khalidtigani@gmail.com عن صحيفة إيلاف (1) لا أدري من ذلك العبقري الذي ورّط المؤتمر الوطني في إدراج بند في اجتماعات شوراه يزعم مناقشة الوضع الاقتصادي، والخروج بتصريحات من شاكلة أن الأزمات التي تلاحق المواطنين حتى أقضّت مضاجعهم إلى زوال، وستحل في غضون أسابيع، كيف؟ الله أعلم مع أن زمن المعجزات قد ولّى وفات.
وقيل أن المؤتمرين ناقشوا رؤية اقتصادية جديدة، اجتهدت أن أمسك طرفاً من هذه الاستراتيجية فما وجدت غير التعليقات المكرورة لدرجة الملل التي ظل يدلي بها المسؤولون الحكوميون يصفون بها ما هو معلوم، وكأنهم محللون وصحافيون، وليسوا أصحاب قرار يكتفون بسوق لأعذار، يتحدثون بكل بساطة عن حلول وشيكة، طالما تكرر الحديث عنها طوال ثلاثة عقود بدون جدوى، أمر واحد تؤكده هذه المفاوقة أن حجم "غيبوبة الطبقة الحاكمة" عما يكابده المواطنون في الواقع المعاش ضنكاً وضيقاً يتزايد كل يوم يتجاوز أخصب خيال يمكن أن يصوّر حجم "الانفصال عن الواقع"، وأنها تعيش في أبراج عاجية حقاً لا مجازاً.
(2) لا أحد لم يكن يعلم الجند الحقيقي لاجتماع "شورى" المؤتمر الوطني الذي قصد حسم مسألة "الترشيح" قبل موعدها في أضابير لوائح الحزب، علي أي حال ليس هذا شأن مقالنا اليوم، فقد تصلح السياسة سوقاً للكلام وعقد الصفقات السلطوية، لكن منطق الاقتصاد لا يحتمل أي قدر ولو قلّ من "الفهلوة"، كان يمكن للمؤتمر الوطني أن يمرر ما يشاء كما يريد من شؤونه طالما لا تزال حتى الآن داخل حوشه، فما أكثر الناس معنيين بذلك، على الأقل في الوقت الراهن، بقدر عنايتهم بالتدهور المتواصل في أسباب عيشهم التي ظلت تتراجع على نحو مخيف خلال الأشهر العشرة الماضية، وانتهى الحال بالحكومة لاتباع سياسة (تطنيش) ما يجري وكأنه يحدث في بلد آخر، فكل محاولات تداركها غير المتبصرة، التي نأت فيها بكل إصرار على عدم دفع أي ثمن من أجل الإصلاح، تجاوزت حالة العجز والفشل التي كانت درجة متقدمة من المحاولات، إلى الاستسلام الكامل انتظاراً لمعجزة تهبط من السماء تنزل مناً وسلوى للبلد المكنوب.
(3) يبدو أن أحدهم نصح دهاقنة الحزب بأن ظروف الأزمات المتلاحقة التي تحيط بالمواطنين تجعل عقد اجتماع ينشغل فقط بامر قد يحدث بعد عامين أمرا انصرافيا بامتياز ، وأنه من أجل تخفيف الحرج فلندرج مسألة الوضع الاقتصادي ومعاش الناس، وليتهم تعاملوا مع الأمر بالجدية التي يستحقها، ولكن عقلية المناورة الصغيرة والتلاعب بالشعارات المسيطرة على ذهنية الطبقة الحاكمة أبت إلا أن تفرض نفسها، فقد انصب جهدهم على تمرير ما ائتمروا لأجله، ولم يتعد الحديث عن الوضع الاقتصادي سقف التعليقات العابرة، والتنويرات، وبذل الوعود الفضفاضة التي لو كانت تصلح لما بلغ الحال بنا اليوم هذا الدرك الأسفل من التردي، الذي تسلم فيه كل يوم ازمة لأختها، حتى تحولت الأزمات من طبيعتها العابرة، إلى واقع مستدام.
وخرج المتحدثون باسم الحزب يبشرون بإجراءات فطيرة، انفطرت لها قلوب الناس وهي تسمع ما قيل أنها مبادرة لفرع الحزب الأكبر في ولاية الخرطوم تجسيداً لمخرجات "الشورى"، فلم يدر الناس أيضحكون أم يبكون، هل يُعقل أن يظن أحدهم جاداً ان هذا فعلاً هو السبيل للخروج من الأزمات المتلاحقة التي أضحت مأزقاً، وجاءت تصريحات وزير الإعلام المتحدث باسم الحكومة ليزيد الطين بلة، جالبة عليه المزيد من السخرية وهو يزعم أن ما وصفه بالأزمة الاقتصادية ستكون قريبا من "حكاوي الماضي"، يا للهول قالها هكذا، كيف؟ من المؤكد بفضل دعواته المستجابة، إذا كانت هذه هي الرؤية العبقرية التي بشرنا بها، فقد وقعت الواقعة.
(4) ما كان أغنى قيادة المؤتمر الوطني عن الدخول في هذه المتاهة، ما دام لم تكن تتوفر لها جدية كافية وعزم لمناقشة الوضع الاقتصادي، ليس من خلال عوارض الأزمات وإفراغ الجهد في التصدي لها بإجراءات سطحية تحاول تخفيف غلواء أعراضها، بل معالجة جذورها بالنظر في الأسباب الجذرية التي قادت لأن تفشل حكومته في إدارة اقتصاد البلاد بكل هذه الموارد الطبيعية المتنوعة الضخمة. فالأزمة كما ترّسخ في الوعي العام ليست اقتصادية بأي حال من الأحوال، بل أن ما يحدث من تدهور متسارع في الحقل الاقتصادي لا يعدو إلا أن يكون تجلياً واضحاً لا ريب فيه لأزمة سياسية مستفحلة تتمثل في الفشل البيّن في إدارة الدولة، وفي الاختلالات الهيكلية لنظم إدارتها وترتيباتها السياسية، وسلم أولوياتها.
(5) كان من شأن هذا التعاطي السطحي في شوري الوطني، لما سمي بالأزمة الاقتصادية، دون تناول عمقها الحقيقي ومسببها الفعلي المتمثل في أزمة الحكم، أن يؤدي إلى عكس ما كان يرجوه دعاة تعجيل الترشيح، من الاكتفاء باستخدام إغراء مخاطبة "الوضع الاقتصادي" كمسحوق للتجميل، لتأتي أزمة عدم توفر الخبز مفاجأة غير سارة، وفي توقيت غير محسوب لترفع ورقة التوت، وتذكر، وتقود ليس إلى تأكيد عدم الجدية في مخاطبة جذور أزمة الحكم فحسب، بل في إنهاء أية بارقة أمر لرؤية حلول جدية من أي نوع, في ظل انشغال المؤتمر الوطني بتثبيت نفسه في كراسي السلطة بلا استحقاق يقوم على خدمة المواطنين، أو أخذ السلطة بحقها، بل بالسهر على خدمة الطبقة الحاكمة وتأمين احتكارها للسلطة والثروة.
كما كشف انخفاض سقف الالتزام بتحمّل مسؤولية الكلفة الصعبة لعلاج أزمة الحكم مدى العزلة التي يعيش داخلها من بيدهم الأمر.
(6) على كثرة ما نبه النابهون، ونصح الناصحون لسنين خلت يحذرون من مغبة إدارة الشان العام، بما في ذلك شؤون الاقتصاد والحكم والإدارة، خبط عشواء بلا هدى ولا كتاب منير، وعلى كثرة ما تقول السلطة أنها تملك خططاً استراتيجية، وبرامج تنفيذية تعدّدت أسماؤهم، كانت النتيجة واحدة، فشل لكل خطة تعلن لتسلم الراية إلى أخرى، دون مراجعة أو محاسبة أو مساءلة، حتى تحولت البلاد إلى ميدان لتجريب المجرب، وإسناد الأمور إلى عاجزين عن الفعل أحالوها إلى ما تكابده البلاد والعباد اليوم، من مصاعب وإخفاقات لم تكن أبداً قدراً لا مناص منه، وما يؤسف له أنه مع كل الذي يحدث ولا يمكن إخفاؤه، إلا أن عقلية الإنكار لا تزال هي السائدة، وكذلك ذهنية التهوين والبحث عن مشاجب لتعليق المبررات على فشل متكرر، لتصبح المصيبة مصيبتان، لم يستمعوا بادئ الأمر إلى من يمحضهم النصح فانتهت الأوضاع إلى ما هي عليه الآن، وزاد الأمر ضغثاً على إبالة الإصرار على المكابرة وعدم الاعتراف بالأخطاء المتراكمة التي هي من صنع ذاتي، واستمرأوا الاختباء وراء ضغوط خارجية، وهذه مهما كانت فإنها لا تمنع النهوض، وكم من بلدان نهضت تحت ظروف أكثر سوءاً.
(7) يتعجل الكثيرون من قادة الطبقة الحاكمة دفع كل نقد دون التبصر في مضمونه وهدفه، ويزعم بعضهم أنه لا توجد حلول أخرى في أبلغ دلالة على العجز والفشل، ويقول بعضهم قدموا لنا حلول، وعلى كثرة ما قدم الخبراء والمختصون من بدائل فقد تجاهلها أصحاب القرار، في ظل فقدان إرادة، وإصرار الطبقة الحاكمة على عدم دفع ثمن استحقاقات الإصلاحات، ذلك أن لا يوجد إصلاح مجاني، وليسألوا أنفسهم ماذا فعلوا حتى بالخطط التي تتبناها الحكومة وها هو آخر تقرير للبنك المركزي يكشف أن 94% من الانفاق الحكومي يذهب للمصروفات الجارية، في حين لا ينفق على التنمية سوى 6% وحتى هذه لا تمثل غير 43% فقط من اعتمادات الموازنة.
(8) من المؤكد أنه لا توجد مشكلة اقتصادية في بلد لا تنقصه شئ من الموارد، بل توجد أزمة حكم وإدارة، ولا يمكن تصور وجود أي حل بغير إعادة هيكلة كاملة للدولة السودانية تعيد ترتيب أولوياتها لصالح التنمية ولصالح المواطن، وليس لخدمة الطبقة المستأثرة بالسلطة والثروة، وبدون هذا الحل الذي يتطلب رؤية وإرادة وإدارة رشيدة ومحاسبة ومساءلة ستتوالي الأزمات، وستتراكم آثارها، ولن يكون الاحتقان الاجتماعي أقلها، وحينها لات ساعة مندم.
وقد قيل كل شئ، ولم تعد هناك حاجة للمزيد من الكلام، فلم يتركوا لنا ما نقول، لا تزال تبقى هناك الفرصة الأخيرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ولكنها لن تهبط بحل من السماء، بل ما يفعله أصحاب القرار، لا ما يعدون به.