديم عثمان خالد كان يحدثي من ابوظبي حزينا يشتكي ايضا من اصدقاء صحفيين نافذين لم يساعدوه في الإلتحاق باحدي صحف الامارات المعروفة وكانوا يستطيعون ذلك وهكذا طبائع البشر, ارسل لي سيرته الذاتية وصادف ان كانت هناك صحيفة قطرية جديدة في بداية صدورها جيء بالشاعر المعروف مصطفي سند ليكون مديرا لتحريرها,ولكون للشعراء شفافية في المشاعر وتلاق في روح الإبداع تم تعين عثمان كمحرر مسئول عن صفحة السودا ن وكان لمصطفي يرحمه الله دورا هاما في ذلك غير ان الشاعر القلق لم يمكث طويلا في الدوحة فغادر الي القاهرة كأنما كان علي موعد مع المرض
فاعادت لي تلك العودة الشريط القديم عندما ذهبنا في السبعينات الي بروفسور بخيت طبيب السفارة السودانية وبشرنا بخلو النتيجة من اي شيء خطير ولكن عندما بلغني نبأ رحيله تيقنت بصدقية لماذا الصقت صفة الخبيث علي المرض الذي مات به عثمان, الارحمه الله رحمة واسعة وسع ماقدمه في حياته من سعادة للناس.
S.meheasi@hotmail.com