تقديم: هذا مقال صغير آخر لأستاذ انجليزي كان يعمل مدرسا للغة الإنجليزية في مدرسة سنار للبنين في عام 1987م. نشر المقال في المجلة البريطانية "دراسات سودانية" في العدد العاشر الصادر في عام 1991م. كما في المقال السابق الذي سجل فيه الأستاذ شيئا عن زيارة والده له في سنار، ها هو يكتب مرة أخرى بعين"أجنبي" يحاول أن يسمع ويحلل ويفهم ما يجري حوله من أحداث جرت ذات يوم في عام 1987م، وطواها النسيان فيما يبدو، فذاكرتنا يميزها – على وجه العموم- قصر شديد وانتقائية مفرطة.
لعل بعضا من طلاب تلك المدرسة في ذلك الزمن (البعيد) يكتب في المستقبل عن ذلك اليوم المشهود، ويزيل جانبا من الغموض الذي اكتنفه.
بدأ ذلك اليوم بدايته المعتادة التي لم تتغير أبدا على مر الأيام. كان الجو شديد الحرارة، والكهرباء مقطوعة، وطفيل "الجارديا" يعيث فسادا في أمعائي. لكن عند دخولي لباب المدرسة (مدرسة سنار الثانوية) تبينت أنه ما من شيء عادي في ذلك اليوم. كان أول ما شد انتباهي هو وجود أعداد من الطلاب خارج أسوار المدرسة يقفون متلاصقين. الشيء الثاني الذي لاحظته هو زخات من الحجارة والطوب المكسر والحصى تتطاير فوق رأسي مصوبة نحو مبنى المدرسة ترجمها رجما . سرعان ما استحال عجبي وتعجبي مما يحدث إلى قلق، فأسرعت الخطى نحو مكتب مدرسي قسم اللغة الإنجليزية.
بعد أن فرغنا من طقس التحيات المعتادة، سألت الأستاذ عثمان رئيس القسم عما يجري. أجابني بأنه لا يدري، وأن علينا أن ننتظر لنرى ماذا سيحدث. توجه الطلاب المتظاهرون بعيدا من المدرسة نحو وسط السوق، بينما ذهب أحد أساتذتنا لتناول كوب من الشاي. بدا لي أن الطلاب قد دخلوا في إضراب عن الدراسة، وسمعت أن شكواهم الرئيسة كانت من رداءة نوع الخبز الذي كان يقدم لهم في داخلية المدرسة. دخل علينا نائب ناظر (مدير) المدرسة وهو يحمل في كفه رغيفا من ذلك الخبز الذي احتج عليه الطلاب ليرينا سبب المشكلة. قال وهو يقلب قطعة الخبز تلك: "في الظاهر أن الأمر يتعلق بالرغيف، بيد أن هناك السياسة هي حقيقة سبباً سياسياً يقف وراء مظاهرة الطلاب". كان الجميع يوقن بأن الحق هو ما نطق به ذلك الرجل؛ حيث كان الرغيف الذي يحتج عليه الطلاب هو ذات الرغيف الذي يأكله يوميا كل مدرسي المدرسة وكل فرد آخر من سكان سنار.
بالطبع تم إلغاء الدراسة في ذلك اليوم، فقررت أن أذهب للسوق لشراء بعض المستلزمات اليومية في رفقة مدرس الفنون. شاهدنا من على البعد، ونحن نقترب من منطقة وسط السوق، سحبا من الدخان الكثيف تنطلق نحو السماء. كان ذك إنذاراً كافيا لنا للتنبؤ بما يمكن أن يحدث هنالك، بيد أننا لم نقدر حجم ما كان يحدث بالضبط. مع اقترابنا من السوق تيقنا من أن هنالك شغبا عارما يلف كامل المنطقة. كانت ألسنة اللهب تلتهم المباني، والسيارات تشتعل، والدخان يتصاعد من كل مكان. كما كان هنالك عدد من الطلاب في حالة هياج عظيم يحملون هراوات ضخمة يحطمون بها كل ما يجدونه أمامهم، ويقذفون بما تقع عليه أيديهم في كل اتجاه. نهبت المتاجر والأكشاك، وتم اكتشاف أن علب صلصة الطماطم يمكن أن تكون مقذوفات شديدة الفعالية والدقة. مر من أمامنا أطفال صغار وهم يحملون فوق رؤوسهم، أو في "عبهم" ما تيسر لهم من بضائع منهوبة . وجاء من وسط السوق واحد من طلاب مدرستنا يجري، وأخبرنا وهو يلهث أن قوات الجيش تصدت بعنف لمسيرتهم قبل وصولها للسوق، وأطلقت نيرانها عليهم فأصابت أحد الطلاب في مقتل. عندها تبين لنا أن من الحكمة أن نغير وجهتنا وأن نقفل راجعين لبيوتنا.
لم أستطع أن أعرف على وجه الدقة ماذا حدث بالضبط أو لماذا حدث؟ لقد تأكد مقتل عدد من الناس في ذلك اليوم. فمن المؤكد أن أحد الطلاب قد قتل برصاص القوات النظامية، بينما لقي أحد أفراد الشرطة حتفه ضربا وركلا بأيدي وأرجل المحتجين، وقتل تاجر بطلق ناري أحد الذين حاولوا نهب محله التجاري. قامت الصحافة المحلية بتغطية تلك الأحداث، وزارني في داري مساء ذلك اليوم طالب من مدرستنا ليريني دماء أحد زملائه، والتي سالت على حذائه. ولكن ما حقيقة تلك المظاهرة؟ بالتأكيد شارك الطلاب في تلك المظاهرة، بيد أنهم لم يشاركوا فيها بسبب رداءة الخبز. بدا واضحا أن الإضراب في مدرسة سنار أصبح مناسبة (أو طقسا) سنويا،يقوم فيها الطلاب بإجبار ناظر (مدير) المدرسة على قفل المدرسة وإعلان عطلة. تبينت من حديثي مع كثير من الطلاب أنهم يكرهون طول فترة الفصل الدراسي (والذي يتطاول لاثني عشرة أسبوعا)، ويؤلمهم بعدهم عن أهلهم وذويهم، وبقاؤهم محشورين في تلك الداخلية الضيقة. قلة قليلة فقط من أولئك الطلاب كانت تأبه لما قد يترتب عليه قفل المدرسة وتعطيل الدراسة من آثار.
كان هنالك في المدينة من يرى أن الأمر كله تدبير "خارجي"، ويلقي باللوم على بعض العقائديين من "الحزب الشيوعي" و/أو "الأخوان المسلمين". ذكرت صحيفة محلية تصدر باللغة الإنجليزية أن من أسباب الاضطرابات والمظاهرات الرئيسة هي النقص في المواد (التموينية)، وتصاعد معدلات التضخم، والتردي الاقتصادي العام في البلاد. وضحت تلك الصحيفة دور التجار في "إشعال" نار أسعار السلع الأساسية، وخلقهم لسوق سوداء، وشح مفتعل، وتجاهل تام للأسعار التي تحددها الحكومة. قد يكون (أو لا يكون) للغضب والحنق بسب ارتفاع الأسعار دور في اضطرام نار المظاهرات. المؤكد أن بعض الناس، عندما تتيح لهم المظاهرات والاضطرابات فرصة لاستغلال الوضع ونهب المحلات ، لن يتوانوا عن اهتبال تلك الفرصة وسرقة ما يتيسر لهم. ماذا كان دور الجيش والشرطة في ما جرى؟ يؤكد البعض أن تلك القوات هي التي استفزت الجماهير الغاضبة بتباطئها– المتعمد - عن القيام بدورها. لن نعرف دور تلك القوات على وجه اليقين أبدا. من ما سمعته من حديثي مع كثير من الناس أن الجيش كانت له مصلحة في غض الطرف عن ما يحدث من اضطراب وفوضى حتى يثبت للناس أن الحكم الديمقراطي عاجز عن نشر الأمن والنظام، وأن الجيش وحده ، والجيش وحده، هو القادر على ذلك.
ظلت (وربما ستظل) الحقائق والدوافع والأسباب لمظاهرة ذلك اليوم في سنار غير واضحة الأسباب . قد يكون لكل ما سمعته من السكان من أحاديث متفرقة (ومتناقضة) نصيب من الحقيقة. لكن الحقيقة الوحيدة المؤكدة، وهي أن الطلاب حصلوا على ما يبتغون...و"قفلت المدرسة لحين إشعار آخر".
نقلا عن "الأحداث"
badreldin ali [alibadreldin@hotmail.com]