معادن الناس كثير منها زائف

 


 

 

دكتور سلامة كان أستاذا للكيمياء الفيزيائية بكلية العلوم بجامعة الخرطوم (السنة الأولى)
حتى أوائل السبعينيات. كان في نهاية الخمسينيات من العمر ويجتهد كثيرا وصادقا في الشرح كلاما وكتابة على السبورة والإنجليزية باللهجة المصرية كان لها الغلبة. للأسف لم يتسنى له ليعيش عالم تقنية هذا العصر التي أعانت المعلمين في التدريس وسهلت لهم توصيل المعلومة بإمتياز إلى طلبة المدارس والجامعات . أول درس كانت محاضرة عن الجدول الدوري للعناصر The Periodic Table of Elements . الموضوع يعني ترتيب العناصر تصاعديا حسب ال atomic number ، وهو عدد البروتونات الإجمالي داخل نواة كل ذرة. وأول إكتشاف لهذا المجهود العلمي الكبير قام به عالم الكيمياء الروسي Dmitry I. Mendeleyev في القرن التاسع عشر. الجدول يحتوي على حوالي 118 عنصر على رأسها الهايدروجين ومع تطور البحوث العلمية تدريجيا ربما يكتشف المزيد الجديد من العناصر التي ستضاف أو تحذف من تلك القائمة . كانت أكثر محاضرة مملة وجافة نام خلالها عدد من الطلاب، لم أكن منهم لأنني كنت أجلس مباشرة أمامه ضمن الصف الأول.خرجنا من المحاضرة معظمنا خرج بخفي حنين لكنني قد إستوعبتها تماما لاحقا عندما كنت طالبا بقسم الجيلوجيا قبل ذهابي إلي كلية الطب بجامعة بغداد. كان دكتور صلاح الربعة رئيساً للقسم ومتخصص في تدريس ال petrology تعلمنا الكثير منها أتذكر هناك معادن وعناصر أصلية لا يمكن صنعها ولكن هناك من تلك العناصر المعدنية ما يمكن دمجها مع بعضها وبنسب معينة لتكون سبائك مزيج أكثر صلابة من الأصل. الفولاذ steel كمثال لهذا المزيج الصلب يركب من الحديد والكربون، والبرونز من النحاس والصفيح والصفر من النحاس والزنك. من بين كل تلك العناصر التي تكونها كيمياء الأشياء يبقى بين أيدينا معدن واحد أنفسها هو "الذهب" عنصرا غاليا جذابا وإضافة الي جماله ولمعان بريقه فهو لا يصدأ ولا يتغير لونه مع طول الزمن "مثلاً كتغير لون الفضة".

هذا المقدمة الجافة جفاف علم الفيزياء والكيمياء تقودني الي حقيقة أنماط علاقات الصداقة بين الأفراد والشعوب التي كثيرا ما تؤثر سلبا أو إيجابا "إجتماعيا وسياسيا وأمنياً وإقتصاديا" على أنفسهم أو على غيرهم . فالصديق الصدوق عند الفزع يعرف بالذهب الذي لا يصدأ لأنه لا يتهاون في مساعدة أو فداء غيره من إخوانه وأصدقائه. ما يدور اليوم في وطننا الحبيب السودان كشف لنا النقاب عن وجوه زائفة ، كنا نسمع كلامها المعسول من خلف ستار ما هو إلا ميكياج سطحي وتوهمنا ضحكاتها تلك بأننا السعداء في جنة عشق خالدة تدوم. وكما تنفلق بذرة اللوز عندما تقع من شجرتها على الأرض إنفلق في أبريل الماضي على المواطنين السودانيين العذل صباح يوم أسود غير إنساني وغير كريم في تاريخ الخرطوم الحديث، لهيب القاذفات الآثمة الذي صب نيرانه لتملأ الآفاق لم يترك لنا من صديق يبقى بالخرطوم ليواسي في محنتنا، فالكل لملم حقائبه وهرب حتى السفارات لم تنتقل إلي مدن آمنة داخل الوطن فذهبت بموظفيها الى بلادها. بإختصار الكانوا معانا (نكرمهم أكثر من ما يكرمونا) فارقونا وبعد ما أمنوا هناك في بلادهم نسونا. مدينة بورتسودان تشهد ومدينة حلفا شمالا تشهد.

لا عجب فأمثلة الصداقات الزائفة كثيرة.الجنرالات المتحاربة اليوم الذين كانوا أصدقاءً بالأمس القريب " حسب توثيق الصور التليفزيونية والصحفية" هي المسؤولة اليوم أولا وآخرا عن هذه الحرب الظالمة وعن ودمار السودان كله نفسيا وأمنيا وإقتصاديا، وعن تشريد مواطنيه واستباحة أعراضهم وسرقة بيوتهم وممتلكاتهم بل حتى تدميرها.هم المسؤلون عن الأرواح التي فاضت ودمار البنية التحتية وخراب كل شيءٍ دمر أو فقد

لا اعتقد أن هناك فرق بين معادن هؤلاء المتحاربين وبين الذين كنا نكرمهم ففارقونا ونسونا، وجيران قراب مننا هَبَّلُونا وأجمل خيراتنا سلبونا، لكن السؤال : "هل يا ترى هناك خانة لتصنيف مثل هذه الأنماط المصطنعة ضمن التي على قائمة الجدول الدوري للعناصر المعتبرة علميا وعالميا"؟ . أترك لك عزيزي القارئ الإجابة.

أمثلة الصداقة الزائفة ومبنية على المصالح الخاصة كثيرا ما نشاهدها أو نسمع عنها هذه الأيام والعالم صار قرية صغيرة ، اليوم شركة فاغنر تكشر أنيابها في وجه الصديق الحليف بوتين منقلبة عليه بحرب ضروس. شخصيا أعترف أن لي معارف وأصدقاء وأقارب كثيرين، اليوم قد عرفت وتحققت من الذي منهم هو "الذهب "الذي لا يصدأ. والسودان كدولة ذات سيادة اليوم يجب عليها أن تفتح عينيها وتصحوا لتعرف وكلنا معها "السند القوي" من هو صديقها الصدوق الحقيقي "الذهب الذي لا يصدأ". فيا أهلنا الكرام قوموا من سباتكم وتحرروا من التبعية والشعور بالدونية والإعتماد على مبادرات الغير، انفضوا غبار الكراهية و الإختلافات الشخصية عن وجوهكم فالوطن الجريح سوف لن تضمد جراحه ولا تقوم له قائمة حياة إلا فقط على أيديكم أنتم. الوطن لعلمكم كله مستهدف بحدوده وخيراته وللأسف سيتم ذلك نتيجة غفلتكم ونتيجة حبكم لأنفسكم وحبكم لتحقيق مصالحكم الشخصية. ما هذه الحرب إلا أداة الاستهداف نفسه. الحدود تناديكم تشكوا من الفوضي واستباحة الأجانب لها .

يا الله ندعوك والحجاج السودانيون في هذه الظروف الصعبة رغم ضعفهم وإحباطاتهم وحاجتهم لك وهم اليوم حول بيتك يسعون ويدعون، أشهدك أنني قد بلغت، فأقبل دعائي ودعاءهم ودعاء كل مظلوم وكل من تظلم من هذه الحرب اللعينة ويارب تنقذ وطننا السودان فيعم الأمن والسلام وتعود الي ديارها كل أسرة شردتها أيدي هي أجنبية أو محلية باطشة لا تخاف الله.الرحمة والمغفرة للموتى والشفاء للجرحى والعوض يا رب لكل من فقد داره ومتاعه وماله.

aa76@me.com

 

آراء