معاوية محمد نور والانحياز إلى الآداب القومية والثقافة الوطنية
عبد المنعم عجب الفيا
12 April, 2022
12 April, 2022
لم ير البعض في الدور التنويري الذي كان يقوم به معاوية محمد نور سوى الارتهان الكامل للحضارة الغربية والآداب الأوربية متجاهلاً، في ظنهم، الثقافة الوطنية والآداب القومية على المستوى المحلي والاقليمي. وهذه نظرة قاصرة ومجافية للحقيقة تماماً، ولا تعبر إلا عن خفة معرفية عاجزة عن الاحاطة بتراث معاوية المنشور والمبذول لكل باحث جاد يتوخي الصدق والموضوعية والتقييم العلمي المسنود بالأدلة والشواهد والخلاصات السائغة.
والمفارقة اللافتة للنظر أن الذين يرمون معاوية جزافاً بهذه المآخذ هم الأكثر استلاباً وتبعة للحضارة الغربية، إذ تجدهم يتسابقون إلى الأخذ بكل ما تفرزه من اتجاهات وتيارات في الأدب والفن والفكر، ويسلمون تسليماً مطلقاً بكل ما تقوله به، تارة باسم الحداثة وتارة باسم ما بعد الحداثة وغيرها، وهم غير مدركين لحقيقة أن أكثر هذه الاتجاهات والتيارات الفكرية والأدبية ما هي إلا انعكاس للأزمات والعلل التي تعترض مسيرة المجتمعات الغربية الرأسمالية.
الوعي المتجاوز بالخصوصية الثقافية للشعوب:
والشاهد أن معاوية كان من أوائل الكتاب والنقاد – إن لم يكن أول كاتب وناقد على مستوى العالم العربي– يدعو إلى ضرورة الوعي بالخصوصيات الثقافية والوجدانية للشعوب وبضرورة أن ينطلق الكاتب في التعبير عن تجاربه الابداعية من بيئته وواقعه المحلي وألا يكتفي بتقليد الآداب الأوربية.
وانطلاقا من هذا الوعي المتجاوز قاد معاوية من مصر الدعوة إلى تبصير الكتّاب والأدباء بضررة الصدور فيما يكتبون من تجارب ابداعية من ثقافتهم القومية والمحلية. ومن أجل هذا الهدف عمد إلى اقناع ثلة من الأدباء في مصر بتأسيس كيان أدبي في سنة 1930 أطلقوا عليها (جماعة الأدب القومي). وصفة "قومي" هنا يقصد بها "وطني" أو "محلي" وليس "قومي" بالمعنى العروبي الآيديولوجي.
ونشرت الجماعة بيانها التأسيسي الأول بمجلة السياسة الاسبوعية (مجلة أدباء ومفكري الصف الأول بمصر آنذاك). ووقع على البيان ستة أدباء على رأسهم معاوية والخمسة من الكتّاب المصرين. والموقعون حسب الترتيب الوارد بالبيان هم: محمد زكي عبد القادر، ومحمد الأسمر، ومحمود عزت موسى، ومحمد أمين حسونة، وزكريا عبده، ومعاوية محمد نور.
نُشر البيان بالسياسة الاسبوعية بتاريخ السبت 28 يونيو 1930. وقد نشره الدكتور الطاهر محمد علي البشير ضمن كتابه (آثار معاوية محمد نور) التي جمعها من الصحف المصرية ونشرها سنة 1970 وصدرت عن الدار السودانية للكتب بالخرطوم. وأغلب الظن أن معاوية هو من صاغ هذا البيان إذ لا يخلو من أسلوبه ونفَسه الكتابي. وحمل البيان عنوان (دعوة إلى خلق أدب قومي) وهو في نحو صفحتين ونصف تقريباً.
يبدأ البيان بالنعي على النهضة الأدبية في مصر والشرق العربي كونها انطبعت: "بطابع التقليد والنقل..، ولا تبدو للأدب المحلي بادرة أو جهود في سبيل خلقه، بل لقد يعمد بعض كتابنا، وهذا ما يؤسف له، إلى تغيير بسيط في الأسماء وتحوير في المعنى والموضوع، ويبرز للجمهور بالقطعة الأدبية أو القصة أو الفكاهة يدعيها لنفسه. والأدب صورة الحياة ومن العيب أن نضيق بحياتنا فنلتمس تصويرها بأقلام غير أقلامنا وأفهام غير أفهامنا..، ولئن سرنا هذه السيرة فلن نستطيع أن نخلق لنا أدباً محلياً يتميز بالطابع المصري..".
ثم يضيف البيان: "لذلك ورغبة في تشجيع الأدب المصري الخالص وجعله صورة لا تفترق عن حياتنا، صحت نيتنا أن نوجه هذه الدعوة على صفحات السياسة الاسبوعية، إلى كل من يهمه خلق أدب محلي، لا يعتمد على الادعاء والترجمة والنقل، صحت نيتنا أن نوجه الدعوة إلى الشبان من الكتاب والأدباء، بأن يكون طابع النهضة في مصر والشرق العربي، الحرية في الفكرة، والاستقلال في الرأي، والعناية بخلق أدب يحمل مميزاتنا، وتكون له سماته الخاصة كما للأدب الروسي والإنجليزي والفرنسي مثلاً". انتهى.
ووجدت الدعوة استجابة من عدد من الأدباء فسميت بـ(جماعة العشرين) للأدب القومي بزعامة الأديب الدكتور محمد حسين هيكل، صاحب رواية (زينب) أول رواية مصرية بالمفهوم الغربي. ولكن يبدو أن البعض أساء فهم الدعوة فانتقدها بالصحف. الأمر الذي حدا بمعاوية محمد نور أن يسطر مقالا في شرح مفهوم الأدب القومي الذي يدعون إليه، وقد جاء المقال بعنوان: )الأدب القومي- فكرة فنية يجب تصحيحها) نشر المقال بالسياسة الاسبوعية بتاريخ 30 سبتمبر 1930. وقد جاء فيه :"هذا الذي رأيته من جانب بعض الكتاب لعدم فهم دعوتنا إلى هذه الفكرة هو الذي حفزني أن أكتب عن الفكرة وأشرحها".
ويبدأ معاوية شرحه لمفهوم الأدب القومي بالقول: "للأمم عبقريات خاصة وخصائص شعورية، وفكرية وألوان من العيش، والمزاج..، ومهمة الأدب القومي تسجيل هذه العبقريات وهذه الخصائص وألوان المزاج وطرق التفكير وصنوف الإحساس..،".
ثم يمضي إلى القول: "جوهر الأدب القومي هو (الإحساس القومي).. فالأدب القومي عند شعب من الشعوب ليس معناه التحدث عن موضوعات قومية وحسب، ولكن هو أن يكون ذلك الكاتب فناناً تمثلت فيه خصائص أمته الشعورية والفكرية فأبرزها في العمل الفني في ثوب تفسيره الخاص به كفرد من تلك الأمة ذي إحساس".
"وقد يكون هذا الأدب القومي حياة الفلاح أو فقر العمال أو ترف الأغنياء في وادي النيل، وقد يكون عن متحف اللوفر ومجد فرنسا أو الكلام عن جمال البندقية في إيطاليا، كل ذلك موضوع ثانوي طالما كان الإحساس قومياً صحيحاً. والقطعة الفنية يكتبها ابن بار من أبناء هذا النيل عن الشمس أو الصحراء أو شظف عيش عائلة ريفية أو عن (الكلوج دي فرانس) أو عن التقاء النيلين بالخرطوم، أو غير ذلك من الموضوعات تكون أدباً قومياً طالما كان ذلك الفنان فنانا بطبعه، شديد الشعور بقوميته". انتهى.
والثابت أن دعوة معاوية وجماعته إلى ضرورة "خلق أدب قومي"، قد وصلت إلى أدباء السودان، وتركت أثرا قويا أدى إلى نشوء نهضة فكرية وأدبية في السودان في الثلاثينات من القرن الماضي، لا تزال ثمارها تأتي أوكلها، ولا تزال بصماتها الراسخة ماثلة في الحياة الأدبية والثقافية في السودان.
فقد تضمن العدد الأول من مجلة (النهضة) السودانية الذي صدر في 4 اكتوبر 1931 مقالا لمحمد عشري الصديق نشر في جزءين بعنوان) الأدب القومي) استهله بالقول: "منذ مدة وجيزة قام جماعة من أدباء الشباب، يبثون دعوة مؤداها ان عصر الترجمة والنقل قد انتهى، وأن عصر الخلق والابتكار والاعتماد على المواهب الطبيعية قد أطلت بشائره، ووجهوا دعوتهم إلى جميع المشتغلين بالآداب الرفيعة في وادي النيل".
وفي الجزء الثاني من المقال (نشر بالعدد الثاني، في 11 اكتوبر 1931) يطرح محمد عشري، مفهومه للأدب القومي في البلدان العربية بالقول: "فالأدباء الطامحون إلى إحياء الآداب القومية، سواء كانوا في مصر أو في السودان أو أي بلد من بلدان الشرق الناهض، يخلق بهم أن يتعمقوا في حياة الأوساط الاجتماعية كلها، وأن يستأنسوا بأسلوب حياتها، ويحيطوا بأفكارها وأمزجتها، وخفايا أفئدتها، ويألفوا مُثلها العليا والسفلى، وخرافاتها وأساطيرها وقصصها وأشعارها، وبالإجمال كل ما يتعلق بما يدعوه الغربيون ويدرسون باسم (أدب الشعب)".
وبهذه الرؤية وضع محمد عشري الإطار النظري الذي قامت عليه النهضة الأدبية السودانية في ثلاثينيات القرن الماضي. الحقيقة يمكن القول إن الدافع الأول لقيام جماعة مجلتي النهضة والفجر، هو التأسيس لأدب قومي سوداني.
وكان أكثرهم حماسا لذلك محمد أحمد المحجوب الذي جعل هذه الفكرة محور اهتمامه الأدبي والنقدي والفكري. وتكشف عن ذلك مقالاته المنشورة بالمجلتين والتي جمعها فيما بعد وأصدرها في كتابه المقروء (نحو الغد).
يقول الدكتور خالد حسين الكد في كتابه (الأفندية ومفاهيم القومية في السودان) عن الخط الفكري والتحريري، أصبحت مصطلحات مثل (الثقافة السودانية) و(الأدب القومي) هي محور مقالات مجلتي النهضة والفجر. وإن "شعار الأدب القومي، والهوية السودانية، هي المواضيع الأثيرة لكلمة تحرير مجلة الفجر".
ومثالاً على ذلك يورد الكد، مقتطفاً من كلمة تحرير عدد مجلة الفجر، الصادر في يوم 1 مارس 1937 وهو قولها: "الهوية السودانية هي مثال يجب أن نعمل لتحقيقه. يجب أن تنعكس في سياستنا، تعليمنا، أدبنا وثقافتنا. هي الخطوة الضرورية التي يجب أن نتخذها قبل أن نتطلع للتحالف مع أي أمة، أو أن نمضي في طريقنا مع الأمم الأخرى للوصول للأممية".
وهنا يجب علينا ألا ننسى الدور الريادي للشاعر والناقد السوداني حمزة الملك طمبل الذي يعد أول كاتب سوداني يدعو إلى التأسيس لأدب سوداني، غير مقلد للآداب في البلدان العربية الأخرى ولا للاداب الغربية، وذلك في سلسلة مقالاته التي بدأ نشرها بجريدة (الحضارة) في بحر العام 1927 والتي جمعها وأصدرها في كتاب بعنوان (الأدب السوداني وما يجب أن يكون عليه) سنة 1928.
السودانوية في نصوص معاوية الابداعية:
لم يكن معاوية ناقدا أدبيا ومنظرا فكريا كبيراً وحسب، بل كان إلى جانب ذلك، كاتبا مبدعا لذلك لم يكتف في دعوته إلى الأدب "الوطني" بالتنظير فقد أبدع نصوصا قصصية كانت على قلتها سابقة لزمانها بكثير. فقد كانت القصة العربية لا تزال تحبو في ذلك الوقت ولا تزال غارفة في الرومانسية الساذجة. إذ لم يتعرف الكتّاب العرب بعد، على الواقعية النقدية التي انطلق منها معاوية في كتابة نصوصه القصصية. وكانت هذه التجربة الابداعية الرائدة من الجدة بمكان بحيث اضطر معاوية، إلى أن يمهد لهذه القصص بمقدمة إلى القارئ للتعريف بهذه الأساليب الجديدة في الكتابة السردية.
والأهم من ذلك كانت هذه النصوص الابداعية سودانية مئة بالمئة من حيث المكان والشخصيات والموضوعات، وليس من بينها أي قصة أو خاطرة تستمد مادتها من حياته وذكرياته في لبنان ومصر، أو لأي منها علاقة بالمجتمعين اللبناني والمصري اللذين درس فيهما وعاش وانتج كل إرثه الكتابي العظيم.
وتكشف هذه النصوص عن تعلقه بالمكان والأرض والتراب والوطن، وعن حسه الانساني النبيل تجاه الناس وخاصة "المساكين" منهم. ويمكن تقسيم هذه النصوص إلى قسمين: قسم عبارة عن قصص قصيرة. وقسم آخر عبارة عن خواطر أقرب إلى القصص.
والقصص هي: (ابن عمه) وقصة (إيمان) وقضة (المكان) وقصة (الموت والقمر). ففي قصة (ابن عمه) يعالج الكاتب ظاهرة التفاوت الاجتماعي بين الأغنياء والفقراء وما يمكن أن يؤدي إليه من حقد طبقي قاتل حين يتنكر بعض الناس لواقعهم وأقرب الناس إليهم عندما يصيبون حظاً من النجاح المالي.
أما قصة (المكان) فليست أول قصة في الأدب العربي، تكتب بتوظيف تكنيك المنولوج الداخلي أو تيار الوعي كما استخدمه لأول مرة مارسيل بروست وجميس جويس وفرجينا ولف، وحسب، بل هي أول قصة في الأدب العربي، تكتب على نحو متعمد للتعريف بشعرية المكان. وذلك قبل أن يصدر الفيلسوف الفرنسي Gaston Bachelard غاستون باشلار كتابه (شعرية المكان) في سنة 1958 والذي تُرجم الى العربية في الثمانينيات باسم (جماليات المكان). فالموضوع الأساس لقصة معاوية هو "الإحساس بالمكان"، وقد وظّف فيها الكاتب ذكريات طفولته بأم درمان والخرطوم وتوتي.
إلى جانب هذه القصص القليلة، كتب معاوية أيضاً بعض الخواطر والمقالات ذات الصبغة القصصية، وهي: (في الخرطوم – خواطر وذكريات محزونة) و(أم درمان – مدينة السراب والحنين) و(في القطار – مأساة) وتمتاز هذه الخواطر بقيمة فنية عالية جداً وصبغة شعرية قصصية في غاية الإمتاع. وبرغم أن عناوين هذه النصوص كافية وحدها للدلالة على التصاق معاوية بماضيه وواقعه السوداني وعدم ترفعه عليه ونسيانه له.
ففي النص الموسوم: (في القطار: مأساة) فيصور فيه معاوية بؤس حياة سكان محطات القطار في رحلة من وداي حلفا إلى الخرطوم، وذلك من خلال ما يعرضه الصبية والنساء من طعام على الركاب والمسافرين، مثل الشاي والبيض وخلافه. وقد يتحرك القطار مودعا المحطة دون أن يتمكن بعضهم أن يبيع شيئاً مما يعرض. ثم يلتفت النص إلى تصوير العالم الآخر، عالم المسافرين بالقطار من الإنجليز والأفندية الذي ينعمون بالداخل بأرقى الخدمات، وذلك لإبراز التناقض والتفاوت الطبقي بين العالمين. والمأساة، هي مأساة ذلك الصبي الذي كان يعرض بضاعته البائسة من الشاي:
"وكانت هناك امرأة تجلس على بعد ثلاثة أمتار من القطار ناظرة إلى الصبية الذين ينادون بملء أفواههم بما عندهم من طعام وشراب لجماعة المسافرين، وكانت تشير على أحد الصبية بين حين وآخر أن يجري هنا وهناك من واجهات القطار منادياً: شاي، شا..آ..آي.".
"... وإنني لن أنسى ذلك الصوت الذي ظل يردد لفظة شاي والناس عنه في شغل، وهو يمد فتحة الشين مداً تكاد تحسب أن روح هذا المسكين تكاد تزهق مع ندائه الحار.. وكانت تلك المرأة تناديه بين حين وآخر مشيرة عليه أن يسرع خطاه وأن يذهب إلى تلك الناحية من القطار لعله بائع شيئاً لأحد المسافرين.. ولما تعب ذهب إلى تلك المرأة وأراد الجلوس إلى جانبها، فما كان منها إلا أن دفعته إلى ناحية القطار، ولكنه وقد خارت قواه لم يستطع الصراخ فصار ينادي في شىء من الهمود وفقدان الصوت: شآي.. شآي.. شآي!.. وصفر القطار معلناً سفرته".
".. وسمعت هذه المحادثة والقطار يتحرك بين تلك المرأة وذلك الفتى.. قالت المرأة: ها قد خسر الشاي! من ذا الذي قال لك ضع القرشين في مثل هذا الشاي ومن سيشربه لك الآن؟ لتنام الليلة من غير عشاء.. يا قاسي الرأس. وظلت توبخه على هذه الطريقة وهو ساكت..استرد شيئا من شجاعته وقال لها: ولكنك يا أماه انت التي قلت لي أعمل هذا الشاي علنا نربح منه قرشاً وقد عملته كما أمرتني! فأجابته بعد أن نظرت إلى عينيه الدامعتين، وشكله المبتئس، قائلة في صوت هادىء تخالطه مرارة دفينة، وهمٌ لاعج: نعم! أنا.. أنا.. أنا السبب.. أسكت يا ولدي.. الله فيّ!".
ثم يلتفت النص إلى تصوير العالم الآخر، عالم المسافرين بالقطار من الإنجليز والأفندية، وذلك لإبراز التناقض والتفاوت الطبقي بين العالمين:
".. وابتعد القطار رويداً رويداً، وصورة ذلك المشهد لا تفارق نظري، ونغم ذلك الجرس الصارخ المملؤء لوعة وأسى: شا..آ..آ..ي، ما يزال يرن في أذني.. وإذا بصراخ بعض أفندية القطار يقطع علي تفكيري وذكراي، فهو ينادي الجرسون: واحد بيرة، بس الثلج يكون كثير شوية، فاهم! وقام البعض يلبس ملابسه ويصلح من هندامه استعداداً لطعام العشاء.. ورأينا هناك نفراً من الإنجليز وهم جالسون في غرفة الطعام يتكلمون بسرعة ويتبادلون النكات ويدخنون. وكنت تسمع الأفندية من ركاب الدرجة الأولى والثانية، وهم على مائدة الطعام الأنيقة، ينادون بين حين وآخر: واحد "توست"، بينما القطار في عدوه لا يلوي على شىء". انتهت.
معاوية والانحياز لخصوصية الغناء السوداني:
ويتجلى وعي معاوية المتجاوز بالخصوصية الثقافية والوجدانية للشعوب والأمم في انحيازه الكامل لأسلوب الغناء السوداني. وهذا الإنحياز يكشف عن إيمانه بأن السودان له خصوصيته التي تميزه عن سائر الشعوب العربية الأخرى ولذلك لم يتأثر معاوية بأساليب الغناء في لبنان ومصر، ولم ينظر إلى ذلك النمط العربي من الغناء بوصفه النموذج الذي يجب أن يحتذى في السودان، كما نادى بذلك بعض المثقفين السودانيين المعاصرين له في ذلك الزمان.
ففي نص (أم درمان: مدينة السراب والحنين) يقول: "إني لا أعرف شعباً فتُن بأغانيه، وأعجب بها فتنة السوداني وإعجابه بها. فأنت واجد الموظف في مكتبه، والتاجر في حانوته، والطالب في مدرسته والشحاذ والحمّار والعامل والمزارع والطفل الذي لم يتجاوز الثالثة، ومن إليهم، كلهم يغنونها ويرددونها في كل ساعة وكل مكان، ويأخذون من نغمها وإيقاعها معيناً لهم يعينهم على العمل، ويلهب إحساسهم بدواعي النشاط والتيقظ الشاعر".
"بل بلغ افتتانهم بها أن الرجل ربما يشتري الاسطوانية الغنائية، بعشرين قرشاً، وهو لا يملك قوت يومه، وقلَّ أن يمر الإنسان، بأي شارع من شوارع أم درمان، إلا ويعثر على إنسان أو جماعة تدمدم بتلك الأغاني في شبه غيبوبة حالمة وصوت باك حزين. والأغاني لا يمكن أن تذيع في أمة مثل هذا الذيوع وتحظى بمثل هذا الانتشار، إذا هي لم تعبر عن نفسية تلك الأمة أتم تعبير"..
ويستمر في ذات السياق: "وأغرب من ذلك وأدعى إلى الدهشة أنهم يرقصون على تلك الأغاني الحزينة الكئيبة ولا يرون فيها حزناً ولا كآبة لاعتيادهم سماعها ولارتباطها الوثيق بحياتهم. فإذا غنى المغني قائلاً: (يا حبيبي خائف تجفاني) وكان هذا المقطع الأخير الذي يرددونه مثل الكورس المسرحي، وغناها المغني بصوت عال وترديد شجي ناعم، طَرِب الكلُّ واشتدَّ الرقص واشتعل النظارة حماساً، ونسي كل نفسه في موجة طرب راقص، فيعرف المشاهد أن هذا الشعب قد وطد نفسه على قبول الحياة كما هي في غير مأثرة، وكانت له في آلامه الدفينة البعيدة القرار نعِم السلوى عن الحاضر، ونعم العزاء عن الآلام والمتاعب. وتلك نعمة الاستسلام والحنين ومظهر الاستهتار بألم طال وتأصل فانقلب فرحاً ونعيماً".
ثم يختم حديثه في السياق نفسه: "ونفوس السودانيين واضحة واسعة، وضوح الصحراء وسعتها، وخلقهم ليّن صاف، ليْن ماء النيل وصفاءه، وفيهم رجولة تكاد تقرب من درجة الوحشية، وهم في ساعات الذكرى والعاطفة يجيش الشعور على نبرات كلماتهم وسيماء وجوهم حتى تحسبهم النساء والأطفال. وتلك ميزات لا مكان لها في حساب العصر الحاضر، وإن كان لها أكبر الحساب في نفوس الأفراد الشاعرين وفي تقدير الفن والشعر والحضارة". انتهت.
ولا شك أن معاوية يقصد بهذه الأغاني، أغاني ما أطلق عليه فيما بعد، في الخمسينيات (أغاني الحقيبة)، وهي الأغاني التي كانت في أوج ازدهار في الوقت الذي كان يكتب فيه معاوية.
ويظهر موقف معاوية المتجاوز والمنحاز لنمط الغناء السوداني إذا قارناه مثلاً بموقف "جماعة أبي روف" التي تكونت بالتزامن مع جماعة مجلتي النهضة والفجر في أواخر العشرينيات. فقد كان أعضاء جماعة أبي روف يعتقدون بضرورة إدخال تعديل على أسلوب الغناء السوداني حتى يكون مشابهاً للغناء العربي في مصر وغيرها لكي يتذوقه العربي.
وكان خضر حمد أبرز أعضاء الجماعة قد عبر عن هذا الموقف في مذكراته بقوله: "كانت أغاني (الحقيبة) هي الأغاني التي كنا نعيشها ونستمتع بها. وعندما خرجنا إلى الحياة العامة تطور ذوقنا وأخذنا نسمع الأغاني المصرية ونقتني الأسطوانات العديدة لعبد الوهاب وأم كلثوم، وشعرنا بالفارق بين أغانينا والأغاني العربية عموماً، ومصر كان كل ما فيها يطغى على ما عندنا.. اتجهنا نحو الفن المصري تغذينا الصحافة المصرية وأخيراً السينما المصرية، وهذا الاحساس بالفارق بين ما عندنا وما نسمعه جعلنا نفكر في كيف نطور الأغاني السودانية".
ثم يضيف: "كنت في مصر واتصلت برجل فاضل وتحدثت معه في موضوع الأغاني السودانية وكيف يمكن تطويرها أو تلقيحها حتى تكون عربية ويتذوقها العربي أينما كان. وكان هذا الرجل له صلة بمعهد فؤاد الأول للموسيقى الشرقية الذي أصبح فيما بعد معهد الموسيقى الشرقي. واتفقنا على أن نكتب قصيدة سودانية على النوتة كما هي لا نغير فيها ولا نبدل ثم نرسلها إلى المعهد وهم بعد سماعها يحاولون تعديلها بما لا يخرج عن الذوق السوداني وفي نفس الوقت يقربها من اللحن العربي. وحسبنا أننا بذلك نسنطيع أن نطور أغانينا وأن نجعلها تخرج إلى العالم العربي الواسع وفعلا اخترنا القصيدة ومطلعها: يا غزال الروض تفداك الروح".
"وكتبها المرحوم البكباشي تميم بالنوتة وارسلناها إلى المعهد وهناك حلوا رموزها ثم ادخلوا فيها ما استطاعوا إدخاله وردّت إلينا ولكن كان التغيير طفيفاً جداً وقال المسؤولون في المعهد إنهم لم يغيروا فيها كثيراً خوفاً من أن تخرج على الذوق السوداني، ثم قالوا إن الوسيلة الوحيدة لتطوير أغاني السودان هي إرسال شاب متعلم له هوايته وله علم بالاغاني يتعلم في المعهد ثم يحاول تلقيح الاغاني السودانية وتقريبها إلى الذوق العربي). انتهى.
معاوية ومناهضة سياسات الإدارة البريطانية:
بعد تخرجه من الجامعة الأمريكية ببيروت في حوالي آخر العام 1929، عاد معاوية إلى السودان وتقدم للعمل مدرساً بكلية غردون للعمل أستاذاً للغة الإنجليزية التي تخصص فيها، وعند إجراء المعاينة أو المقابلة مع مدير المعارف (الإنجليزي) رُفِض طلبه وعلق عليه ذلك الإنجليزي الذي أجرى معه المقابلة: Not the type, too clever.. ويترجم ذلك معاوية بقوله: "ومعنى ذلك بالكلام البلدي: "مش العينة المطلوبة. ده بيفهم". ورد ذلك بمقال لمعاوية منشور بالأعمال الكاملة.
فقدّم معاوية لوظائف أخرى بحكومة السودان ولكن كل طلباته رفضت واضطر للعمل في وظائف لا تلائم مؤهلاته ورغباته لفترة قصيرة. فقرر الهجرة إلى مصر في 1930 حيث عمل محرراً ثقافيا بكبرى المجلات الثقافية المصرية الذائعة الصيت آنذاك، وفي فترة وجيزة صار من كبار الكتّاب.
بعد عامين ونصف من العمل المتواصل بمصر عاد في عطلة سنوية إلى السودان في صيف سنة 1933. فساءه ما رأي من حياة الفقر والمرض والبؤس بين عامة الشعب تحت حكم الإنجليز. وعند عودته لعمله بالقاهرة، بدأ كتابة سلسلة مقالاته في نقد الاستعمار الإنجليزي بالصحف والمجلات المصرية، وتصوير أوضاع الناس وبؤس أحوالهم المعيشية، وتفشي الأمية وقلة المدارس وضعف نظام التعليم. وأول هذه المقالات جاء تحت عنوان (ملاحظات عامة) يبدأها بالقول:
"ذهبت إلى السودان بعد غياب عامين ونصف، وكنت أمني النفس في الطريق، أن أرى وطني على خير ما يود الوطني لبلاده، من مظاهر الحياة، ودلائل التقدم وأطراد سبل التحسين والعَمار".
"هذا سوق أم درمان...، بائع القش في مكانه القديم، وكمساري الترام هو هو، بائعو الذرة والتمر كلهم في أمكانهم التي كانوا فيها من عهد الحكومة المهدية. جالسين ينظرون إلى الأفق وليس من بيع أو شراء والسعيد السعيد من ظفر بقوت يومه، رطل من الذرة أو قطعة من اللحم. فالتاجر والمزارع وصغار الصناع كلهم ساخط غاضب، يبيت الطوى ويبكي أولاده جوعاً ولا يستطيع أن يؤخر ما عليه للحكومة من الضرائب المتعددة والعوائد المتنوعة. والمزارع الذي يعمل طيلة يومه تحت وهج الشمس وفتك الملاريا، تراه عظاما نخرة من فتك المرض وضعف التغذية".
أما "الرجل الإنجليزي، فمهما صغرت وظيفته، يحيا وينعم في أرض السودان بآخر ما أعدت الحضارة الأوربية من وسائل الراحة ونواحي الرياضة والتسلية. فهو يسكن في فيلا تحوطها الجنان والخضرة من كل جانب، بها ميدان للتنس وجراج للأتومبيل ومراوح تخفف من وطاة الحر وثلج في أيام الصيف يحيط بالجدران. ويلعب البولو في سهول الرجل الأسود، وله من الخدم والحشم العدد الوفير".
ويختم المقال بالتساؤل: "فما هي الأعمال التي يبرر بها الإنجليز بقاءهم بالسودان؟ أهذه هي رسالة الحضارة الأوربية إلى الوحشية الأفريقية؟ أهي تسخير الرجل الأفريقي طيلة اليوم لينعم الرجل الإنجليزي بكماليات الجسد؟ ألأجل هذا لا يطلبون للشعوب الأفريقية ارتفاع مستوى الحياة؟ ليست المشكلة، بمشكلة إنجلترا نحو السودان، وإنما مشكلة أوربا المستعمِرة نحو مستقبل الجنس البشري كله". انتهى.
وجاء المقال الثاني تحت عنوان (الأهالي بين المرض والصحة) يدحض فيه زعم المستعمرين محاربة الأمراض والسهر على راحة الأهالي، حيث يقول:
"فما أعرف أمة تشقى بالمرض والألم الجسماني مثل ما يشقى السودان. وما أعرف شعباً سرقت منه حيوته ومقدرته على العمل والانتاج مثل الشعب السوداني. فالملاريا والدسنتطاريا والبلهارسيا وخلافها من الأمراض المضعفة للجسم المنهكة للقوى ما زالت تعمل بين جميع أهالي السودان عملها القاتل، وخاصة بين الفلاحين، عمود الأمة الفقري ورجالها العاملين".
ثم يواصل القول: "وقد زرتُ أثناء الصيف الماضي، بعض مدن وقرى النيل الأزرق ومديرية الفونج، فرأيت الفلاح السوداني عن كثب يعمل بصبر عجيب، وهو يكاد من الجوع والمرض لا يستطيع الحراك. وقد رأيت أولاده يسكنون معه في كوخ صغير من القش لا نوافذ له وليس به أي أثاث..، طعامه الذرة المسلوقة وحسب".
"ولقد رأيت بعض الشبان في قرية من قرى مركز سنار، مرضى بالملاريا، والتراكوما، فلما تحدثت إليهم: ألا يمر بكم الدكتور هنا؟ أجابوا بصوت واحد ملىء بالرجاء والاستعطاف: كلِّم المفتش يا جناب الأفندي. أليس عندكم كُتّاب (مدرسة أولية) هنا؟ أجابوا: كان زمان فيه مدرسة هنا. وبعدين شالوها. والعمدة طلبها تاني من المفتش، لكن لسه ما جابوها". انتهى.
وهكذا كان معاوية يقضي عطلته السنوية في تفقد أحوال مواطنيه في الأصقاع النائية، في جنوب النيل الأزرق والفونج. وهذه بالمناسبة عطلته الأولى والأخيرة، إذ لم يمهله المرض العقلي ليعود في عطلته الثانية، لمواصلة مهمته الإنسانية النبيلة.
وتستمر سلسلة مقالات معاوية في نقد سياسات الاستعمار في السودان، فينشر في 17 مارس 1933، مقالاً آخر عن وضع التعليم وعدم حرص المستعمِر على انتشاره، تحت عنوان: )سياسة التعليم في السودان) يقول فيه:
"وإذا استثنينا كلية غردون، وهي المعهد الوحيد للدراسة الثانوية، فإن التعليم الإبتدائي في القطر بأجمعه محصور في عشر مدارس لا يتجاوز طلبتها أكثر من 1200 طالب. والتعليم الأولي من بنين وبنات لا يتجاوز طلابه أكثر من 11 ألف، هذا مع العلم بأن عدد سكان القطر السوداني لا يقل عن 6 ملايين نفس. وقد كان عدد طلبة كلية غردون في عام 1930 نحو 555 طالباً، وخفض العدد هذا العام إلى نحو 400 طالب، وسيخفض إلى 120 طالباً فقط في المستقبل القريب!".
"وإذا عرف القارئ أن ميزانية حكومة السودان، تزيد على أربعة ملايين من الجنيهات، وأن ما يصرف على التعليم، لا يتجاوز 140 ألف جنيه، علم سوء إدارة تلك البلاد". انتهى.
وهذا يقود إلى الحديث عن المقالين، ضمن سلسلة هذه المقالات، اللذين خصصهما معاوية للحديث عن نظام الإدارة الإهلية في السودان، وعن دوافع الإنجليز وراء ادخال هذا النظام بعد ثورة 1924.
المقال الأول بعنوان (الإدارة الأهلية آخر تجربة في سياسة الاستعمار) والثاني بعنوان (الإدارة الأهلية ومسئولية الإنجليز). ويرى معاوية، في المقال الأول، أن غرض الإنجليز من اللجوء إلى هذا النظام، هو قطع الطريق أمام قيام: "حركة قومية مستنيرة يقودها الرأي العام المستنير".
وذلك لأن: "من أكبر المسائل التي تواجه المستعمرين وتقلق بالهم، قيام الوطنيات القومية بعد فترة طويلة أو قصيرة من حكمهم للمستعمرات. ويظهر أن معظم كتاب الإنجليز الذين اشتغلوا في إدارة البلاد الشرقية والأفريقية، على اتفاق بأن عنصر الشباب المتعلم، وفق المناهج الحديثة هو الذي يسبب متاعبهم، فتكثر مراقبته لأعمال الحكومة الأجنبية، وينبه مواطنيه إلى موطن الخطر والاستغلال في سياسة الاستعمار، وبذلك تقوم الحركات القومية، حركات التحرر والاستقلال. ذلك ما حدث في الهند ومصر وغيرهما من البلدان".
لذلك بتطبيقه لنظام الإدارة الأهلية: "يأمن المستعمِر أن كل قبيلة، وكل قرية تقريباً، تساس على حدة، لا علاقة لها بالقبيلة الأخرى إلا الجوار، ولا مشاركة بينهما في الشعور أو الوحدة القومية. وهذا هو النظام الاقطاعي في أبشع صوره. وعلى هذه الصورة يصعب قيام أمة ذات شعور واحد أو مصالح مشتركة". انتهى.
وهكذا كان معاوية مثقفاً عضويا ملتزما بقضايا مجتمعه وهمومه شعبه الرازح تحت الاستعمار الإنجليزي، وكان يقوم بدور تنويري مهم جدا في فضح سياسات الإدارة البريطانية في السودان ويعمل على تسليط الضوء على ما يعانيه عامة الشعب من بؤس وفقر ومرض. وكان منحازاً للحركة العمالية والاتجاهات الاشتراكية العالمية.
لم يكن معاوية "صفويا ولا منفصماً" عن ماضيه ولا عن واقعه الاجتماعي. وقد عاني شظف العيش، وضيق ذات اليد ما عانى، فكان ما يتلقاه من أجر على ما ينشره في المجلات المصرية، لا يكفي لإعاشته ومسكنه. فقد كان يستأجر غرفة واحدة بسطح إحدى البنايات بالقاهرة، ويقتات على الخبز والجبن، الأمر الذي ساهم في إصابته بمرض عقلي سنة 1935 أدخل بسببه مستشفى الأمراض العقلية بالقاهرة، وبعد خروجه من المستشفى عاد إلى السودان، وهو لا يزال يعاني من هذا المرض الذي أودى بحياته في النهاية سنة 1941 وهو في قمة عطائه ومجده الأدبي وريعان شبابه، إذ لم يتجاوز عمره الاثنين والثلاثين عاماً.
المراجع والمصادر:
1- معاوية محمد نور، الأعمال الكاملة، اعداد الرشيد عثمان خالد، دار الخرطوم للنشر، الطبعة الأولى1994
2- محمد عشري الصديق، آراء وخواطر، مقال الأدب القومي، لجنة التاليف والنشر، وزارة الخرطوم، 1969 ص 53 و209
3- محمد أحمد محجوب، نحو الغد، دار البلد، الخرطوم 1999
4- خالد الكد، الأفندية ومفهوم القومية في السودان، مركز عبد الكريم ميرغني، الطبعة الأولى2011 ص 174
5- خضر حمد، مذكرات خضر حمد، مركز عبد الكريم ميرغني، ص 34
6- عبد المنعم عجب الفيا، في الأدب السوداني الحديث، دار نينوى للنشر، سوريا، الطبعة الأولى2011
7- عبد المنعم عجب الفيا، الشعر السوداني الحديث: من مدرسة الإحياء إلى قصيدة النثر، مدارات للنشر، الخرطوم، الطبعة الأولى، 2020
abusara21@gmail.com