مع د. عبد الماجد بوب حول مآلات الوحدو والإنفصال: علي الحاج أول من عرض تقرير المصير على الجنوبيين بإسم الوطني! اتفاقية نيفاشا أعاقت التحول الديمقراطي وكرّست السلطة في أيدي الشريكين تقرير المصير تبنته أحزاب التجمع، ولم تطالب به الأحزاب الجنوبية مصر لم تسدد تكلفة قناة جونقلي، وتتحدث الآن عن دعم الجنوب! وجود قرنق ما كان ليمنع وقوع الانفصال ماذا يضيرنا اذا أقامت "دولة الجنوب" علاقات مع اسرائيل! الجنوبيون لا يسعون للانفصال إرضاءً لأمريكا
***** مع تقارب الخُطى من الوصول للمحطة المفصلية في تاريخ السودان، وتحديد مستقبله بناءً على نتيجة الاستفتاء المزمع قيامه بعد حوالي مائة يومٍ من الآن، ترتفع الأصوات هنا وهناك في حديث لا ينتهي حول مصير الوطن "وحدة أم انفصال"، وما يترتب على ذلك من سيناريوهات محتملة، وما بين الأصوات "القَلِقة و"المُشفِقة" و"المنفلتة" حيال هذا الأمر، تظهر أصوات أخرى هادئة و"رزينة" ومُدركة لمجريات الأحداث، ولا تتحدث إلا بوعي كامل، وقراءة دقيقة لتفاصيل الواقع، وقبل كل ذلك معايشة حقيقية لطبيعة الحياة في الجنوب والشمال على حدٍ سواء.. ومن هؤلاء الكاتب والأكاديمي والسياسي اليساري الدكتور عبد الماجد بوب، الذي يُعد أحد أفضل من يمكن أن يُحدّثك عن تفاصيل وتاريخ وحكاوي العلاقة بين الشمال والجنوب، وتاريخ الإتفاقيات الموقّعة بينهما حرباً وسلماً، وما مؤلَّفه الموسوم بـ "جنوب السودان: جدل الوحدة والانفصال" إلا دليل على ذلك. والرجل أكاديمي حصيف، كان من أوائل الذين انضموا للعمل بجامعة جوبا في عامها الأول، واسهم مع آخرين في تأسيسها، ولعل هذا المدخل تحديداً هو ما جعله قريباً من قضايا ومشاكل الجنوب والجنوبيين. في هذا الحوار "الإسفيري" طرحنا أمام د. بوب عدة تساؤلات حول مآلات الوحدة والانفصال، ورؤيته لقضية تقرير المصير من كافة الجوانب، فجاءت اجاباته وافية وشاملة ومرتبة... حوار: جمال ادريس * كيـف تقرأ المشهد السياسي في الجنوب والشمال فيما تبقّى من وقت حتى الاستفتاء؟ ** أولاً، شكراً جزيلاً على تفضلك باستطلاع آرائي حول القضايا الراهنة. وفيما يتعلق بالمشهد السياسي في الجنوب والشمال لا أضيف جديداً بالتأكيد على أنه في أقصى مراحل التعقيد، وينطوى على نتائج خطيرة على المدى القريب والبعيد، بالنسبة لنا ولمن حولنا في واحدة من أهم بقاع الارض من حيث وفرة المياه والمعادن. المشهد في شمال السودان أكثر مأساوية بسبب تسرب المبادرة شيئاً فشيئا من بين أيدينا، والخوف المشروع مما سيترتب على انفصال جنوب السودان من الاضرار المعنوية للسودانيين، وحدوث فجوة في الدخل القومي الذى يعتمد بنسبة 70% على صادرات النفط. وهنالك خطر الحرب التى لن تكون حرباً أهلية، بل حرباً بين دولتين متأهبتين لحشد ترسانة من أسلحة الدمار، أضف الى ذلك خطرالاضطرابات السياسية والانفجار الاجتماعى المحتمل. * وماذا عن الجنوب؟
** الوضع في الجنوب لا يقل تعقيداً عنه في الشمال. هنالك تحديات سياسية، جسيمة تتطلب من قادة جنوب السودان قدراً من من الحكمة وبُعد النظر في مواجهة أخطر المواقف التي تحدد مصير مواطنيهم في الجنوب ومصير الوطن بكامله. والحركة الشعبية لم تتمكن حتى الآن من حزم أمرها خلف خيار الوحدة او الانفصال. وهذا هو سر تضارب الاشارات التي تنطلق من هنا وهناك. وبسبب ذلك انتقلت المبادرة إلى أيدي أفراد ومجموعات في الهامش السياسي، تسعى إلى الهاب المشاعر "القومية" واستحضار مرارات وتظلمات الماضي لتغليب خيار الانفصال. وفي الجانب الآخر هنالك خطر من ردود أفعال مشابهة من جانب أقلية صغيرة في الهامش السياسي في الشمال تؤجج نيران التطرف والعداء ونزعة الانتقام من أشقائنا الجنوبيين..
* قبل كل شيئ ما الذى أوصلنا إلى خيار تقرير المصير؟
** في حقيقة الأمر منذ مؤتمر جوبا عام (1947) وحتى توقيع اتفاقية أديس وقيام الحركة الشعبية لم يكن مطلب تقرير المصير ضمن أجندة الأحزاب السياسية الجنوبية. وأقصى ما طالبت به هو شكل من أشكال الحكم اللامركزي، وبتحديد أكثر مطلب الحكم الفيدرالي. رفضت الحكومات المدنية والعسكرية المتعاقبة مطلب الحكم الفيدرالي. وربما أغنانا ذلك عن الوقوف في مواجهة خيار تقرير المصير القادم ومآلاته. حزب المؤتمر الوطني على لسان الدكتور علي الحاج عرض للمرة الأولى على فصيل الناصر الذى انشق عن الحركة الشعبية الأم في اجتماع (فرانكفورت 1992) ، قبولهم لمبدأ تقرير المصير. وفي ظل اختلال التوازن العسكري بين الجيش الشعبي بقيادة العقيد جون قرنق، والقوات المسلحة والدفاع الشعبي، طرح الدكتور ريك مشار خلال ندوة في واشنطن على العقيد قرنق الاتفاق على تبني مطلب تقرير المصير. وفي عام 1995 تبنت الأحزاب السياسية والمنظمات المنضوية في التجمع الوطني الديمقراطي ذلك المطلب. وفي يوليو 2002 وقّع الدكتور غازي صلاح الدين عن حكومة السودان والقائد سيلفاكير ميارديت عن الحركة الشعببية على برتكول مشاكوس الذى تضمن اقراراً بحق تقرير المصير. * وماذا عن مقترح الدولة الواحدة بنظامين سياسيين؟
** في عام 1992 كلّفت ادارة الرئيس جورج دبليو بوش مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن باعداد دراسة تهدف لتسوية مشكلة الحرب الاهلية في السودان. اشترك الدكتور فرانسيس دينق ومدير المركز الدكتور جورج ستيفن في صياغة مقترح الدولة الواحدة بنظامين سياسيين. وفيما بعد تم تضمين ذلك المقترح ضمن اتفاقية نيفاشا. وكما ذكر الدكتور فرانسيس دينق كان الهدف من اقتراحهم هو ايجاد وسيلة لاعادة الثقة والتمهيد للوحدة بين مواطنين متساوين في الحقوق.
* هل تعتقد أن موافقة الجانب الحكومي على حق تقرير المصير للجنوب كان خطأً؟
** لا أعتقد ذلك بتاتاً. حق تقرير المصير حق انساني مشروع. والنظرة القديمة التي تبنتها منظمة الوحدة الافريقية في أواسط الستينات الماضية بالحفاظ على الدول الافريقية ضمن حدودها القائمة بعد استقلالها لم تعد مواكبة. والمجتمع الدولي انتقل إلى مرحلة أرقى لاقرار العدالة وحماية حقوق الاقليات في الكيانات القومية الكبيرة. واذا بدا للبعض في السودان بأن تضمين حق تقرير المصير في اتفاقية السلام الشامل كان خطأً ففي ذلك مجافاة للحقيقة وعدم تقدير للضرورة السياسية التى أملتها طبيعة العلاقة القائمة آنذاك بين الجنوب والشمال. والمؤتمر الوطني كان أعجل من الحركة الشعبية عندما ألمح اليهم بامكانية قبول مطلب تقرير المصير. وفي نظري، الخطأ لم يكن في الاقرار بحق مشروع لمواطني الجنوب وانما الخطأ والحسرة تبدو من سوء التدبير في سياسة المؤتمر الوطني وسعيه لتحويل اتفاقية نيفاشا لاحكام قبضته على السلطة. * كيف تنظر لدعوة وزير الخارجية الأسبق د. حسين أبوصالح لرئيس الجمهورية بابطال قرار الاستفتاء بإعتباره سيؤدي إلى تفتيت السودان؟
** الدعوة لابطال قرار الاستفتاء لا تنم عن حكمة أو خبرة سياسية، ولا يعقل أن تصدر عن الدكتور حسين أبوصالح الذى تقلّب في المناصب المهنية والحزبية والوزارية والتشريعية. ومثل هذا القول الذي يُلقى على عواهنه يماثل الدعوة لفتح أبوب جهنم على الشمال والجنوب. واتفاقية نيفاشا قبل كل شيىء محمية بضمانات عالمية لا سبيل للتحايل عليها، وما من عاقل يدعو للتنصل منها بدمٍ بارد. وإبرام الاتفاقيات على رؤوس الأشهاد ليس أمراً عبثياً. وكفانا ما أضر بوحدتنا من نقض للعهود.
* دعنا نسأل عن قراءتك لمواطن القوة والضعف في اتفاقية نيفاشا؟
** اتمام الاتفاقية انجاز كبير مافي ذلك شك. فقد أدّت إلى وقف الحرب الاهلية وهدر الدماء بين السودانيين. وهيّأت فرصة لاستخلاص التجارب السابقة في علاقة الجنوب والشمال، ولاستعادة الثقة في امكانية بناء الدولة الوطنية على أساس المساواة في الحقوق والواجبات، والتداول السلمي للسلطة. بعض أوجه القصور تمثلت في حصر الاتفاقية بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية، وعزل القوى السياسية التي تمثل ضماناً شعبياً لصونها، بحسبانها أهم وثيقة دستورية في تاريخنا منذ الاستقلال. كذلك اثبتت التجربة بأن الفترة الانتقالية غير كافية لإحداث التحولات الدستورية والسياسية التي تهيىء المناخ لاستدامة الوحدة. وربما يجادل البعض بغير ذلك. كما أن المفاوضين عن المؤتمر الوطني والحركة الشعبية عكفوا على صياغة بعض بنود الاتفاقية بتفاصيل دقيقة بينما لم تجد مسائل أخرى قدرها من الاهتمام. خاصة مهمة اعادة بناء هياكل الدولة وأجهزتها المدنية والعسكرية والقضائية. أضف إلى ذلك ما تضمنته الاتفاقية من اعلاء الاتفاقية على الدستور وفي ذلك خلل دستوري مريع. كما أن الطرفين اتفقا على اجازة الدستور بواسطة البرلمان الذى يهيمن عليه حزب المؤتمر الوطني، مما أضر بعملية التحول الديمقراطي وأدى إلى تكريس السلطة في الشمال في يد المؤتمر الوطني وفي جنوب السودان بين يدى الحركة الشعبية. والحديث قد يطول في أمر ما عجزت عن توفيره اتفاقية نيفاشا.
* تُرى كيف كان سيكون الحال لو أن الدكتور جون قرنق كان عائشاً بيننا الآن؟
** لا يقلل حديثي هذا من محبتي لدكتور جون قرنق وتقديري لحكمته ونظرته الثاقبة ودوره في تحديد مسار الحركة. إلا أننى لا استطيع أن أجزم بأن غيابه هو السبب فيما آلت إليه الاتفاقية وفيما يتعلق باحتمالات انفصال الجنوب. ولا أعتقد بأن الفريق سيلفاكير وباقان وياسر وأتيم ولينو ورفقائهم أقل وطنية. ولكن "ديالكتيك الأشياء حملهم إلى الموقف الذى استقروا عليه. فلننظر في الأسباب الموضوعية التى رجّحت الكفة لصالح الانفصال. وبعض الأفراد المنفلتين في صفوف المؤتمر الوطني لايتحرجون من القول "إننا لانريد وحدة قرنق". ولعلمك دكتور جون قرنق نفسه في خطابه الاحتفالي في نيفاشا لم يستبعد احتمال الانفصال اذا لم تتوفر مقومات الوحدة العادلة. * الحديث المتكرر عن "الوحدة الجاذبة" والتحركات الحكومية الأخيرة لادراكها؟ هل ترى بأنها ذات جدوى؟ ولماذا في رأيك جاءت متأخرة؟
** لماذ جاءت متأخرة، هذا شيىء علمه عند الحكومة والمؤتمر الوطني. أما الاعلانات التي انطلقت مؤخراً عن عزم نائب الرئيس على الاقامة الدائمة في الجنوب لتغليب خيار الوحدة، واتجاه الحكومة لرصد 500 مليون دولار لاعمار الجنوب فلا أعتقد أن أحداً في الشمال أو الجنوب يأخذها على محمل الجد. واذا جاز لى أن أفكر بصوت مسموع في شيىء آخر فالمسؤولية التاريخية الآن تقع على عاتق رئيس الجمهورية والحزب الحاكم. والفرصة أمامه لبناء مجده ودخول التاريخ كأحد القادة الوطنيين الكبار من أمثال نيلسون مانديلا الذى واجه واقعاً أعقد من واقع بلادنا، وكذلك محمد علي جناح، وغاندي وتشارلس دي غول، وجوزيف ستالين، الذين انتشلوا أوطانهم من حافة الهاوية والتمزق إلى بر الأمان. وما يتطلع اليه سواد الناس أن ينزع عنه عباءة المؤتمر الوطنى ويرتدى جلباب الوطن الواسع. ويخرج على الشعب الذى فت في عضده اليأس بمبادرة ولا ككل المبادرات السابقة، أكثر رحابة من برنامج المؤتمر الوطني وأكثر جرأة في السعي لاحداث اختراق سياسي لايجاد قاسم مشترك مع الحركة الشعبية وأحزاب المعارضة وينال مساندة أوسع من فئات الشعب. فمطالب القوى السياسية المتنافرة مرصودة ومعلومة، والعقل الجمعي السودانى قادر على ابتداع الحلول والمساومة التي تطمئِن كل الأطراف وتنقل الوطن من حافة اليأس والتمزق إلى رحاب الوحدة والمشاركة المتساوية.
* قلت من قبل "إن السودان سيعاني في حالتي الوحدة والانفصال"، كيف ذلك؟
** في حالة الوحدة سيكون في مقدمة همومنا اصلاح النظام السياسي القائم. فقد سقطت الانظمة الشمولية في كل العالم وحزب المؤتمر الوطني لازال متمسكاً بالاساليب التي تخطاها الزمن. هذا هو عصر الحريات وحقوق الانسان والاقليات ومهمة بناء الدولة القومية التي تتسع للجميع وتنبذ الهيمنة والاستعلاء، لايهمنا من أي اناء خرجت. وإذا حدث الانفصال فان أسوأ السيناريوهات المحتملة هى: العداء والاضطهاد والحرب.
* يقطع قادة الحركة بأنهم مع الوحدة. لكن وحدتهم تتقاطع مع وحدة المؤتمر الوطني، في رأيك كيف يمكن تجاوز مسألة الشريعة الاسلامية؟
** طبعاً الاختلاف ليس في الأهداف إذا صدقت النوايا لتنفيذ اتفاقية نيفاشا. ولكن الاختلاف الحقيقي في الأهداف غير المعلنة والوسائل. وهذا حديث شرحه سيطول. وعن مسألة الشريعة فلا أعتقد أن الحركة الشعبية نفسها تسعى لابعادها عن حياة الناس. وجون قرنق نفسه ظل يردد بأن الاسلام واحد من أهم مكونات الشخصية السودانية. المهم في الأمر أن الاسلام هو دين الأغلبية في هذا البلد وهذا هو خيارهم ولن يتزحزحوا عنه. كما أن هنالك مجموعات أخرى مِن أولي الديانات السماوية والمعتقدات المحلية. هؤلاء بدورهم لن يتزحزحوا عن قناعاتهم. وليس هنالك مسألة أغلبية أو أقلية عندما يتعلق الأمر بالمكونات الروحية للفرد. ولذلك لا بد من ايجاد مخرج يحفظ لكل طرف حقه في التوسل لله وممارسة شعائرهم كيفما يشاء وبدون ضيم أو انقاص من حقوقهم المدنية والسياسية. فالدين لله، والوطن للجميع!
* هل يمكن أن ترسم لنا سيناريو لما يمكن ان يحدث في يناير 2011؟ وماهى توقعاتك لنتيجة التصويت؟
** الانطباع السائد بأن اغلبية المواطنين الجنوبيين سيصوتون لصالح الانفصال. أما عن النتائج والنسب فلا علم لي بذلك. وهذا عمل تخصصي تقوم به مراكز الاستطلاع وهى أدرى بتقنياته. فلماذا لا تولي صحيفة "الأحداث" اهتماماً بهذا النوع من العمل الصحفي لقياس آراء المواطنين في شتى الامور؟
* من خلال متابعتك للاعلام والسياسة الغربية كيف ينظر هؤلاء لما بعد الاستفتاء؟ وأى الخيارين تؤيد الاغلبية في الغرب، والولايات المتحدة تحديداً؟
** عن الولايات المتحدة تحديداً. لايخفى على أحد أن لها مصالح قومية واستراتيجيات تتوسل بها. والسودان لاسباب كثيرة يقع في دائرة اهتمامهم. ولا أعتقد أن من مصلحة أمريكا أن ترى السودان يتفتت إلى دويلات ويتحول إلى عامل زعزعة للدول من حوله وللعالم كله. واتفاقية نيفاشا التى نتحدث عنها ما كان لها أن تنجز بدون التدخل المباشر للولايات المتحدة. وهى الآن مشغولة بأمر الدول الفاشلة في الصومال وافغانستان اللتان تحولتا إلى بؤر للارهاب في العالم وزعزعة استقرار جيرانهم. ورأس المال عموماً ينأى بنفسه عن مواقع الاضطرابات وعدم الاستقرار. فاذا عاد الاستقرار للسودان فان ذلك يصب في مصلحة السودانيين أنفسهم ويعيد بلادنا الى حظيرة الدول الناشطة في مجرى التطور في العالم. واذا حدث الانفصال في جنوب السودان فلن يكون ذلك ارضاءً للولايات المتحدة وانما تلبية لرغبة السواد الاعظم من مواطني الجنوب. بالطبع هناك مجموعات في السودان تسعى لتحميل الولايات المتحدة كل أخطاء قياداتنا السياسية. فعلى سبيل المثال ماذا قالت هيلري كلينتون مما يجلب عليها غضب رئيس الدبلوماسية السودانية علي كرتي. هل يا تُرى قرأ السيد الوزير نفس التصريح الذى اطلعنا عليه. فقد كررت هيلري حديثاً معلوماً للقاصي والداني بأن السودان تحول إلى قنبلة موقوته لا أحد يعلم تبعاتها. وتنبأت باندلاع الحرب بسبب فقدان الشمال لنحو 80% من مصدر دخله القومي، وحثّت الحركة الشعبية على تقديم بعض التنازلات للشمال. فأين موضع الخلاف فيما قالت. وليت السيد الوزير يستفسرها عن فحوى حديثها في لقائهم المرتقب في الرابع والعشرين من هذا الشهر. وربما يهيىء له الاجتماع مع الرئيس براك أوباما فرصة مواتية للوقوف على موقف أمريكا حيال تقرير مصير الجنوب. ذلك أجدى في العمل الدبلوماسي من اطلاق التصريحات غير الدبلوماسية.
* الحديث عن "سيطرة اسرائيلية" على الجنوب في حال انفصاله، هل ترى بأنه مجرد "اوهام" أم أن هنالك بالفعل أطماع اسرائيلية للتحكم في مياه النيل؟
** هنالك دول كثيرة لها أطماع وتطلعات للسيطرة على مصادر المياه والمعادن في جنوب السودان ومن بينها اسرائيل. وحكومة الجنوب إذا حدث الانفصال أدرى بمصالح شعبها. ومسألة اسرائيل هذه لم تكن غائبة من بين حسابات قياداتنا السياسية وهي تتأمل في مآلات الانفصال. ومن ناحية أخرى ماذا يضيرنا اذا اقامت دولة الجنوب علاقات مع اسرائيل أو غيرها من دول العالم. فها هي دول عربية واسلامية ملء السمع والبصر تقيم علاقات خفية ومعلنة مع اسرائيل! فمن الأجدى أن نركّز انظارنا على توسيع فرص التعاون المشترك مع أشقائنا في دولة الجنوب عند قيامها، ونمتّن علاقات حسن الجوار والتعاون الاقتصادي والتعايش جنباً إلى جنب، وعندها سنقطع الطريق على أعدائهم وأعدائنا.
* في حال وقوع الانفصال، هل ترى بأن الجنوبيين قادرون على ادارة دولتهم؟ ** ولم لا ؟! يا تُرى هل نجح الشماليون في ادارة دولتهم وقد ورثنا عن الانجليز قطاعاً عاماً في تمام الفعالية، وقضاء مستقل وجيش وطني حارب بعض قادته في حربين عالميتين (الفريق ابراهيم عبود)، وخدمة مدنية منجزة تخرج قادتها من كمبرد وبرايتون واكسفورد. فماذا حل بهذه المرافق حتى تدحرجنا إلى ذيل قائمة الدول "الفاشلة" في معية الصومال وافغانستان. فماذا يضير دولة جنوب السودان إذا حدث الانفصال أن تكون في المرتبة الثالثة او الخامسة.
* قضايا ما بعد الاستفتاء لم يتم حسمها بين الشريكين بشكل كامل، في رأيك ماهو الوضع الأمثل لمسألة الجنسية، ووضع الجنوبيين في الشمال؟
** هنالك قضايا لا معدى عن حسمها قبل اجراء الاستفتاء، مثل ترسيم الحدود ومصادر المياه والنفط والجنسية. وبالامكان تأجيل النظر في بعض المسائل الأخرى مثل تجارة الحدود والعملة والديون الخ. وقضية أبيى هى بحق قنبلة موقوته اذا لم يتم تلافيها!
* هل تعتقد بأن منبر "السلام العادل" – الداعم الأكبر و "العلنى" للانفصال – وصحيفته، قد لعب دوراً في تنفير الجنوبيين وزهدهم في الوحدة مع الشمال؟
** لا أعتقد من العدل في شيىء تحميل كل مسؤولية "تنفير الجنوبيين" من الوحدة لمنبر السلام العادل. ولا أرى ما يبرر الحجر على صحيفتهم. ولم تكن مسئوليتهم أكبر مما تقوم به هيئة علماء السودان التي افتَت بتحريم الاستفتاء. وذهبت إلى استنفارأفراد وهيئات غير سودانية لهذا الغرض، وربما كانوا أحق بالحجر لاقحامهم الدين في شئوننا الدنيوية.
* لأى مدى يمكن أن يشجع منح حق تقرير المصير للجنوب، ومن ثم انفصاله، بقية أقاليم السودان على المطالبة بذات الحق، دارفور مثلاً؟
** كل شيىء وارد طبعاً اذا لم نستخلص الدروس من تجربة الشمال والجنوب قبل فوات الأوان. فحق تقرير المصير لم يكن ضمن مطالب الحركة السياسية في جنوب السودان لأمد طويل. وكذلك الحال بالنسبة للحركات المسلحة في دارفور ومناطق أخرى، فماذا يحول بينها ومطلب تقرير المصير اذا لم يتحقق السلام العادل وتكافؤ الفرص في التنمية وادارة شئون البلاد.
* كيف تنظر للدعم المصرى الكبير لحكومة الجنوب ؟ هل يصب فى دعم خيار الوحدة، أم هو تحسب وخوف من وقوع الانفصال وتغليب لسياسة المصلحة العامة؟
** أى دعم تقدمه مصر أو دول أخرى لدولة الجنوب بعد قيامها جدير بالاستحسان والترحيب. فمن مصلحة السودان أن تنهض إلى جواره دولة قوية تملك زمام امرها. ولاتتحول الى مصدر للمتاعب الأمنية وأخطار البيئة والاضرار باقتصادنا الوطني الخ. ومصر لها مصالح مشروعة تسعى لتحقيقها بوسائل شتّى. ولكن اخوتنا المصريين يطلقون وعوداً ليس باستطاعتهم الايفاء بها. ويكفي أنهم لم يسددوا نصيبهم من تكلفة حفر قناة جونقلي بينما دولة السودان ضعيفة الحال قد وفت التزامها استقطاعاً من الجلد. أما عن موقف مصر من مسألة انفصال جنوب السودان فهو حقيقة موقف مضطرب. ويعملون بمبدأ "ليس هنالك صداقات دائمة. ولكن هنالك مصالح مشتركة". وهم لا يتحرجون عن قول ذلك صراحة. فوكيلة وزارة الخارجية المصرية كانت أول من أعلن على رؤوس الاشهاد بأن مصر "لها علاقات كويسة في جنوب السودان ولن تتأثر في حالة الانفصال". بينما أكد مسئول الأمن والمخابرات اللواء عمر سليمان بأنهم أحرص الناس على وحدة السودان! المهم في هذه المناسبة لمصر الحق في التوسل لمصالحها. ولكن العلاقات الثنائية بين بلدينا تحتاج إلى مراجعة ومكاشفة صريحة وجريئة. وهذ أجدى لهم ولنا وسوف تظل علاقات مصر ببلادنا هي حجر الزاوية في علاقاتها بافريقيا.